شكلت الأحزاب السياسية الكردية في معظم الاستحقاقات الانتخابية التركية خلال السنوات الأخيرة، عامل دعم وتحفيز لأحزاب علمانية ويسارية محلية، وبشكل أقل لأحزاب قومية غير متشددة، على عكس الأحزاب اليمينية التي تعادي النزعة القومية الكردية، وتتصدى لتمددها في المشهد العام، بل وفي مناطق نفوذها نفسه، مثل ديار بكر وأورفا وماردين وهكاري وسيرت وشرناق وباتمان.
قبل الانتخابات البلدية التركية المرتقبة في 31 مارس/آذار المقبل، تكشر الأحزاب السياسية الكردية عن أنيابها، وهي تخاطب خصومها وحلفائها السابقين على السواء: “لسنا احتياطي – سياسي وانتخابي – لأحد.. ولسنا مجموعة إسعافات أولية لأحزاب أخرى ترغب في المنافسة على مقاعد الانتخابات البلدية في المدن الكبرى وغيرها، اعتمادًا على الصوت الكردي، دون تحقيق مطالبنا”.
لا تنفصل هذه اللهجة عن مضمون رسالة سابقة، بعث بها القيادي الكردي صلاح الدين دميرطاش، المسجون على ذمة قضايا جنائية، منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي عندما قال لأحزاب المعارضة، عبر منصة “X” من خلال محاميه، عن الانتخابات البلدية المقبلة: “لا بد من وضع مطالب حزب المساواة والديمقراطية الشعبية بعين الاعتبار”.
ألقى دميرطاش بالكرة في ملعب المعارضة، بقوله: “ننتظر منهم تحديد طريقة التعامل قبل حسم قرار الانتخابات البلدية. سأكتفي بمتابعة التطورات، لكن سأتدخل إذا احتاج الحزب لذلك”، ما يشكل توجيهًا لكوادر وأعضاء حزبه السابق “الشعوب الديمقراطي”، الذين أصبحوا الكتلة الأهم في حزب المساواة والديمقراطية الشعبية، بأغلبيته الكردية.
قبل أن يفيق الرأي العام المحلي، من اللهجة السياسية المباشرة للأكراد، دفع حزب المساواة والديمقراطية اثنين من عناصره لرئاسة بلدية إسطنبول – النائبة ميرال دنيس بيستاس، والبرلماني السابق، مراد تشيبني – ونفت زوجة صلاح الدين دميرطاش – باشاك – الترشح في إسطنبول، لكن الحزب الكردي يتهم حاليًّا بـ”بتفتيت الأصوات، ومن ثم تسهيل الفوز المرتقب لمرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم”.
ردًا على اتهامه بذلك، قالت قيادات في المساواة والديمقراطية الشعبية عبر تصريحات متطابقة: “ننصاع لقواعدنا التصويتية، بضرورة تقديم مرشحين في كل البلديات التي لا نتحالف فيها مع أحزاب أخرى”، لا سيما أن الحزب لم يقم بأي تحالفات انتخابية، كونه يشترط “التحالفات العلنية، لا السرية”.
الأحزاب الكردية
تكثر الأحزاب الكردية نتيجة تعدد القوميات والعشائر والخلافات، مع تواضع الخبرة السياسية الكردية. ومنذ عام 1965 عرفت تركيا: الحزب الديمقراطي الكردستاني – بدأ إقطاعي وانتهى يساري -، وحزب عمال كردستان الذي تعرض لانشقاقات متلاحقة، والحزب الاشتراكي الكردستاني، لكن ارتبط الملف الكردي بنشاط حزب العمال الكردستاني، أكبر كيان كردي مسلح منذ عام 1979.
خلال عام 2012، تعددت أسماء الأحزاب الكردية في تركيا، كان أشهرها حزب الشعوب الديمقراطي، أكبر تجمع سياسي كردي، وثالث كتلة نيابية في برلمان 2018، بعدما انضم إليه نواب حزب المساواة والديمقراطية الشعبية الذي تأسس عام 2008 في “ديار بكر” كوريث لحزب المجتمع الديمقراطي الذي تعرض للحظر القانوني، لتقاطعه مع قوى وتيارات كردية انفصالية.
يعد حزب الشعوب الديمقراطي أكبر كيان سياسي كردي، منذ تأسيسه عام 2012، وبحكم استيعابه لأحزاب وكيانات عدة – سياسية يسارية وقومية كردية – وكانت المشاركة الأولى له في انتخابات المحليات عام 2014، ممثلًا للأكراد، جنبًا إلى جنب مع الحزب الديمقراطي التقدمي، وحقق الحزبان نسبة 6.2%، من إجمالي الأصوات التي شاركت في الانتخابات.
في الانتخابات العامة الصيف الماضي، لم يكن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، ضمن قائمة الأحزاب الـ26 المشاركة في الاستحقاق الرئاسي – البرلماني التركي، خوفًا من الإغلاق بسبب اتهامه بالتقاطع مع حزب العمال الكردستاني المحظور، لذا خاص الحزب الانتخابات تحت مظلة حزب “اليسار الأخضر” الذي كان هو الآخر – مع أحزاب كردية – ضمن تحالف “العمل والحرية”.
ضم تحالف “العمل والحرية” الذي تأسس في 25 أغسطس/آب 2022، أحزاب: الشعوب الديمقراطي، واليسار الأخضر، والعمال التركي، والعمل، والحركة العمالية، والحرية المجتمعية، واتحاد البرلمان الاشتراكي، مدعومًا بقواعده التصويتية في مناطق شرق وجنوب شرق تركيا، وكتلة أخرى في الخارج، لا سيما ألمانيا، وانحاز في انتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة، لمرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو.
منذ 7 يونيو/حزيران 2021، تنظر المحكمة الدستورية التركية، اتهام حزب الشعوب الديمقراطي بـ”دعم الإرهاب وضرورة منع الكثير من أعضاء الحزب من ممارسة العمل السياسي، فيما رفض الحزب – ذو الأغلبية الكردية – التقدم بـ”دفاع شفهي” في أبريل/نيسان الماضي، لتوضيح موقفه تجاه الاتهامات التي تطارده وهددت مسيرته السياسية في المشهد العام التركي.
يضم “الشعوب الديمقراطي” ليبراليين واشتراكيين ومتدينين وعرقيات وأقليات تركية، ومنذ تأسيسه عام 2012، أصبح الجناح السياسي لـ”المؤتمر الديمقراطي الشعبي” المكون من كيانات وحركات يسارية في تركيا، كما يمد الجسور مع “الاشتراكيين الأوروبيين” والمنظمة الأممية الاشتراكية الدولية، التي تأسست بمدينة هامبورغ الألمانية، كمظلة للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، العمالية، والاشتراكية.
بعد عامين من تأسيسه عام 2012، حقق حزب الشعوب الديمقراطي نتيجة كبيرة في الانتخابات البرلمانية التركية، صيف عام 2015، بحصوله على 80 مقعدًا – تعادل 13.1% – تراجعت إلى 59 مقعدًا، عقب إعادة الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، ارتفعت إلى 67 مقعدًا في انتخابات عام 2018، تراجعت مجددًا إلى 62 مقعدًا في انتخابات مايو/أيار الماضي.
قبل انتهاء عام 2023، بادر حزب “اليسار الأخضر” بتغيير اسمه إلى “المساواة والديمقراطية الشعبية” خشية الحظر، رغم أن خطوة الغلق ليست سهلة، في ظل ضغوط دولية لدعم الحزب الذي سيستغل أي قرار سلبي في اتهام السلطات التركية بـ”انتهاك الحق في حرية التعبير، وتكوين الجمعيات، وإضعاف قدرة الناس على المشاركة في تسيير الشؤون العامة في تركيا”، كما يروج في دوائره الداخلية.
مع ذلك، تطارد المخاوف حزب الشعوب الديمقراطي، كون قرار الحظر يعني تجميد نشاطه، وقطع المساعدات المالية الحكومية عنه، لذا كان ترشيح شخصيات تابعة للحزب وموالية له وشخصيات مستقلة على قوائم “اليسار الأخضر” في الانتخابات الماضية، في ظل ما يمكن وصفه بعمليات التحايل السياسي من الأحزاب التركية على قرارات الجهات الرسمية المعنية في تركيا.
أقدم على ذلك أكثر من مرة، ففي عام 2015، عندما انقسم تحالف حزبي “الشعوب الديمقراطي” و”السلام والديمقراطية” إلى حزبين: “الشعوب الديمقراطي” لخوض المنافسات السياسية على المستوى العام، و”الأقاليم الديمقراطي” لخوض انتخابات البلديات، كأحد أشكال توزيع الأدوار.
قوة الأكراد
خلال السنوات الـ5 الماضية، يمكن التعامل مع القوة السياسية للأحزاب والكيانات ذات الأغلبية الكردية، في الانتخابات التركية، وفق مرحلتين: الأولى عام 2019، عندما أسهم دعمها في ترجيح كفة المعارضة بقيادة حزب “الشعب الجمهوري” والفوز برئاسة بلديات رئيسية في البلاد كإسطنبول وأنقرة وإزمير وبلديات أخرى في الجنوب التركي، ذات أغلبية كردية.
المرحلة الثانية، تبدى فيها تواضع دور الأحزاب الكردية، كما في انتخابات مايو/أيار الماضي، من خلال مشاركة تحالف “العمل والحرية” والمكِون الأكبر فيه – الشعوب الديمقراطي – حيث لم ينجح في “قلب الموازين” لصالح المعارضة، كما توقعت الاستطلاعات السابقة، بل تراجعت مقاعده البرلمانية بصورة واضحة. وإجمالًا، حقق تحالف الشعب الحاكم 321 مقعدًا، مقابل 213 للمعارضة.
المبالغات في تقدير القوة التصويتية للأحزاب الكردية، تشير إلى أنهم نحو 20% من إجمالي الناخبين الأتراك – أكثر من 64 مليون ناخب، في الداخل والخارج – ومع ذلك، فإجمالي الأصوات التي حصل عليها مرشحوهم، لم تتجاوز الـ4 ملايين و600 ألف صوت، تعادل 9%، مقابل حصولهم في انتخابات عام 2018 على 5 ملايين و868 ألف صوت، تعادل 12%.
تأثرت الكتلة التصويتية الكردية بمتغيرات كثيرة في الداخل التركي، خلال السنوات الـ10 الأخيرة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، بل وتحولات إقليمية عززت مكانة حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، في مواجهة خصومه السياسيين، خاصة مع تبنيه نزعة قومية محافظة، تجمع حوله المريدين والأنصار، فيما تفقد أحزاب منافسة مساحات كبيرة، نتيجة الخلافات والصراعات الداخلية.
نجح الحزب الحاكم في اختراق الكتلة التصويتية الصلبة للأكراد، سواء بالتحالف المباشر مع حزب “هدى بار” الكردي، ذي التوجه الإسلامي، أم من خلال اقتناع تجمعات انتخابية كردية، بما يطرحه حزب “العدالة والتنمية” الذي كان الأوفر حظًا – بعد الأحزاب الكردية التقليدية، كاليسار الأخضر – في الحصول على أصوات كبيرة في دوائر الجنوب التركي.
يحظى أردوغان بتأييد نسبي بين الأكراد المحافظين، خاصة الأغلبية التي تعارض نهج حزب العمال الكردستاني، والمنتقدة لممارسات حزب الشعوب الديمقراطي، ويواصل الرئيس التركي توسيع علاقاته مع المكونات السياسية والاجتماعية الكردية، الفاعلة، ومد مظلة التنمية الشاملة وخدمات البنية التحتية وإعادة الإعمار لمناطق التمركز الكردي، على عكس توجهات حليفه، حزب “الحركة القوميَّة”.
وأثرت الحملة المضادة لحزب الشعوب الديمقراطي التي تربط بينه وبين حزب العمال الكردستاني – المحظور – على شعبيته النسبية، وقواعد التصويتية، وبالتالي مقاعده الانتخابية البرلمانية، وتؤشر لحظوظه المرتقبة في الانتخابات البلدية المقبلة، خاصة مع اتهام رؤساء بلديات، كانوا محسوبين على الحزب منذ انتخابات عام 2019، بـ”دعم الإرهاب”.
يتفهم حزب الشعب الجمهوري، كزعيم للمعارضة التركية، التحديات التي يوجهها حزب “الشعوب الديمقراطي” وكل الأحزاب المتحالفة معه تحت لافتة “العمل والحرية” في الانتخابات العامة، الصيف الماضي، لذا لم يدخل في شراكة رسمية مع الأحزاب الكردية، مكتفيًا بـ”تنسيق سري” على المستوى الثنائي، وليس على مستوى تحالف “الأمة المعارض” الذي تعارض بعض مكوناته – كحزب الجيد – الأحزاب الكردية.
المطالب الكردية
خلال العقود الماضية، ظلت الأحزاب المتحالفة، غالبًا، بشكل “غير مباشر” مع الأكراد، تطلق الوعود للحصول على أصوات الجنوب، كما في حالة حزب الشعب الجمهوري، ولاحقًا تحالف “الأمة” المعارض، بهدف دغدغة مشاعر الأكراد، بطرح ملف “الهوية” كقضايا سياسية واقتصادية وحقوقية وعمالية، يتبناها حزب “اليسار الأخضر” وملاحظات على الأداء الحكومي والبرلماني.
وتتوافق العناوين العريضة التي كان يطرحها حزب الشعب الجمهوري، وتحالف “الأمة” المعارض مع بعض ما تطالب به الأحزاب الكردية التركية “استعادة النظام البرلماني، تعزيز العدالة في توزيع الخير العام والقوة الوطنية والمساواة بين مختلف المواطنين بغض النظر عن هوياتهم العرقية واللغوية، وزيادة الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان ومنع إلغاء الإدارات المحلية والبلدية لأسباب سياسية”.
لكن حزب “المساواة والديمقراطية” أعلن، منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي “الوقوف ضد كل طرف يتجنب الحل الديمقراطي لمشكلات أكراد تركيا” وأنه “سيركز على النضال المشترك في غرب تركيا، بهدف استرداد البلديات في الانتخابات البلدية. سنفوز ببلديات وأحياء عدة. خلق الأساس للتوافق الحضري الذي سيبني النضال المشترك من خلال التحالفات المناسبة”.
خلال زيارته للحزب الكردي، بادر رئيس “الشعب الجمهوري” أوزغور أوزال، ليس فقط لتنسيق المواقف في بلديتي: إسطنبول وأنقرة وإزمير، بل لمناقشة الوضع في الولايات ذات الأغلبية الكردية، جنوب وشرقي البلاد، ووجود ملايين الأصوات الكردية في كبريات المدن التركية، قائلًا: “لا نفعل شيئًا في السر، سبق أن زرت الحزب، وهم يأتون لزيارتنا، ليس لدينا ما نخفيه”.
وقبل نهاية العام الماضي، رفض “الشعب الجمهوري” التوقيع على الإعلان المشترك الصادر عن البرلمان لـ”إدانة الإرهاب”، بعد استشهاد جنود أتراك خلال مواجهات حدودية مع عناصر حزب العمال الكردستاني المحظور، رغم توقيع أحزاب شهيرة في المشهد السياسي التركي، في السلطة والمعارضة، على البيان، ومؤازرة الجهود التي تقوم بها القوات المسلحة التركية، في مجابهة الأنشطة الإرهابية.
لكن “الشعب الجمهوري” أكد أنه “أوضح موقفه كتابة في البرلمان، بما يؤكد إدانة للإرهاب”، مفرقًا بين حزب “الديمقراطية والمساواة” و”العمال الكردستاني”، لكن موقف أوزال لم يكن محل ترحيب من شريحة كبيرة، محسوبة على القواعد التصويتية الكردية لحزب الديمقراطية والمساواة بسبب انتقادات زعيم حزب الشعب الجمهوري، لعبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني.
ويدعم حزب الشعب الجمهوري منع إغلاق حزب الشعوب الديمقراطي، والتخلي عن نظام الوصي على بعض البلديات (ذات الأغلبية الكردية التي تم عزل رؤسائها المرتبطين بحزب العمال الكردستاني)، لكن رئيسة حزب الجيد ميرال إكشينار (ذات الخلفية القومية) تعد من جملة “المتحفظين” على مد الجسور مع الأكراد، حتى إن كانت لمواءمات سياسية أو حسابات انتخابية.
اتجاهات الأكراد
تتراوح التقديرات بشأن القوة التصويتية للناخبين الأكراد في تركيا، ما بين 15 إلى 20% من إجمالي عدد الناخبين في عموم البلاد، وتتمركز النسب الأكبر من الكتلة التصويتية في نحو 14 محافظة ذات أغلبية كردية جنوب شرق تركيا، وفي تجمعات كردية بالمدن الكبرى، علمًا بأن نسبة من هذه الكتلة الكردية تصوت لحزب العدالة والتنمية، وأحزاب أخرى محسوبة على تحالف الشعب الحاكم.
ثمة متغيرات كثيرة ستؤثر على اتجاهات التصويت في الانتخابات البلدية المقبلة، وتعاطي التجمعات الكردية معها، سواء الملتزمة بما تقرره الأحزاب السياسية الكردية أم التي أعلنت إحجامها عن التصويت، أم الشريحة الثالثة التي لن تلتزم بالتحالفات الحزبية التقليدية، وستختار المرشح الأنسب، وفي ضوء هذه المستجدات، شديدة الحساسية، تكثر رهانات الأحزاب المتنافسة على الأصوات الكردية.
أيضًا، فإن عدم وجود تحالفات بارزة بين أحزاب المعارضة التركية، سيكون لها دور كبير في اتجاهات الناخبين الأتراك، على عكس التناقضات المترتبة على بعض التحالفات، كما في الانتخابات العامة الماضية، فرغم التوافق النسبي بين “الشعوب الديمقراطي” و”الشعب الجمهوري”، كان هناك تنافر واضح بين الأكراد، وحزب “الجيد”، كمكون مهم في تحالف الأمة.
بمراجعة العلاقات بين الأكراد وأحزاب الحركة الإسلامية التركية، منذ عهد الراحل نجم الدين أربكان، مطلع السبعينيات من القرن الماضي – السلامة والرفاه والفضيلة – يتبدى حجم الاهتمام بملف الأكراد، وبعدما كان الحديث خافتًا عن الحقوق القومية، اهتم حزب العدالة والتنمية، منذ تأسيسه عام 2001، بتعزيز الملف، كجزء من تعهدات الحزب الحاكم بالمصالحة الداخلية.
لم تتوقف جهود أردوغان، منذ زيارته الشهيرة، لـ”ديار بكر” عام 2005، وتنديده بسياسات رسمية سابقة ضد الأكراد، وتعهداته بـ”صفحة جديدة، والتعامل معها كقضية قومية، لا سياسية”، ثم مبادرة “الانفتاح الكردي” عام 2009، عبر التفاوض مع عبدالله أوجلان والجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني، لكن المبادرة أُجهضت بسبب اتهامات المعارضة للحزب الحاكم بالتواصل مع انفصاليين.
ثم حدثت محاولات للتقارب مع حزب الشعوب الديمقراطي – ينحدّر معظم ناخبيه من الجنوب الشرقي الكردي – قبل تخليه عن دبلوماسيته السياسية، منذ الانتخابات البرلمانية، صيف عام 2015، عبر خوض المعركة بمرشحيه، مباشرة (ممثلًا للأكراد) وليس بمرشحين مستقلين كما كان يفعل في السابق، حتى وصل التصعيد السياسي، مرحلة الصدام بين “الشعوب الديمقراطي” و”العدالة والتنمية” الحاكم.
وإثر عمليات إرهابية دموية، قبل انتخابات عام 2015، تم تجميد “الحوار السياسي” ولم يتخل أردوغان وحزب العدالة والتنمية عن النهج التكتيكي الإستراتيجي، الذي يستهدف إيجاد حل مناسب لقضية أكراد تركيا، حتى وهو يواجه الإرهاب، داخل الحدود، وخارجها (عمليات تعقب مقاتلي حزب العمال الكردستاني، شمالي العراق وسوريا).
آفاق المستقبل
توجد الكثير من العوامل المشتركة بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، والأحزاب الكردية التركية، في ضوء المظالم التاريخية التي تعرض لها التيار المحافظ ذو التوجهات الإسلامية، كما الأكراد، من حزب “الشعب الجمهوري” الذي ظل لعقود يحتكر المشهد السياسي، على الأقل خلال الفترة الأولى من المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية.
منذ صعوده السياسي، حرص العدالة والتنمية على مد الجسور مع القوميات التركية، سواء المجموعات العرقية والسياسية التي ظلت لعقود تطالب بحقوق ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، فبادر الحزب بإقرار تشريعات تستفيد منها كل مكونات المجتمع – قومياته، إثنياته، تياراته، ومذاهبه الدينية وطوائفه – بمشاركة من ممثلي هذه القوى في البرلمان.
رغم ضبابية العلاقات الحزبية، تشير المعلومات إلى أن ما بعد الانتخابات البلدية المقبلة، سيشهد إعادة ترتيب للمشهد السياسي التركي، ارتباطًا بتناغم المؤسسات، بحكم النتائج التي تحققت في الانتخابات العامة – الرئاسية والتشريعية – وما ستتمخض عنه الانتخابات البلدية من نتائج، عبر العمل على تهدئة الاحتقان السياسي، شريطة أن تبادر الأحزاب الكردية بإثبات حسن النوايا، سياسيًا وأمنيًا.
ولن يتحقق ذلك، دون إدراك الأحزاب والناخبين الأكراد للتحديات الداخلية والإقليمية التركية، في ضوء الموقع الجيوسياسي للبلاد، وجملة التحالفات التقليدية والمستجدة، والثِقل الدبلوماسي والعسكري، في المعادلات الإقليمية والدولية، وبالتالي حاجة صانع القرار لترتيب البيت من الداخل، عبر الاصطفاف الشعبي، حتى لا تتحول التحديات إلى أزمات، دون حل.