ترجمة وتحرير نون بوست
إن الإبادة الجماعية هي أحدث سياسة إسرائيلية، إلى جانب التطهير العرقي والفصل العنصري، في مشروعها الاستعماري الاستيطاني للقضاء على الفلسطينيين.
في 31 أكتوبر/تشرين الأول؛ أعلنت لافتة “الأخبار العاجلة” الحمراء أن الطائرات الحربية الإسرائيلية قصفت مبنى سكنيًّا في مخيم جباليا للاجئين شمالي غزة، ثم بثت قنوات تيليجرام أخبارًا أكثر تدميرًا، حيث كشفت أن الغارة الجوية استهدفت حي السنيدة في جباليا، حيث نشأتُ طوال حياتي.
وبينما كنت أشاهد قناة الجزيرة، محدقاً في الشاشة مذعورًا، تعرفت على بعض الوجوه المغطاة بالدم والغبار، من جيران وأقارب ينهضون من تحت الأنقاض، وبعضهم يقف فوق أكوام من الأطراف والجثث. وفي تلك الحادثة، نفذت “إسرائيل” ما لا يقل عن ست غارات جوية على مخيم اللاجئين، مما أدى إلى تسوية مبنى سكني كامل بالأرض في غضون دقائق قليلة وقتل ما لا يقل عن 400 شخص.
تصدرت مذبحة جباليا عناوين الأخبار بسبب الدمار الذي أحدثته والحسابات الباردة الكامنة وراء الضربة، والتي تجلت بشكل بارز عندما قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي لـ”وولف بليتزر” على شبكة “سي إن إن” إن قتل 400 مدني فلسطيني من أجل قتل أحد قادة حماس أمر مقبول، وفي أقل من 24 ساعة، نفذت “إسرائيل” غارة جوية أخرى على المخيم المكتظ؛ وبحلول نهاية اليوم التالي ارتفع عدد القتلى إلى 1000 فلسطيني.
لكن مذبحة جباليا كانت واحدة من ما لا يقل عن 2000 مجزرة ارتكبتها “إسرائيل” حتى الآن منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وحتى وقت كتابة هذا التقرير؛ أودت الحرب بحياة ما لا يقل عن 28 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، في حين حصدت آلاف الأرواح ممن ما زالوا تحت الأنقاض، وقد تعرض عشرات الآلاف للتشويه والجروح.
وحذر علماء القانون، بما في ذلك الإسرائيليون وخبراء الأمم المتحدة المستقلون، من أن الهجوم الإسرائيلي على غزة كان بمثابة حالة إبادة جماعية. وبالفعل؛ فإن أي شخص يتمتع بقدر بسيط من المعقولية يجب أن يكون قادرًا على اكتشاف أنماط الإبادة الجماعية في حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل، خاصة عندما تؤخذ جنبًا إلى جنب مع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وتصرفات الجنود الإسرائيليين، والتي تم تسليط الضوء عليها بشكل بارز خلال العرض الذي قدمته جنوب أفريقيا في قضيتها ضد “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية؛ حيث قضت محكمة العدل الدولية بأن جنوب أفريقيا قدمت حجة مقنعة مفادها أن خطر الإبادة الجماعية في غزة كان “معقولًا“، مما سمح للقضية بالمضي قدمًا في المحكمة.
ومع ذلك؛ قد تتوصل محكمة العدل الدولية إلى أن بعض الفظائع التي ترتكبها “إسرائيل” لا يمكن تصنيفها على أنها أعمال إبادة جماعية. ولهذا السبب فمن المهم التأكيد على أن الإبادة الجماعية ليست، في جميع الحالات، السمة المميزة لسياسة “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين، بل إن السمة الأساسية للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي هو منطق الإزالة.
هذا ليس مراوغة بالكلمات؛ حيث إن الهدف النهائي للحركة الصهيونية المتمثل في إبادة واستبدال السكان الفلسطينيين الأصليين قد تم تحقيقه تاريخيًّا من خلال مجموعة متنوعة من الأدوات، والتي شملت التطهير العرقي الجماعي على نطاق واسع (1948، 1967، وحرب الإبادة الجماعية الحالية)، أو على نطاق صغير وتدريجي. التطهير العرقي (كما هو الحال في المنطقة (ج) من الضفة الغربية أو في أحياء مختلفة في القدس الشرقية).
خلال الفترات التاريخية التي لم تتمكن فيها “إسرائيل” من إزالة الفلسطينيين من أراضيهم على نطاق واسع، تطلب نهجها التدريجي إطارًا سياسيًا وإداريًا لإدارة العملية اليومية للاستعمار المتزايد، وكان هذا الإطار هو الفصل العنصري. وقد أدرك الناشطون وجماعات حقوق الإنسان هذه السمة من سمات الهيمنة الإسرائيلية في فلسطين، حيث وثقوا كيف قامت “إسرائيل” بحصر مجموعات مختلفة من الفلسطينيين في بانتوستانات وجيوب منفصلة ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.
لكن الفصل العنصري، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية هي مجرد أدوات في خدمة هدف “إسرائيل” الأكبر – وهو إنشاء دولة يهودية حصرية بين النهر والبحر.
الاستعمار الاستيطاني ليس مجرد شكل من أشكال الإبادة الجماعية
لقد سبق للكثيرين أن درسوا طبيعة “إسرائيل” كدولة استعمارية ذات مجتمع استيطاني، وخلصوا إلى أن منطق الإزالة هو جزء من البنية المستمرة للدولة، وهذا يعني أن الإبادة الجماعية في غزة ليست نتيجة عفوية للظروف القسرية التي أثارتها هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، ولكنها نتيجة طبيعية للبنية الاستعمارية الإسرائيلية.
وكأنما للتأكيد على هذه النقطة؛ استشهد المسؤولون الإسرائيليون بشكل متكرر بالعديد من الاستعارات الاستعمارية التي تعود إلى القرن التاسع عشر لتبرير هجومهم الهمجي على غزة، وعلى الأخص في مقال نتنياهو على موقع X (الذي تمت إزالته لاحقًا) حيث وصف الحرب بأنها “صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام بين الإنسانية وقانون الغاب”.
وقدم عالم الأنثروبولوجيا الأسترالي باتريك وولف لأول مرة إطار عمل “منطق الإزالة” في مقال مؤثر عام 2006، زاعمًا أن المشاريع الاستعمارية الاستيطانية تسعى في المقام الأول إلى تأمين السيطرة على أراضي السكان الأصليين والقضاء على السكان الأصليين خدمة لهذا الهدف الإقليمي. ولهذا السبب ينبهنا وولف إلى والحقيقة هي أن مسألة الإبادة الجماعية ليست بعيدة أبدًا عن مناقشات الاستعمار الاستيطاني، ولكن هذا لا يعني أن الاستعمار الاستيطاني هو على الدوام إبادة جماعية.
قد يوجد الاستعمار الاستيطاني دون سلوكيات إبادة جماعية، حتى عندما تعمل المستعمرة الاستيطانية بنشاط على القضاء على السكان الأصليين. وبهذا المعنى؛ يرى وولف أن الاستعمار الاستيطاني هو “بنية” تمتد عبر الزمن وتتبنى مجموعة من الممارسات في خدمة الإزالة، بما في ذلك الطرد القسري، والقتل الجماعي، وحصر السكان الأصليين في جيوب معينة، ونزع الشرعية عن تراثهم ومحوه. اللغة والمحو الثقافي من خلال الاستيعاب القسري.
إذا كانت العديد من هذه الممارسات تبدو مشابهة لما يحدث في غزة، فلا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئًا، ولكن من المهم أيضًا أن نلاحظ أنه ليست كل هذه الممارسات متضمنة في سلوك “إسرائيل” الهمجي الحالي.
علاوة على ذلك؛ فإن العديد من ممارسات الإبادة الاستعمارية التي ساهمت في محو السكان الأصليين لم تُدرج أبدًا في اتفاقية الإبادة الجماعية، وتشمل هذه أشكال الإبادة الجماعية الثقافية، مثل تدمير الوجود الأخلاقي والتاريخي لمجموعة معينة، والذي يتم تحقيقه غالبًا من خلال حظر استخدام لغتهم، وتدمير المعالم التاريخية والكتب والوثائق، من بين ممارسات أخرى.
التجريد من الإنسانية
لقد كان بوسعنا أن نرى منطق الإزالة أثناء الأيام الأولى للحرب على غزة. هنا، لم يركز الجيش الإسرائيلي حصريًا على الإبادة الجماعية كنقطة نهاية ضرورية، بل كان أحد الخيارات العديدة التي طرحها طوال فترة الحرب، وكان أحد هذه الخيارات هو التطهير العرقي القسري لسكان غزة في سيناء. ولم يكلف الزعماء الإسرائيليون من كافة المشارب السياسية عناء إخفاء رغبتهم في “تقليص” عدد سكان غزة وإخلاء مساحات شاسعة منها، وهو ما تجسد في أفضل مثال على خطة التطهير التي قدمها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش والتي تقترح إخلاء حوالي 90% من سكان غزة.
وبمجرد إحباط هذا الخيار في الوقت الحالي بسبب رفض مصر فتح معبر رفح، أصبحت الإبادة الجماعية جزءًا أكثر نشاطًا من الأجندة العسكرية والسياسية الإسرائيلية.
على الأرض؛ تصرف الجنود الإسرائيليون وفقًا لهذه السياسة، حيث استوعبوا أمر وزير الدفاع غالانت بمحاربة “الحيوانات البشرية”، وصرحوا علنًا بتصريح الرئيس هرتسوغ بأنه “لا يوجد مدنيون غير متورطين” في غزة، وهو ما تم تمكينه من خلال حث رئيس الوزراء نتنياهو على الجنود “لمحو نسل عماليق”.
ففي أعقاب الدمار الشامل الذي أحدثته “إسرائيل” بشكل منهجي في غزة (وخاصة في الشمال، حيث سويت ما يقرب من 85% من المباني بالأرض)، تعمل الآن على إنشاء “مناطق عازلة” مهجورة ضخمة على طول الجانب الفلسطيني من سياج غزة. وبحسب وسائل الإعلام، فإن المنطقة العازلة المقترحة “قد تكون كيلومترًا واحدًا أو كيلومترين أو مئات الأمتار (داخل غزة)”، الأمر الذي من شأنه أن يحشر 2.3 مليون شخص في منطقة أصغر، إن لم يساهم في دفعهم إلى المغادرة تمامًا.
وأدت أربعة أشهر من القصف العشوائي والهمجي إلى طمس العشرات من المواقع التراثية والهياكل الأثرية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وأفادت منظمة “التراث من أجل السلام” في تشرين الثاني/نوفمبر أن ما لا يقل عن 104 من أصل 195 موقعًا للتراث المعماري في غزة قد دمرت أو تضررت، وتشير هذه الهجمات الوحشية ضد ثقافة وتراث غزة إلى نوايا استعمارية خبيثة لمحو جوهر الفلسطينيين الأصليين في غزة وإسكات تاريخهم.
لقد كشفت الحرب الحالية ضد غزة بشكل أكبر عن الحنين الاستعماري الذي يتغلغل في الحكومة الإسرائيلية ويسيطر على وزرائها. ففي الأسابيع الماضية؛ ارتفعت الأصوات على الجانب الآخر من السياج تطالب بإعادة التوطين في قطاع غزة، وما يعنيه “إعادة التوطين” في غزة بالضرورة هو إزالة سكان غزة (أو على الأقل بعضهم) لإقامة مستوطنات استعمارية جديدة في مكانهم، كما هو الحال في أي عملية استعمار استيطاني كلاسيكية.
ويمكن ملاحظة آثار التصفية في الحرب الإسرائيلية المستمرة ضد غزة. ففي حين أن محكمة العدل الدولية لم تصدر بعد قرارًا نهائيًّا بشأن قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى المحكمة، والتي من المفترض أن تستغرق سنوات، فإن الفظائع الشنيعة للإبادة الجماعية والتطهير العرقي في فلسطين ستستمر طالما لم يتم حل المشروع الاستعماري الصهيوني وتفكيكه.
المصدر: موقع موندويس