في فيلم “Shortcut to happiness ” والذي يحكي قصة كاتب فاشل يبيع نفسه للشيطان حتى يصير ناجحا، يقول الشيطان للكاتب: “هل تعلم ماذا يقولون حتى ينجح شخص ما؟ يجب أن يفشل شخص آخر”.
تبدو القصة خيالية في فيلم روائي، بينما تتكرر تفاصيلها في حياتنا ونُشاهد كيف يتسلق البعض على ظهور الآخرين ويغطون فشلهم، فأي شيطان هذا الذي قدم لهم يد المساعدة؟
قبل مدة وجيزة انتشر خبر وفاة الشاب الفلسطيني معاذ الحاج وحيدا في منزله بغزة- عن عُمر يناهز 31 عاما، وكَثُر الحديث عن إبداعاته في الرسم، وكيف أننا لم نسمع عنه أو نشاهدها قبل موته؟ ويتصادف بأن أحد أصدقائي يقول لي خلال محادثة معه حول أحد المنتديات الثقافية المعنية بالشباب، عن كيف أذعن أحد المسؤولين عن تنظيمه لشخص -لم يُنجز شيئا يُذكر في مجاله- ومنحه منصة تفاعلية، لأن هذا الشخص “ترجّاه” حتى تكون له مشاركة ضمن فعاليات هذا المنتدى، علما بأن هذا المسؤول، بحسب صديقي، يكره أمثال هذا الشخص من “الفُقاعات” كما أسماه.
خلّف كلامه شعورًا بخيبة كبيرة، فمعاذ لم يَكتشف مسؤول ما موهبته، ربما لأنه لم “يترجّى” لمنحه الفرصة، ولإيمانه بأن رسوماته تحكي عنه، وكافية لنلتفت إليه. وكان ينتظره مستقبل باهر فيما لو وَجد منصة تعتني بإبداعه وتنشر رسوماته، لكن هل كان الموت أسرع منا جميعا، أم أننا كنا أبطأ منه؟ لماذا يسلم أولئك، الذين لم يفتحوا عينهم الثانية للبحث عن مواهب أصيلة، أنفسهم لشيطانهم الذي يختار من لا يستحق؟
الشهرة والوقوف على المنصات والمنابر استهواهم، خصوصا في ظل الطلب عليهم واستسهال المنظمين لفكرة عدم البحث عن الجديد أو الأصيل
اعتدنا لوم المؤسسات الرسمية في بلادنا، الثقافية والفنية، على فسادها وتوزيعها للفرص لمن لا يستحقها نتيجة لتغلغل الفساد والمحسوبية، واليوم نجد مؤسسين لفعاليات مستقلة وذات تمويل ضخم يرتكبون الآثام نفسها ويكررون التجربة ذاتها، بل ولا يخجل بعضهم من الانحياز إلى الأقرب له أيديولوجيًا، حتى وإن زعموا بأن مؤسساتهم متاحة للجميع ولكل الأفكار، ولا ينفي هذا دمغها أحيانا بشخصيات غير محسوبة عليهم من باب الترويج والتسويق.
أقرأ أسماءً مشاركة في مؤتمرات ثقافية وفكرية وفنية تزعم بأنها معنية بتقديم الخبراء والمواهب الشابة ليتم الاستفادة منها وتبادل الخبرات، ولا يُفاجئني حقيقة أن العديد من هذه الأسماء هي نفسها التي تتكرر في الفعاليات المختلفة، وكأنه لا أحد سواها في مجالها، ومن المشاركين من اعتمد على نجاحات سابقة واستند عليها ولم يقدم جديدا منذ سنوات، ولكن يبدو بأن الشهرة والوقوف على المنصات والمنابر استهواهم، خصوصا في ظل الطلب عليهم واستسهال المنظمين لفكرة عدم البحث عن الجديد أو الأصيل، ومنهم من لا يستحق ولكن لأنه تمت “تزكيته” من قبل فُلان وعلاّن أو لعبت العلاقات الشخصية دورا في نقله من الفشل إلى النجاح.
لا يُمكن النفي بأن من بعض هذه الأسماء من هو موهوب ومبدع، ولكن هذا لا يعفي المنُظمين أو القائمين على مثل هذه الفعاليات من ضرورة توسيع دائرة البحث والتواصل مع آخرين ليس فقط إغناءً للنقاش ولإثراء الاستفادة من تجارب مختلفة، ولكن أيضا لأن هناك من يستحق الفرصة من الشباب -تحديدا- ولا يجدها.
وربما لهذا نجد مخرجَات مثل هذه الفعاليات ليست بذات فائدة مستمرة أو ربما يبنى عليها، وقد أدى التكرار إلى إفراغها من مضامين حقيقية ومتغيرة ومتجددة تُسهم في تغيير ما قامت هذه الفعاليات لأجله.
نحن في عصر السوشيال ميديا الذي يزدحم بالفنانين والكتاب والمخرجين والشعراء ومنهم، كثيرون، أهم إنجازاتهم محصورة بعدد اللايكات على صفحاتهم
لم يكد يمر خبر وفاة معاذ حتى فُجعنا بانتحار مهند يونس، شاب فلسطيني أيضا من غزة، وهو الكاتب الذي لم يتجاوز الـ22 من عمره، مما شكّل صدمة كبيرة لدى الجميع، وهو الذي يُجمع من يعرفه ومن قرأ له على براعة قلمه وأسلوبه المميز في كتابة القصص، فأين كنا عن مهند؟
كثيرون لم يسمعوا عنه أو عن معاذ قبل وفاتهما، وقد يحُملهما البعض المسؤولية بأنهما كانا مهملين في التسويق لأنفسها خصوصا ونحن في عصر السوشيال ميديا الذي يزدحم بفنانين وكُتاب ومخرجين وشعراء، أهم إنجازاتهم محصورة بعدد اللايكات على صفحاتهم.
قبل حوالي أربع سنوات، يموت عن عمر لم يتجاوز الثلاثين عازف البيانو السوداني المقيم في موسكو إبراهيم ياجي، من يستمع لعزفه يدرك بأننا أمام موهبة فذة خسرناها، حقق إبراهيم العديد من الجوائز العالمية ولكن يموت بعيدا عن وطنه، بعد أن نال من الجوائز والتكريمات العالمية ما لم ينله في بلادنا العربية، وكما يقال “لا كرامة لنبي في وطنه”.
كم من شيطان ساكن فينا، يدعي انحيازه إلى الشباب وإبداعاتهم وهو يلاحق “الفقاعات” و”الإنجازات الوهمية” و”عدد اللايكات”؟
كلها مواهب لم يكتشفها أحد ولكن اكتشفها الموت قبلنا، فمن المُلام؟ بالتأكيد ليست وزارات الثقافة والفنون في بلادنا.. وكم من شيطان ساكن فينا، يدعي انحيازه إلى الشباب وإبداعاتهم وهو يلاحق “الفقاعات” و”الإنجازات الوهمية” و”عدد اللايكات” ويرضخ إلى العلاقات الشخصية والمحسوبية، وأحيانا ينصاع لاختيارات تُفرض عليه بحكم “الأدلجة”، أو لأن هناك من “ترجّاه”، وهو لا يدري بأن مثل هذه الاختيارات التي يرتكبها هو وغيره إنما تظلم آخرين كانوا يستحقون هذا المكان، وكان من حق الجمهور الذي يستهدفه أن يعرف عنهم ويتابع إبداعاتهم ويستفيد من موهبتهم.
في ظل هذه الفوضى لا أدري كيف تُحدد المعايير لاختيار الشخصيات التي سوف تسلّط الأضواء عليها، ولا أدري كيف تقاس الإنجازات، فما يزال بيننا من يصدح اسمه عاليا في محافل عالمية، ومنهم من تحكي عنه أعماله، ولكن تبحث في جداول الكثير من الفعاليات العربية عن أسماءهم، فلا تجدهم، وسيلومهم البعض لأنهم يعملون بصمت، بينما في الحقيقة هم يعملون في ضجيج عالٍ جدا، وإن افتقدوا إلى تسويق أنفسهم بالطريقة الدارجة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تستند على إنجازات وهمية، عدا طبعا عن الاهتمام بصور “الماكينج أوف” وعلى حساب العمل نفسه، إذ ما يزال الجمهور ينبهر بما تحقق من شُهرة لا بما يُنجز من أعمال وإبداعات.
إلى متى علينا أن نشبه الشيطان في أفعالنا فنعطي الفُرصة لأناس خاوين على حساب مبدعين يترقّبون الفرصة!
في بعض رسومات معاذ، ما يعبر عن واقع الحال وعن قتل الأمل، حين يغيب الاهتمام عن أمثاله هو ومهند وإبراهيم وغيرهم من المبدعين فيقول فيها “وقت النوم بخاف أطفي الضو.. مش جبان، بس يمكن الضو المعلق بالسقف هو الضو الوحيد الباقي بهالعمر”.. سيتذرع البعض بضيق معاذ ابن غزه من الحصار، ولكن كم حصارا جائرا يُفرض على المبدعين؟
حصار غزة يمكن كسره باستضافة مبدع عبر السكايب، حتى لا يتذرع أحد ما بأن مبدعيها لا يستطيعون السفر بسبب الحصار، كما حصل في مؤتمر فلسطيني أُقيم قبل حوالي ثلاثة أعوام في تركيا دُعي له الكثير من العاملين في مجال الإعلام وفيه كانت مشاركات إبداعية وأيضا لتبادل الخبرات والمعرفة، وللتشجيع على إقامة مشاريع وبرامج إعلامية مشتركة لخدمة القضية الفلسطينية. ويومها كتب على صفحته من غزة المخرج أشرف مشهراوي: “لا اعرف إذا كان المؤتمر يُصنفنا نحن العاملين في الإعلام في فلسطين من ذوي العلاقة بالموضوع أم من المشاهدين للمتحدثين عنا؟ ظننت في البداية أنني وحدي لا أعلم شيئا عن هذا المؤتمر. لكن يبدو أن عددا لا باس من الإعلامين الناشطين في فلسطين كذلك لا يعلمون، ولم يكلف المؤتمر نفسه حتى بالسؤال عن أهم احتياجاتنا من داخل فلسطين وأهم ما نواجه من مشاكل.. ربما أرائنا غير مهمة، وغيرنا أكثر معرفة بشوارعنا منا؟!”.
في عام 2004، يغيب الموت كاتبا أردنيا هو محمد عيد، عن عمر يناهز السابعة والخمسين، ونسمع حينها عنه ونعرف بأن صاحب رواية “المتميز”-صدرت عام 1978- أجمع كل من تكلم عنه من الكتاب والأدباء في الصحف وفي حفل تأبينه على أنها كانت علامة مميزة في أدب الرواية الأردنية، وفيه تحدث ابنه عن التهميش والتجاهل لكاتب مثل والده، لم ينل الاهتمام في حياته كما لاقاه في مماته.
مات معاذ الحاج وانتحر مهند يوسف وخسرنا إبراهيم ياجي.. وقبلهم من الشباب كُثر، ومنهم من فقد الأمل ولم يتبق له سوى ضوء السقف.. ومنهم من عليه أن ينتظر حتى يبلغ من العمر عتِيّا فيدركه الموت فيناله التكريم
يقول محمد عيد خلال مقابلة معه نشرت في صحيفة الدستور الأردنية (26 يناير 2003) عن سبب كونه مُقلاً في الإنتاج: “إن المقولة الشائعة حول المعاناة التي تدفع الفنان إلى الإبداع الأرقى هي مقولة ناقصة، إذ يجب أن تتبع العبارة السابقة عبارة (باستثناء المعاناة المعيشية) وهذه الأخيرة من شأنها قتل المبدع الصادق مع نفسه وأقصد المبدع صاحب الموقف وليس دفعه إلى الأمام”.
مات معاذ الحاج وانتحر مهند يوسف وخسرنا إبراهيم ياجي.. وقبلهم من الشباب كُثر، ومنهم من فقد الأمل ولم يتبق له سوى ضوء السقف.. ومنهم من عليه أن ينتظر حتى يبلغ من العمر عتِيّا فيدركه الموت فيناله التكريم كما درجت لدينا العادة بتذكر المبدعين بعد وفاتهم.
إلى متى علينا أن ننتظر الموت ليُنصف أمثالهم ويكتشف إبداعاتهم؟ وإلى متى علينا أن نشبه الشيطان في أفعالنا فنعطي الفُرصة لأناس خاوين على حساب مبدعين يترقبون الفرصة، وكل مشكلتهم أنهم لا يتقنون جمع “اللايكات” وليست لديهم “واسطة” و”مش محسوبين على حدا أو جماعة أو تيار مُعين”.