غادر أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني تركيا بعد زيارة دامت ليوم واحد تعد الأولى منذ الأزمة الخليجية في يونيو/حزيران الماضي، متوجهًا إلى ألمانيا في زيارة عمل. وكان الأمير قابل الرئيس التركي أردوغان في القصر الرئاسي بأنقرة ناقش فيه العلاقات الثنائية والتطورات في ما يخص الحصار المفروض على قطر من قبل كل من السعودية والبحرين والإمارات ومصر، والتطورات في الأزمة السورية. ويعد هذا اللقاء الثاني بين الزعيمين بعد الأزمة الخليجية إبان زيارة الرئيس التركي لقطر في نهاية يوليو/تموز الماضي.
في الوقت نفسه لمحت مصادر أن أمير قطر سيمارس دول الوساطة في الخلاف القائم بين تركيا وألمانيا حيث وصلت حدة الخطاب بين البلدين إلى مستويات غير مسبوقة. علمًا أنه لم تصدر تصريحات رسمية بموافقة السلطات التركية للعب قطر هذا الدور. في الوقت الذي يُعتقد فيه أن الأزمة بين ألمانيا وتركيا لم يظهر فيها حتى الآن أي مؤشرات لإنهاء الخلافات المتفاقمة بينهما على مدى الشهور الماضية.
وفي آخر التعليقات الصادرة من تركيا بخصوص العلاقات مع ألمانيا قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن أمس في تصريحات صحفية، إن استخدام “مهاجمة تركيا” كورقة في السياسية الداخلية في ألمانيا أمر خاطئ وإنه لن يعود بالنفع على ألمانيا في شيء، مضيفًا أنه ليس من مصلحة الدولة الألمانية ولا ساستها أن يقفوا في جبهة ضد تركيا من أجل تحقيق أهداف سياسية داخلية. ودعا قالن السياسيين الألمان إلى التصرف بعقلانية ومنطق وعدم تصعيد التوتر بين البلدين.
الوساطات القطرية في الأزمات
هناك فارق شاسع بين كل من ألمانيا وتركيا من جهة وقطر من جهة ثانية في جميع الزوايا، ولكن بالنظر إلى الدور الذي لعبته قطر خلال السنوات الماضية سيظهر أنها تمكنت من رفع قيمتها بشكل كبير لدى كبرى الدول في العالم، ولم يعد ينظر لها على أنها دولة غنية بالغاز وحسب، بل دولة استطاعت حل أزمات معقدة عجزت دول كبرى عن حلها.
حيث يشار أن قطر لها باع جيد في وضع نهايات سعيدة لكثير من الأزمات والمشاكل التي حلت في المنطقة خلال السنوات الماضية، متعدية الوساطة في الشأن العربي إلى قارة إفريقيا. إذ تتبنى في سياستها الخارجية مبدأ الوساطة والحياد تجاه الأطراف المختلفة في تلك الملفات.
الأزمة بين ألمانيا وتركيا لا تحتاج إلى وساطة، فالعلاقات بين البلدين دائمًا ما شهدت شد وجذب، وتكرر الخلاف في أكثر من مناسبة، وكانت تنتهي بمساعي الجهود الدبلوماسية من كلا البلدين
ومن بين الوساطات التي قامت بها قطر مؤخرًا الاتفاق بين حكومة السودان وحركة جيش تحرير السودان بمناسبة استكمال عملية السلام في دارفور، و”وثيقة الدوحة للسلام” في دارفور، وقعتها الحكومة السودانية و”حركة التحرير والعدالة”، في 14 يوليو/تموز 2011، بعد أن أجيزت في مؤتمر أهل المصلحة بدارفور قبل ذلك التاريخ بنحو شهرين.
كما نجحت المساعي القطرية في الإفراج عن أسرى جيبوتيين لدى إرتيريا في العام 2016 ضمن وساطة بين الطرفين؛ ليعود الأسرى إلى بلادهم برفقة وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، على متن طائرة خاصة في مارس/آذار العام الماضي.
وأسهمت الوساطة القطرية في الإفراج عن الجنود اللبنانيين الـ 16 المختطفين في العام 2015 من قبل “جبهة النصرة” في أغسطس/آب 2014 مقابل إفراج السلطات اللبنانية عن 25 سجينًا طالبت “النصرة” بإطلاق سراحهم بينهم 17 امرأة.
وتمكنت قطر أيضًا من لعب وساطة ناجحة بين قبائل التبو والطوارق في ليبيا في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 حيث تم توقيع اتفاق سلام بين القبيلتين بعد مفاوضات استمرت لمدة 4 أيام برعاية قطرية. وفي عام 2014 تمكن الدور القطري الوسيط في التوصل إلى هدنة بين الفصائل الفلسطينية و”إسرائيل” خلال الحروب التي شنتها الأخيرة على قطاع غزة في 2009 و 2012 و 2014.
نجحت الدوحة بعد فترة طويلة من مساعيها التصالحية، في إبرام اتفاقية سلام بين حكومتي جيبوتي وإريتريا؛ لتسوية النزاع الحدودي القائم بينهما، وذلك في مارس/آذار 2011. وفي 21 مايو/أيار 2008 وقعت الأطراف اللبنانية في الدوحة، اتفاقاً توصلت إليه بوساطة قطرية، بعد 18 شهرًا من أزمة سياسية عصفت بلبنان، وأفضى “اتفاق الدوحة” إلى انتخاب قائد الجيش اللبناني آنذاك ميشال سليمان، رئيسًا للجمهورية.
استثمرت قطر في ألمانيا عبر صفقات كبرى خلال الستوات الأخيرة وأحدث تلك الصفقات كانت شراء قطر 5.8% من أسهم مصرف “دويتشه بنك” الألماني.
إلى جانب هذه الوساطات الناجحة فإن العلاقات الاقتصادية والسياسية بين قطر وألمانيا وقطر وتركيا في أفضل أحوالها، وهو ما يدعم أي موقف قطري للتقدم بوساطة بين ألمانيا وتركيا لحل الأزمة بينهما.
فألمانيا وقفت إلى جانب قطر في أزمتها مع الدول الخليجية ووقعت معها اتفاقًا يقضي بفتح ملفات أمام الاستخبارات الألمانية. أشار وزير الخارجية الألماني، غابرييل أن “قطر ستجيب على أي سؤال لدينا عن جهات أو أشخاص”. جاء هذا بعد زيارة غابرييل لكل من السعودية والإمارات وقطر والكويت ضمن مساعي ألمانيا لحل الأزمة الخليجية، دعا فيها إلى رفع الحصار عن قطر.
وفي المرتمر الصحفي الذي أجراه الأمير تميم مع المستشارة ميركل ظهر هذا اليوم في برلين، دعت فيه المستشارة إلى اعتماد الأصول الدبلوماسية للتوصل إلى حل عادل وإيجابي للأزمة الخليجية، وقالت المستشارة أيضًا أن ألمانيا تنظر بقلق بعد 100 يوم من الأزمة الخليجية دون حصول أي حل.
من الناحية الاقتصادية فألمانيا اجتذبت استثمارات قطرية بشكل كبير خلال الفترة الماضية مثلها مثل البلدان الأخرى التي كانت محط اهتمام لأجهزة الاستثمار القطرية. وقد استثمرت قطر عبر صفقات كبرى خلال الستوات الأخيرة وأحدث تلك الصفقات كانت شراء قطر 5.8% من أسهم مصرف “دويتشه بنك” لتدعم بهذا مساعي المصرف لتجميع المليارات ووضع حد للشكوك حول رأسماله والمخاطر التي مر بها المصرف الكبير في ألمانيا خلال الفترة الماضية.
كما نجحت قطر عام 2009 في شراء حصة نسبتها 17% من شركة “فولكس فاغن” لصناعة السيارات، لتصبح بذلك ثالث أكبر مستثمر في أكبر شركة مصنعة للسيارات في القارة الأوروبية.
قطر لها باع جيد في وضع نهايات سعيدة لكثير من الأزمات والمشاكل التي حلت في المنطقة خلال السنوات الماضية، إذ تتبنى في سياستها الخارجية مبدأ الوساطة والحياد تجاه الأطراف المختلفة في تلك الملفات.
وساهمت استضافة قطر لمونديال كأس العالم 2022 في زيادة حجم الطلب على الخبرات والمواد الألمانية، إذ فازت العديد من الشركات بعقود لتجهيز منشآت رياضية ومشروعات بنية تحتية. فيما كانت الاستثمارات الألمانية في قطر محدودة بسبب صغر السوق القطرية وغياب مقومات الصناعة طويلة الأمد هناك. حيث تراوحت قيمة الاستثمارات الألمانية في قطر بين 285 – 181 مليون يورو بين عامي 2010 – 2012 وفازت شركة السكك الحديدية الألمانية “دويتشه بان” بعقد بناء شبكة سكك حديدية في قطر بقيمة 17 مليار يورو.
الأزمة بين ألمانيا وتركيا
تمر العلاقات بين ألمانيا وتركيا بأسوأ أيامها بعد سلسلة من الاشتباكات الكلامية بين البلدين، بالرغم من الشراكة الاستراتيجية القديمة بين البلدين، ومع اشتداد حدة الأزمة بينهما لم تتطور بعد إلى قرارات تنفيذية من شأنها توقف العلاقات بشكل كامل إذ لا تزال في إطار التهديدات، وهو ما من شأنه أن تكون تلك المشادات عبارة عن غمامة صيف برأي محللين. وعلى الرغم من تحذيرات الحكومة الألمانية للمستثمرين الألمان في تركيا إلا أن ذلك لم يكن له أي تأثير على تلك الاستثمارات بل خرج البعض وأشار أن استثماراتهم مستمرة في تركيا وينوون توسيعها.
بالنظر إلى الدور الذي لعبته قطر خلال السنوات الماضية سيظهر أنها تمكنت من رفع قيمتها بشكل كبير لدى كبرى الدول في العالم، ولم يعد ينظر لها على أنها دولة غنية بالغاز وحسب، بل دولة استطاعت حل أزمات معقدة عجزت دول كبرى عن حلها
مع كل فعل يصدر من أي من الدولتين تأتي ردة الفعل بشكل مباشر، إذ عمدت حكومة ميركل إلى التهديد باتخاذ إجرارات عقابية بحق تركيا من بينها سلسلة من التدابير الاقتصادية تطال السياحة والاستثمار بعد اعتقال السلطات التركية ناشطين حقوقيين.
أشار مراقبون أن الأزمة بين ألمانيا وتركيا لا تحتاج إلى وساطة، فالعلاقات بين البلدين دائمًا ما شهدت شد وجذب، وتكرر الخلاف في أكثر من مناسبة، وكانت تنتهي بمساعي الجهود الدبلوماسية من كلا البلدين. من جانب آخر فإن التصعيد الأخير من قبل ألمانيا ضد تركيا يأتي مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية الألمانية بين ميركل ومنافسها شولتز.
حيث يحاول الساسة الألمان المعارضين لسياسة الحكومة إضافة إلى شولتز منافس ميركل على المستشارية، استخدام ورقة تصعيد التوتر مع تركيا بهدف استخدامها لغايات انتخابية، ولذلك ظهرت استجابة ميركل لدعوة منافسها شولتز من خلال دعمها للتوجه الجديد الذي اتخذته ألمانيا في الآونة الأخيرة تجاه تركيا.
من المؤكد أن تكون الوساطة القطرية محل ترحيب من قبل كل من تركيا وألمانيا إلا أنه من المستعبد أن تتم، فالبلدين لديهما دبلوماسية قادرة على تجاوز الخلافات بينهما في الوقت المناسب. فالعلاقات بين البلدين والمصالح بينهما أكبر من أن يتم تصعيد الخلاف بشكل يؤدي إلى قطع العلاقات بينهما.