واجه حافظ الأسد انتفاضات قوية في جميع أنحاء البلاد بمجرد وصوله إلى السلطة، ما هدد بقاءه في الحكم، فاختار مدينة بعينها لسحق كل أشكال الاحتجاج في المدن السورية لمرة واحدة وإلى الأبد.
لم تكن حماة المدينة الوحيدة التي انتفضت غضبًا من سياسات النظام، ولذا يظل السؤال الأهم الذي يفرض نفسه عن سبب اختيار حافظ الأسد حماة تحديدًا للمواجهة عام 1982، وما الذي ميّزها عن غيرها من المدن كي تكون بمثابة المسرح الذي حدثت فيه المواجهة الأخيرة بين الأسد الأب والمعارضة.
ذهبت معظم الكتابات إلى أن الأسد اختار حماة لأن بضع مئات من المعارضة المسلحة تمركزت فيها، وبالتالي كانت هي المكان الأرجح للالتقاء، وهي أيضًا رواية النظام نفسها، في حين أن هناك تفسيرات عديدة لحسابات الأسد في اختيار حماة، فالوحشية الرهيبة التي وقعت على واحدة من أهم وأكبر المدن السورية، تدل على أن الأسد الذي كان يائسًا لتعزيز سلطته اختار تلك المدينة هدفًا بحدّ ذاته.
مدينة النشاط المتجدد
شهدت حماة عبر تاريخها عددًا من الحضارات المختلفة، وتميّزت بشكل أساسي بثنائية جمالها الفريد وشخصيتها المحافظة، كما يعتبرها علماء الآثار من أقدم مدن العالم، ورغم أن حماة تطبّعت بالمدنية منذ القدم، إلا أن تركيبة سكانها ظلت عشائرية، وشكّل المسلمون السنّة غالبية السكان من بين العديد من الطوائف الدينية الأخرى.
في أعقاب التنظيم الإداري الجديد الذي قامت به الإدارة العثمانية في فترة 1856-1876، تمّ دمج حماة بشكل كامل مع الحياة السياسية في دمشق، وبفضل ذلك تعززت اتصالات المدينة أكثر مع إسطنبول والقاهرة.
وكما هو الحال في المدن السورية الأخرى، تركّزت السلطة السياسية في حماة في أيدي رؤساء العائلات السنّية البارزة، والتي احتلت مكانة عالية وشغلت أعلى المناصب الدينية في المدينة، وأدّت أيضًا أدوارًا اقتصادية كبيرة، خاصة عائلة الكيلاني.
ثم في السنوات الأولى من القرن العشرين، كانت حماة تشهد تجربة إسلامية متنوعة ومختلفة إلى حدٍّ ما عن المدن السورية الأخرى، وبرز فيها بشكل رئيسي تياران: الاتجاه السلفي الإصلاحي والتيار الصوفي.
رغم الاختلافات بينهما، فقد تعاونا معًا في عدد من القضايا، خصوصًا في مقاومة الاحتلال الفرنسي ونشر التعليم، كذلك دعا كل منهما إلى تجديد الإسلام لمواجهة تحديات الهيمنة الأوروبية، لكن كان التيار الصوفي أكثر نشاطًا نتيجة الروابط التقليدية القوية بين الطرق الصوفية والتجّار وأهل الحرف.
يصف الكثيرون حماة في تلك الحقبة بـ”المدينة الأكثر تديُّنًا”، بسبب الطابع المحافظ للسكان ورفضهم السيطرة الفرنسية على التعليم المحلي، بجانب نبرة الجهاد القوية ضد الاستعمار، إذ كانت حماة في العقود الأولى من القرن العشرين جبهة مهمة في المعركة ضد الفرنسيين، وقاد الشيوخ المحليون ثورات واحتجاجات متعددة ضد الاحتلال الفرنسي.
يمكن أيضًا أن نلاحظ مستوى الوعي الديني الكبير في المدنية، من خلال ردّة الفعل القوية التي أبداها الحمويون على الأعمال الوحشية التي ارتكبها الإيطاليون في ليبيا، بجانب أن العديد من أهل حماة جاهدوا في فلسطين وشاركوا في ثوراتها المختلفة.
تزامنًا مع اكتساب الحركات التغريبية والتبشيرية والدوائر النسوية زخمًا في حماة خلال ثلاثينيات القرن العشرين وتحت ظل الاحتلال الفرنسي، ظهر عدد كبير من الحركات الصوفية الإحيائية والجمعيات الإسلامية بقيادة شخصيات دينية، وقاوموا بشدة السياسات الفرنسية والنشاط التبشيري، وكرّسوا الكثير من الجهد لتعزيز القيم الفكرية والسياسية والدينية كخطوة أولى نحو إعادة التسلح المجتمعي.
في الواقع، كان معظم نخبة حماة حريصون على الحفاظ على التقاليد الإسلامية، في مواجهة ما اعتبروه مؤامرة فرنسية لتقويض القيم الإسلامية والأعراف الاجتماعية المنتشرة في جميع أنحاء سوريا، ولذا بذلوا أدوارًا هامة في نشر الوعي في جميع أنحاء المدينة، خصوصًا الدور الحركي الذي قامت به الجمعيات الإسلامية في الاحتجاج ضد الاحتلال الفرنسي طوال فترة وجوده.
نتيجة التنامي الكبير لهذه الجمعيات والحركات الشعبية وتغلغلها في المجتمع، أطلق العديد من الباحثين على حماة في ذلك الوقت “مدينة الحركات الاجتماعية”، ولا شكّ أن انتشار مثل هذه الجمعيات ساعد في خلق بيئة مجتمعية قوية في حماة، وبالفعل في السنوات التالية ظهر جيل جديد من الناشطين المسلمين تبنّى مسيرة الإصلاح التعليمي ودعم القيم الإسلامية.
يلاحظ العديد من الباحثين أن نسخة الحركة الإسلامية، سواء الصوفية أو السلفية، التي تبلورت في حماة، كانت الأكثر حماسة ونضالًا عن فروع الحركة الإسلامية في المدن الأخرى، كما اتخذت الحركة السلفية في حماة شكلًا مختلفًا عن فروعها الإقليمية الأخرى، وكانت فكرية في وسائلها.
وفي حين أن عام 1945 يمثّل الميلاد الرسمي والتنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين السورية، إلا أن جذورها الفكرية والسياسية يمكن إرجاعها إلى عقود سابقة، فقبل 5 سنوات من توحيد مصطفى السباعي الجماعات السورية المتفرقة تحت مظلة الأخوان المسلمين عام 1945، ساهم رجل من حماة في صحوة دينية كبيرة يُدعى محمد الحامد (1910-1969)، وجمع ما بين مزايا الصوفي والعالم والخطيب والسياسي.
يعدّ الحامد مؤسس فرع الإخوان في حماة، ومن المهم الإشارة إلى أن فرع الإخوان في حماة لم يكن مستوردًا مباشرة من مصر كما هو شائع، حيث تأسّست الحركة على أُسُس اجتماعية واقتصادية ودينية خاصة بسوريا.
بجانب أن الحامد بنى الحركة على توليفة من مبادئ السلفية والصوفية، وكان يدعو إلى الجهاد ضد الفرنسيين، ثم بعد استقلال سوريا تحدى السياسات العلمانية للنظام وأصرَّ على شمولية الإسلام في جميع جوانب الحياة، وكان يخطب ويدرّس في مسجد السلطان، ويعتبره الكثيرون زعيمًا روحيًّا للمجتمع في حماة، وسيواصل سعيد حوى ومروان حديد إرث الحامد.
كان المجتمع في حماة قويًّا رغم كل ما مرَّ به، وتغلغل الوعي السياسي والديني في جميع الطبقات، ولم تتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمدينة كثيرًا، كما كانت هناك بالفعل طبقة وسطى محترفة في القانون والطب والتعليم، والمدينة نفسها شهدت نوعًا من الحداثة والتطور العمراني.
ورغم أن النخبة الدينية في حماة لم تدخل عالم السياسة مباشرة، لكن من المهم ملاحظة أنها تمكّنت من تسييس القضايا الاجتماعية والدينية بهدف التأثير على النتائج السياسية، مدعيةً أنها منشغلة بالدفاع عن القيم الإسلامية، لكن هذا لا يمنع أنها لعبت دورًا سياسيًّا كبيرًا، وكانت قادرة على ممارسة درجة من التأثير على السياسة.
لذا لم يكن مستغربًا أن تكون حماة مركز المعارضة الأيديولوجية لحزب البعث، وأول المدن التي انتفضت في وجه “النظام العلماني” في دمشق عام 1964، بل إن شرارة الثورة قام بها أئمّة المساجد الذين ألقوا خطبًا ضد البعث، وانطلقت الاحتجاجات من جامع السلطان في حماة واستمرت لمدة شهر تقريبًا.
بالنسبة إلى المجتمع السنّي في حماة، فإن أيديولوجية حزب البعث لم تكن أقل من خيانة للقيم الإسلامية، ويمكن للمرء أن يرى بوضوح الحجج السياسية والدينية القوية في خطاب نخبة حماة، لكن ثورة 1964 شكّلت سابقة خطيرة، حيث قام النظام بقصف مسجد السلطان، وهو مسجد خطبت ودرّست فيه نخبة من علماء حماة.
ويبدو أن هذا الأمر أثار غضب العديد من شيوخ حماة وأثّر بشكل كبير على الحمويين، إذ اعتبروا قصف الجامع عملًا من أعمال العلمانية البعثية والإلحاد، ومن الممكن القول إن هذا الحادث كان بمثابة المسمار الأخير في كراهية المدينة للنظام لعقود قادمة، ولذا تنبّأ العديد من الحمويين بحدوث صراع في السنوات القادمة، وتزايدت الأصوات التي دعت إلى الجهاد ضد النظام، ولم تهدأ المدينة من ساعتها.
في ذلك الوقت، كانت جماعة الإخوان المسلمين تعاني من انقسامات أيديولوجية وغير متماسكة تنظيميًّا، وكل فرع في الحقيقة تميّز بتاريخه وبيئته الاجتماعية الخاصة، ومن بين فروع الإخوان الثلاثة الرئيسية في دمشق وحلب وحماة -رغم كونها حركة واحدة اسميًّا-، ظلَّ فرع حماة بقيادة مروان حديد هو الأكثر نضالية، وكان يحرّض صراحة على رفض سياسات البعث منذ الستينيات.
لكن مثّل صعود الأسد إلى السلطة نقطة تحول في عملية تشكيل النظام، وتغيّر ميزان القوى بين الطوائف داخل الجيش لصالح الأقلية العلوية، وبمجرد وصول الأسد إلى الرئاسة واجه تحديات كبيرة على حكمه، خصوصًا مع استخفافه بالمشاعر الشعبية العربية والإسلامية وعدم استعداده لفتح المجال السياسي، فكانت حماة التي اندلعت فيها احتجاجات حاشدة هي أول تحدٍّ مبكّر للأسد، لكن لماذا اتخذت نخبة حماة هذا الموقف القوي والمبكّر تجاه الأسد؟
كان الإقصاء الذي شعر به أهل حماة يزرع بذور العداء، لقد كانوا متعلقين بشدة بالقيم الإسلامية التي أعلنوها كل يوم في المساجد، وكانت شكاويهم الرئيسية تتمثل في الحفاظ على الهوية الإسلامية، ورفض هيمنة الجناح الطائفي بشكل مطرد والسماح للميليشيا الحزبية العلوية بأن تحلَّ محل القوات المسلحة النظامية، خصوصًا مع وجود العديد منهم في المناصب المؤثرة بالدولة، بجانب أن العلويين وبعض الأقليات لم يستفيدوا فقط سياسيًّا من حكم الأسد، بل كانوا يستفيدون أيضًا على الجبهة الاقتصادية.
وكما لاحظ المؤرخ العراقي حنا بطاطو في كتابه “فلّاحو سورية”، فالطائفية وحدها لم تضمن تماسُك نخبة الأسد، إنما التركيبة الاجتماعية والاقتصادية لنظام الأقلية الناشئ حديثًا عزّز من التماسك بين أعضائه، ومن ثم قدرة النظام على الصمود.
ولا شكّ أن ثراء العديد من أفراد المجتمع العلوي على حساب الأغلبية الساحقة التي وجدت نفسها الآن مهزومة أمام حكم الأقلية أزعج الكثيرين، لذا كان لدى الطبقات التقليدية في حماة على وجه الخصوص جوّ عام من السخط على سياسات الأسد الاقتصادية، خصوصًا أن حماة مدينة صناعية ومركز تجاري، ونلاحظ أن الأسد تمّ تصويره في معظم كتابات نخبة حماة أنه حاكم طائفي أفقر الأغلبية السنّية وحرمها من تمثيلها السياسي المناسب.
يشير مارك فاندرفين في دراسته “المواجهة في سوريا 1982” إلى أن سياسات الأسد الاقتصادية في حماة تمثلت في تعزيز مكانة الأقليات على حساب الأغلبية، وتهميش وجهاء العائلات ذات النفوذ (النخبة الاقتصادية التقليدية) إلى الأبد، ما أدى إلى تدهور عام في الظروف الاقتصادية من الأعيان إلى صغار التجار، والتي تسبّبت في زيادة الاستياء، لدرجة أفقدت المدينة نفوذها الاقتصادي مقارنة بجاراتها من المدن.
في المجمل، كانت حماة بمثابة المعقل التقليدي للمقاومة، سواء كان ذلك ضد الحكم الاستعماري أو البعثي، وبالتالي جذور المعارضة الحموية للنظام يمكن إرجاعها إلى الخمسينيات والستينيات، والتي كانت أولًا صدامًا أيديولوجيًّا.
أيضًا ظل الدين والاقتصاد والسياسة متشابكين بشكل عميق في حماة، ولعبت المدينة دورًا رائدًا في الحياة السياسية السورية، لذا استهدف النظام بشكل أساسي النخبة السنّية القديمة ووجهاء العائلات الحموية ذات النفوذ، وقلب النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التقليدي القائم في حماة.
كذلك يمكن القول، إن الأحداث التي مرّت بها المنطقة، مثل الهزائم العسكرية العربية أمام “إسرائيل”، وانتشار الصحوة الإسلامية، والحرب الأهلية في لبنان المجاور، وإرسال نظام الأسد قوة عسكرية سورية قوامها 30 ألف جندي للدفاع عن الأقلية المارونية المسيحية ضد منظمة التحرير الفلسطينية، والذي فسّره الكثيرون باعتباره عملًا متعمّدًا ضد السنّة، بجانب تأييد حافظ الأسد الغزو السوفيتي لأفغانستان في ديسمبر/ كانون الأول 1979، كل ذلك عزز ولا شكّ من شخصية حماة.
وفي حين أن حماة كانت شوكة في حلق الأسد منذ الأزمة الدستورية عام 1973، إلا أن الشرارة لم تشتعل حتى عام 1976، بعد ظهور تقارير عن وفاة الشخصية الكاريزمية وأقوى زعيم في حماة مروان حديد، والذي تعرّض للتعذيب ثم تُرك ليموت بعدها.
لماذا حماة؟
لم يكن اختيار حماة بالنسبة إلى الأسد عام 1982 اختيارًا فُرض عليه، أو لأن بعض المجموعات القتالية تمركزت هناك، حيث جذور الصدام كانت أكثر تعقيدًا بكثير ممّا يرويه النظام، وما يبدو واضحًا أن حافظ الأسد لم يختر حماة كهدف لسحق الثائرين فيها، بل اختار حماة نفسها.
حماة كانت أكبر بكثير من مجرد تعبير عن الغضب، كانت بالنسبة إلى الأسد هدفًا رمزيًّا قويًّا سيمكّنه من إثبات جدّيته في سحق الشعب السوري، وإيصال أقوى رسائله إلى الجميع في الداخل والخارج، ولذا كان رد الفعل لا يتناسب إطلاقًا مع قوة المعارضة المسلحة، ويمكن تفسير اختيار الأسد لحماة بهذه الأسباب:
- تعدّ حماة معقلًا تقليديًّا للإسلام المحافظ، ومن أكثر المناطق حماسة لدين في البلاد.
- مدينة تاريخية مشهورة بتمردها وكفاحها ضد الغزاة، وتعدّ جزءًا مهمًّا من الواجهة السنّية الرسمية.
- سبق وأن انتفضت بقوة ضد النظام.
- تحظى بسمعة طيبة وباحترام كبير من الشعب السوري.
- تتواجد فيها أهم قاعدة للمعارضة الأكثر شراسة لنظام الأسد.
- موقع هام يستطيع الأسد من خلاله أن يجعل من المدينة مثالًا، واستعراضًا لفاتورة التكلفة الباهظة للتمرد على حكمه.
- ردع كل من يفكر بالثورة وبثّ الرعب في المدن الأخرى، حتى ترضى مرغمة بسياسات النظام، ويظن الناس أنهم قد أخطأوا في ما فعلوا.
تُظهر استخدام القوة الساحقة التي مارسها الأسد في حماة، أنه كان على إدراك تامّ بنجاحه في سحق الثورة، ولا بدَّ أنه اعتقد أن موقعه أقوى بكثير من أعدائه، لكن اللافت أنه دخل المعركة وهو مجيّش بالتاريخ والطائفية والأيديولوجيا، متجاوزًا مبدأ العين بالعين أو مجرد سحق المعارضين.
فرغم أن جميع الاتصالات قُطعت بين حماة وبقية العالم، وحاصرت قوات رفعت المدينة واستخدمت المدفعية الثقيلة والدبابات والمروحيات للهجوم عليها، لكن العامل الحاسم في هذه المواجهة هو الروابط العائلية والانتماءات الطائفية للقوات العسكرية التي دمّرت حماة، أو ما يطلق عليهم عدد من المراقبين لقب “البارونات العلويون”، وعلى رأسهم شقيق الرئيس ورمز “الفساد العلوي”.
ورغم أن البعض صوّر ثورة أهل حماة على أنها طائفية، إلا أن المدينة تعرضت بالفعل لأشد أنواع العصف الطائفي من النظام، حيث أن الوحدات التي تم إرسالها لذبح حماة كانت في الغالب علوية في تكوينها، وتشير التقارير إلى أنه تمّ طرد أي جندي من أصل حموي من الوحدات التي تم توجيهها لتدمير حماة، وتقدّر التقارير أن عدة آلاف من العناصر العسكرية المختلفة التابعة للأسد نزلوا إلى حماة، بجانب قوة تم تعزيزها بمدنيين موالين لحزب البعث تم تسليحهم من قبل النظام.
صحيح أن جعل العدو يعاني بحيث يفقد طعم المقاومة تمامًا هو مبدأ أساسي في استراتيجية مكافحة التمرد، لكن سلوك الأسد في حماة يعدّ سابقة، إذ ابتكر رجال الأسد فظائع لا يمكن تخيُّلها، كإجبار الناس على الخروج من منازلهم لقتلهم في الساحات العامة، وأنواع القتل البشع والتمثيل بجثث أهل حماة لدرجة اقتلاع العيون وحرق الوجوه وخصي بعض الرجال وشقّ بطون الحوامل، وهدم البيوت والمساجد واعتقال علماء الدين.
والأهم تعمُّد الإسراف في قتل عدد كبير من الناس في سلسلة المجازر التي حدثت، بعد أن سيطرت قوات الأسد على المدينة ضاحية بعد ضاحية، حيث عائلات بأكملها طُردت من منازلها وقُتلت رميًا بالرصاص في الشوارع، وذلك لأن المخابرات أدرجت عضوًا واحدًا من العائلة على قائمة الإخوان.
“كانوا يشقوا بطون الحوامل ويذبحوا الزلمة قدّام مرته وأولاده حتى الأطفال ذبحوها”.. شاهد على مجزرة حماة يروي وقائع المذبحة المروعة في ذكراها الـ 42#سوريا#مجزرة_حماة pic.twitter.com/qyUWOo1TfS
— نون بوست (@NoonPost) February 2, 2024
ارتكاب جنود الأسد لهذه الفظائع بحماة لم يكن بسبب خلل في شخصيتهم أو مجرد أعمال عشوائية بربرية، بل كانت أعمال ممنهجة أيديولوجيًّا تحرّض على اقتراف هذه الفظائع وتسويغها، ولذا من المهم النظر إلى أن تعمُّد إذلال المجتمع الحموي بجميع فئاته العمرية وبنسائه وأطفاله، واستهداف الأحياء القديمة والمساجد على هذا النطاق الواسع، ليسا مجرد نتيجة غير مقصودة، بل كان الهدف النيل من الشعب والذاكرة وكسر شوكة المدينة للأبد.
يشير نافع البرازي، أحد سكان حماة، إلى أن الحراك الثوري في حماة بالثمانينيات ضد الأسد كان متنوعًا، حيث الجميع شارك في العداء للنظام بتياراتهم المختلفة، وليس فقط كما هو شائع أنها “ثورة المتشددين” أو ثورة الإخوان المسلمين -الرواية التي قدمها النظام-، ولذا حين احتل النظام المدينة عاملَ جميع المواطنين باعتبارهم مسؤولين عن الثورة.
كذلك يرى توماس فريدمان في كتابه “من بيروت إلى القدس”، أن الأسد لم ينظر إلى سكان حماة المسلمين السنّة كجزء من أمّته أو كمواطنين في الدولة، بل اعتبر حماة بمثابة صراع قَبَلي بين طائفته العلوية والطائفة السنّية، ولهذا السبب لم يقُم الأسد بقمع التمرد فحسب والاكتفاء باعتقال المتمردين، بل وجّه للمدينة عدوانًا شديدًا لم يسبق أن واجهته في تاريخها الحديث، وانتقم من المسلمين السنّة، وكان ذلك الانتقام مدمّرًا بما يكفي ليشعر به كل سوري.
من الواضح أن حماة كانت تتمتع بحرية كبيرة في عين الأسد، لذا أراد بشكل أساسي النيل من مكانة المدينة وتراثها، وأن يحطَّ من ثقافة وقيم السكان لكسرهم تمامًا، خصوصًا أن حماة لديها هالة من الاحترام والإجلال والخصوصية، وبالتالي جاءت هذه الممارسات التي تقشعرّ لها الأبدان من أجل نزع الهالة عن المدنية التي تغنّى الناس بها.
وبما أن المساجد كانت من أهم الأماكن التي اجتمع فيها أهل حماة، وكانت حقيقة مركزًا محوريًّا في معارضة الأسد، أصبحت مساجد حماة نفسها أهدافًا عسكرية للنظام، وتمّ تدمير مئذنة كل مسجد وفُتك بالمصلين، وليس كما يقال إن المتشددين يختبئون فيها، وتؤكد شهادات الأهالي في ذلك الوقت، أن تعمُّد هدم المساجد كان من أقسى المشاهد التي عايشوها، حيث دمّر النظام بشكل متعمّد 79 مسجدًا من مساجد حماة.
وبحسب باتريك سيل الذي ألّفَ سيرة ذاتية متعاطفة للغاية مع حافظ الأسد، وكان صديقًا مقرّبًا للنظام، فقد كان كل جندي أُرسل إلى حماة يعلم أنه لا بدَّ من انتزاع “التشدد الإسلامي” من المدينة مهما كان الثمن، كما ذكر سيل أن “عددًا لا يحصى من المساجد والكنائس والمواقع الأثرية تم تدميرها ونهبها”.
وليس من المستبعد أن يكون التغيير الديموغرافي وترويع سكان حماة بهذا الشكل جزءًا من خطة الأسد لدفعهم نحو المغادرة، وما يثير الاهتمام بشكل خاص في حالة حماة أن النظام لم ينظّف سريعًا آثار التدمير -مثل حالة روسيا في الشيشان على سبيل المثال-، بل ترك الجثث مصفوفة على طول الطريق لفترة طويلة، ثم جلب الشباب من القرى المحيطة لغسل الجثث ومشاهدة الدمار.
كما أعاد فتح الطريق السريع الرئيسي الذي يمرّ عبر حماة للسماح للمارّة برؤية شوارع الدم ومعرفة ألوان القهر الذي واجهه أهل حماه، أو كما يقول حنا بطاطو: “لإعطاء درس لجميع المدن السورية الأخرى”، وهذا بالضبط ما قصده الأسد، رغم أنه منذ بداية المجزرة في 2 فبراير/ شباط لم يُسمح لأي صحفي بالاقتراب من المدينة، ورفضَ النظام تقديم أي تفسير مفصّل لما يحدث هناك.
ويرى توماس فريدمان الذي زار حماة بعد المذبحة ببضعة أشهر، أن النظام أراد أن يذهب السوريون لرؤية حماة والتأمُّل في المجزرة التي وقعت، ومعرفة الثمن الذي سيدفعونه في حالة التمرد، ويعقب فريدمان حين رأى حماة فيقول: “بدت المدينة بأكملها كما لو أن إعصارًا قد اجتاحها ذهابًا وإيابًا، لكنه لم يكن من عمل الطبيعة”.