حلَّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس ضيفاً لدى نظيره التركي رجب طيب أردوغان في الثامن والعشرين من الشهر الماضي، وذلك لمناقشة مبادرة كان من المقرر أن تطرحها تركيا للمصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني.
وتتلخص المبادرة التركية في وقف التدهور القائم في العلاقة بين طرفين الانقسام فتح وحماس، وضمان توقف الإجراءات المتبادلة والوصول الى صيغة لحل الأوضاع في غزة على حد قول مستشار الرئيس التركي السابق ارشاد هورموز.
وكان أهم ما يميز هذه المبادرة عن غيرها أن تركيا الآن تقف على مسافة واحدة من طرفي الانقسام، وكانت تؤكد لحركة حماس على الدوام بضرورة التصالح مع الرئيس عباس، كما أن تركيا لا تشترط أن تجري المصالحة على أرضها. كما كان نجاح الأتراك في تحقيق المبادرة رهن المواقف الفلسطينية والإقليمية والدولية وليس الفلسطينية.
عوامل نجاح المبادرة التركية
حركة حماس والرئيس عباس صعدا على شجرة مرتفعة جداً ولا يستطيعان النزول عنها إلا بمساعدة كل طرفٍ للآخر أو بمبادرةٍ من طرفٍ خارجيٍ، والمبادرة التركية تشكِّل طوق النجاة والخلاص بالنسبة لكليهما للنزول عن الشجرة إن توفَّرت الإرادة لديهما.
ترغب حماس على ما يبدو في تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية لكن بشروطٍ معينةٍ تحفظ لها ماء الوجه
وثمَّة عوامل كثيرة كانت تُجبر الطرفين على قبول المبادرة التركية، حيث إنَّ حركة حماس بحاجة إلى المبادرة، لأنَّها تعيش في موقف لا تُحسد عليه وتحاول الخروج منه بأقل التكاليف الممكنة، وهي لا تريد أيضاً المساهمة في إفشال الأتراك انطلاقاً مما يربطها بهم من مصالح في ظل خسارتها كثير من الأطراف المساندة لها مثل سوريا وتراجع علاقاتها مع إيران وتراجع علاقتها بقطر أو على الأقل انشغال قطر عن تقديم المساعدات لها على ضوء الأزمة الأخيرة، فضلاً عن فشل ثورات الربيع العربي وارتداد حركات الإسلام السياسي وإفشال تجاربها.
وترغب حماس على ما يبدو في تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية بشروطٍ معينةٍ تحفظ لها ماء الوجه، كضمان حقوق 30 ألف موظف يعملون في حكومة غزة تحت قيادة حماس. وتسليم قطاع غزة يعني بالضرورة خَلاص الحركة من كثيرٍ من الالتزامات والمسئوليات القانونية والأخلاقية المُلقاة على كاهلها تجاه سكان القطاع من تعليمٍ وصحةٍ وتوظيفٍ وتنميةٍ وخدماتٍ.
والمصالحة مع أبو مازن تعني انتهاء مبررات إغلاق معبر رفح البري بواسطة السلطات المصرية، وبالتالي سيكون على الشقيقة مصر أن تفتح المعبر لأنَّها تتعامل مع سلطة تمثِّل الشعب بأكمله وليس مع حركة تحكم بفعل الأمر الواقع أو التطورات السياسية الاستثنائية التي مرَّت بها الأراضي الفلسطيني في عام 2007م.
وفي ظل المصالحة لن يكون بإمكان أيِّ طرف على الساحة الفلسطينية من اتهام حركة حماس بأنَّها تريد إقامة دولةٍ في غزة رغم أنَّ الإجراءات العقابية التي يتخذها الرئيس عباس تُشير إلى سلوكٍ سياسيٍ يرمي إلى فصل غزة عن الأراضي الفلسطينية.
حركتي فتح وحماس بحاجة إلى المصالحة، لكن ثمَّة غيابٌ واضحٌ للثقة المتبادلة بين الطرفين
وتمكِّن المصالحة حماس من التفرُّغ للعمل العسكري، وتمكِّن الرئيس عباس للتفرُّغ للعمل السياسي والدبلوماسي، بمعنى أنَّها تُعيد تحديد أدوار كلا الطرفين في الساحة الفلسطينية.
أمَّا الرئيس محمود عباس فهو أيضاً يحتاج إلى المبادرة التركية كحاجته لأقل انتصارٍ سياسيٍ؛ من أجل الخروج من عزلته الإقليمية ووقف التراجع في مكانته الدولية لصالح النائب والقيادي الفتحاوي محمد دحلان، والمصالحة بالنسبة له طوق نجاة، تُمليها مجموعة من العوامل، فهي تضمن الخلاص من عقبة دحلان الذي يتمنَّى طي صفحة الرئيس من أجل الجلوس على كرسي الرئاسة بدلاً منه، كما تضمن تقليص أو وقف تدخلات وإملاءات اللجنة الرباعية العربية في الشأن الفلسطيني، وتزيل مبررات وقف وتقليص الدعم المالي المقدم من بعض الدول العربية للسلطة الفلسطينية، حيث أشار وزير الخارجية في رام الله رياض المالكي في سبتمبر 2016م إلى انخفاض المساعدات المالية السعودية بنسبة 70%.
الرئيس عباس بالتأكيد سيكون في ظل المصالحة أقوى منه في ظل الانقسام، وكثيراً ما سأله ال”إسرائيل”يون “أنت تمثل مَن؟” صحيح أنَّه يقول بأنَّه يمثِّل الفلسطينيين، لكنَّه في الواقع لا يمثِّل إلا جزءاً منهم، وفي ظل المصالحة سيكون ممثِّلاً عنهم جميعاً وستكون كلمته أقوى، ولو عمل على استيعاب المقاومة الفلسطينية سيتمكن من الإمساك أكثر من ورقة ضغط بيده، لأنَّ المفاوضات بدون قوة هي مجرد ثرثرة وكلام أجوف كما هو معمول به في العرف الأمريكي.
عوامل إفشال المبادرة التركية
على الرغم من العوامل سابقة الذكر والتي تدعم إنجاز المصالحة؛ إلَّا أنَّ ثمَّة عوامل أخرى فلسطينية وإقليمية ودولية عملت على تقويض “المبادرة” وإفشالها.
من المؤكَّد أنَّ حركتي فتح وحماس بحاجة إلى المصالحة، لكن ثمَّة غيابٌ واضحٌ للثقة المتبادلة بين الطرفين، وينظر كلاهما للآخر على أنَّه عدو وليس شريك في الوطن، وهو ما جعلهم يعملان وفق قاعدة “مغالبة لا مشاركة”، بمعنى أنَّ كلامهما ينظر للمصالحة من زاوية ما قد تُحقق له، وبالتالي يبقى القبول والرفض رهن المصلحة الحزبية بعيداً عن مصلحة الوطن.
حماس هي واحدةٌ من حركات الإسلام السياسي التي تتخوَّف الإمارات منها بشكل كبير
أمَّا في الساحة الفلسطينية؛ فلا يوجد قوةٌ مؤثرةٌ تُجبر طرفي الانقسام على الخروج من الحالة الاستثنائية والذهاب للمصالحة رغم كل الجهود الوطنية التي لا يجوز الانتقاص منها، ولكن؛ يبدو أنَّ جميع القُوى مستفيدةٌ من غياب المصالحة، فحركتي فتح وحماس منشغلتين في الحكومة بغزة ورام الله، وحركة الجهاد الإسلامي لديها برامجها الخاصة، واليسار الفلسطيني منشغل في مشاريع منظمات المجتمع المدني (NGOs)، والشعب منشغل في توفير أبسط حاجياته التي يكاد لا يحصل عليها.
صحيحٌ أن الانقسام واقعٌ بين حركتي فتح وحماس، لكن؛ لا يمكن إنهاؤه والدخول في مصالحة دون دورٍ فاعلٍ للنائب الفتحاوي المفصول من الحركة محمد دحلان، ليس بصفته كقيادي مؤثِّر في الحركة فحسب، بل وبما يمتلك من علاقاتٍ وارتباطاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ في أكثر من جانب.
ولعبت العوامل الإقليمية الدور الأبرز في إفشال المبادرة التركية، تماماً كما عملت على إفشال مبادرات وحوارات المصالحة طول فترة الانقسام، بل ثمَّة دولٍ في الإقليم كانت تتدخَّل بشكلٍ سافرٍ في الشأن الفلسطيني كما لو كانت فلسطين ظهيراً لها، وهو ما أجبر الرئيس عباس على رفض تدخُّل العواصم العربية في الشأن الفلسطيني في خطابه في شهر سبتمبر 2016م. والجميع يعلم أنَّ دولاً عربيةً فرضت حصارها على قطر وقاطعتها بسبب دخولها في “المحور” التركي-الإيراني-القطري، وهو محور يُعزز من التدخل غير العربي في قضايا الإقليم من وجهة نظر تلك الدول، وبالتالي؛ ستعمل بعض القوى الإقليمية بكل قوةٍ على إفشال المبادرة التركية لقطع الطريق على تركيا من تعزيز وجودها في المنطقة.
وقفت أمريكا و”إسرائيل” حائلاً دون نجاح المبادرة التركية
وبالنسبة لبعض الأنظمة العربية؛ يتعدَّى نجاح المبادرة التركية حدود الدور التركي في المنطقة إلى الاعتقاد بأنَّه يهدف لتمكين حركة حماس مجتمعياً وتخفيف الأعباء عنها، وحماس هي واحدةٌ من حركات الإسلام السياسي التي تتخوَّف الإمارات منها، بزعم أنَّ تلك الحركات تخوض معركة وجود أو عدم وجود مع الإمارات وتهدد حكم آل زايد فيها.
ومن الملاحظ أنَّ الرئيس عباس بقي على علاقاته القوية مع قطر بعد فرض الحصار عليها، ورفض تصدير موقف معادٍ لها، وتربطه مصالح كبيرة معها، ويحمل عدد من أحفاده الجنسية القطرية، ولديهم ترخيص لنحو 30 شركة. وكل هذه العوامل جعلت بعض دول الحصار تنظر إلى عباس على أنَّه عدو لها، وبالتالي؛ ستعمل جاهدة على إفشال المبادرة.
وإذا ما أدركنا أنَّ فلسطين تمثِّل بوابة الشرق الأوسط، سندرك أنَّ الكل يريد التدخل فيها من أجل الحصول على مكانةٍ سياسيةٍ أو لعب دورٍ إقليمي في المنطقة، وهو ما يبرر أيضاً مساعي بعض الدول لإفشال مبادرات تركيا وقطر وغيرهما من قبل.
ويتداول الفلسطينيون مقولة “لا مصالحة بدون القاهرة”، وفي هذه المقولة إفصاحٌ عن دور مصر الكبير في الملف الفلسطيني، حيث تتعامل مصر مع هذا الملف على أنَّه امتداد للأمن القومي المصري، ولا يمكن السماح لأيَّة قوة إقليمية بفرض أجنداتها على الملف الفلسطيني بمعزلٍ عن موافقة مصر، وهذا ما أسهم في فشل أغلب مبادرات إنهاء الانقسام الفلسطيني.
ولا يستطيع أيٌ من قيادات الشعب الفلسطيني أن يتجاوز حدوده بتجاوز دور مصر، لأنَّ مصر تمتلك كل الوسائل التي تُؤلم القيادة الفلسطينية، وبإمكانها إغلاق معبر رفح إلى أجلٍ غير مسمى، أو تهميش القيادة الفلسطينية وعدم استقبالها بالمستوى الدبلوماسي اللائق كما حدث مع الرئيس عباس في آخر زيارتين، أو منع بعض الشخصيات من دخول مصر كما حدث مع نبيل شعث، أو منع هبوط الرجوب على أرض مصر بحجة الإساءة إلى مصر، أو عدم المصادقة على أوراق اعتماد سفير فلسطين لدى القاهرة كما الحال بالنسبة للسفير دياب اللوح.
“إسرائيل” ابتداءً تتضرر من التدخل التركي والإيراني في الملف الفلسطيني، وهي أكبر المستفيدين من حالة الانقسام
يبدو أنَّ المبادرة التركية حرَّكت المياه الراكدة في المنطقة، وفي تطور غير مسبوق؛ تلقَّى الرئيس عباس (23 أغسطس) اتصالاً هاتفياً من ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، وأطلعه الأخير على نتائج لقاءاته مع الوفد الامريكي الخاص بعملية السلام خلال جولته في المنطقة. وقبلها بساعات تلقَّى الرئيس عباس اتصالاً هاتفياً من ملك الأردن عبدالله الثاني، استعرض فيه الأوضاع السياسية العامة في ضوء جولة الوفد الأميركي للمنطقة، وتمَّ التأكيد خلال الاتصال على ضرورة استمرار التشاور بين الزعيمين خلال المرحلة المقبلة.
من المؤكد أنَّ هذين الاتصالين جاءا بعد الإعلان عن المبادرة التركية، وطالما أنَّ الرئيس عباس هو من طلب التدخل التركي؛ فهذا يدقُّ ناقوس الخطر بالنسبة لدول الإقليم الرافضة للدور التركي، وهو ما أجبر ولي العهد السعودي على الاتصال بالرئيس عباس ضماناً لبقاء السعودية على اطِّلاع بكل حيثيات المبادرة التركية، وهذا في ظاهر الأمر يشير إلى أنَّ المبادرة ذاهبة نحو
الفشل أو التأجيل، ولا نقصد هنا تأجيل الزيارة، بل تأجيل التعامل مع المبادرة قبل موتها، ولكن هذا ضمن مكاسب يتفق الرئيس عباس عليها مسبقاً مع دول الرباعية العربية.
ووقفت أمريكا و”إسرائيل” حائلاً دون نجاح المبادرة التركية. “إسرائيل” ابتداءً تتضرر من التدخل التركي والإيراني في الملف الفلسطيني، وهي أكبر المستفيدين من حالة الانقسام، حيث شنَّت ثلاثة حروب على غزة، وتمكَّنت من بسط سيطرتها على أكثر من 90% من الضفة الغربية، وتسير بخطوات واثقة نحو تهويد القدس في ظل الانقسام، وما حققته في ظل الانقسام أكبر بكثير مما حققته منذ نشأة السلطة الفلسطينية.
بدا واضحاً من العرض السابق أنَّ فُرص إنجاز المصالحة بواسطة الأتراك كانت كبيرةٌ جداً، لكن فرص إفشالها كانت أكبر
العقوبات التي يفرضها الرئيس عباس على قطاع غزة هي واحدة من الشروط التسعة التي حملها مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشرق الاوسط “جيسون جرينبلات” قبل نحو ثلاثة أشهر، وكان من ضمنها محاربة الارهاب وعدم تحويل أية أموالٍ لغزة أو أيَّة جهات تُعتبر إرهابية من منظور الإدارة الأمريكية و”إسرائيل” كعوائل الشهداء والأسرى.
والمصالحة بالنسبة لأمريكا تعني أنَّ السلطة الفلسطينية تجاوزت تلك المطالب، وهو ما يعني بالضرورة رفض الإدارة الأمريكية لهذه المبادرة من أجل بقاء الأمور على حالها.
أخيراً؛ بدا واضحاً من العرض السابق أنَّ فُرص إنجاز المصالحة بواسطة الأتراك كانت كبيرةٌ جداً، لكن فرص إفشالها كانت أكبر، وهو ما يعني أنَّ مبادرةً جديدةً لو تمَّت؛ كانت ستُضاف إلى أرشيف المبادرات التي تمَّ تقديمها للفلسطينيين، لكنها بكل الأحوال تُعتبر خطوةً بالغة الأهمية بالنسبة للفلسطينيين وتُحرِّك المياه الراكدة في المنطقة وتساعد الرئيس عبَّاس في إحراز تقدمٍ سياسي على الصعيد الإقليمي، وتمهِّد الطريق لاستعادة علاقاته بدول الرباعية العربية.