حاولت إيران منذ ثورتها عام 1979 استمالة المسلمين السنة من خلال الترويج لـ”معاداة الإمبريالية” ودفاعها عن القضية الفلسطينية، والادعاء بأنها تقف وتنصر المسلمين المضطهدين في كل مكان دون تفرقة بين سني وشيعي.
وفي حين كانت تقوم بتصدير ثورتها إلى الخارج من أجل “تحرير الشعوب”، وقفت في نفس الوقت بحزم ضد انتفاضة السوريين في الثمانينات ودعمت حافظ الأسد عسكريًا واقتصاديًا على نطاق واسع طوال حربه ضد الثوار الإسلاميين، إلى حد أن إيران أدانت المعارضة السورية بنفس طريقة حافظ الأسد، وكانت التصريحات الإيرانية بمثابة تهديد لكل من تسول له نفسه الاعتداء على حافظ الأسد ونظامه، وذلك في تعارض تام مع أهداف الثورة الإيرانية المعلنة.
ثم حين وقعت مجزرة حماة 1982، غضت إيران الطرف عن وحشية الأسد وتركته يذبح حماة، ورغم كثرة الوفود الإسلامية إلى آية الله الخميني الذي تمتع بعلاقات شخصية مع حافظ الأسد، لم يقم بإدانة مذبحة حماة بشكل صريح، وانحاز عمليًا إلى النظام في حربه ضد شعبه، بل أدانت طهران المعارضة السورية المسلحة، واتهمت الإخوان السوريين بأنهم عملاء لأمريكا.
وتشير التقارير إلى أن وسائل الإعلام الإيرانية فرضت تعتيمًا إخباريًا على مذبحة حماة 1982 وعلى أنشطة جماعة الإخوان السورية.
في الواقع، لم تتأثر أو تتغير علاقات إيران مع سوريا بعد مذبحة حماة 1982، اللافت أنها دخلت مرحلة الشراكة الإستراتيجية تحديدًا منذ بداية 1982، ويلاحظ كذلك أن الأسد وطهران فسروا انتفاضة حماة على أنها مؤامرة من الإمبريالية العالمية.
لماذا تغيرت نظرة الإخوان السوريين إلى الثورة الإيرانية؟
رغم أن جماعة الإخوان المسلمين السورية كانت تتمتع بموارد كبيرة من العتاد والأفراد، إلى جانب الدعم الذي تلقته من بعض الأنظمة العربية وخاصة العراق والأردن، فإن العديد من المحللين يرون أن مصدر ثقتها في إسقاط نظام الأسد جاء من نموذج جمهورية إيران الإسلامية وثورتها الناجحة في 1979، والتي كانت مصدر إلهام للكثير من الإسلاميين السنة الذين أشادوا بها في بدايتها، لكن سرعان ما استاءوا من التجربة الإيرانية.
في الواقع، كانت الثورة الإيرانية نموذجًا لكل من جماعة الإخوان المسلمين السورية ونظام الأسد، لكن على ما يبدو كانت نقمة أكثر من نعمة للإسلاميين السوريون. فمن المفارقات أن العوامل التي زادت من ثقة جماعة الإخوان وخصوصًا جرأتها في الاعتقاد بإسقاط الأسد في أواخر 1980، كانت هي نفسها العوامل التي دفعت الأسد إلى ضرب المعارضة بشراسة عندما وقعت المواجهة.
وحسب تحليل المؤرخ السياسي مارتن كرامر، فلم يكن الدرس المستفاد من الثورة الإيرانية بالنسبة للنظام السوري هو أن الحركة الإسلامية قوية، بل كان أن الحكام يمكن أن يسقطوا بسهولة إذا أظهروا ضعفًا، وبهذا المعنى، أصبحت الثورة الإيرانية نموذجًا لكل من الإخوان والأسد.
وفي حين أن الكثيرين استبشروا خيرًا عندما قامت الثورة الإيرانية، وكان الإخوان في مقدمة الحركات الإسلامية التي التقت بالخميني، ويبدو أنهم كانوا على أمل أن تنجو الثورة الإيرانية من القضايا الطائفية، وأن تعمل كلا الثورتين في إيران وسوريا معًا، مثلما أمل المتعاطفون مثل عمر فاروق عبد الله الذي كتب في كتابه “النضال الإسلامي في سوريا”:
“على مدى أكثر من ألف عام من التاريخ الإسلامي، لم يخلق أي حدث إمكانية تحقيق التفاهم والأخوة والوحدة بين مسلمي العالم، وعبور جسر الانقسامات الطائفية بين السنة والشيعة مثل الثورة الإسلامية في إيران تحت قيادة الخميني”.
لكن المثقفين والإسلاميين الذين دعموا الثورة الإسلامية في إيران تعرضوا للخيانة في نهاية المطاف، ويذكر أبو مصعب السوري في شهادته على أحداث حماة أن الإخوان في البداية أيدوا الثورة الإيرانية، ثم توجه وفد منهم إلى طهران يستجدي الدعم للثورة السورية، لكنه لاقى الإعراض ثم الرفض.
وجدير بالذكر أن إيران شنعت على المعارضة السورية وعلى جماعة الإخوان على وجه الخصوص بسبب معارضتها لنظام الأسد، ووصف صادق خلخالي، صديق الخميني والمدعي العام الإيراني، الإخوان السوريين بـ”المرتزقة والقتلة”.
وبالفعل بدأ الإخوان ينظرون إلى إيران بعين الريبة نتيجة تحالفها المكشوف مع نظام الأسد، وأصدر الإخوان بيانًا في 31 مارس/آذار 1982 يردون فيه على اتهامات طهران ويتهمونها بدعم حافظ الأسد، ومما جاء فيه:
“اختارت إيران أن تبارك يد الجزار في حماة، وأن تقف معه في خندق واحد بوقوفها المكشوف مع حافظ الأسد وهو يذبح الإسلام والمسلمين، ولو أنهم سكتوا لكفانا الصمت”.
وفي الواقع، بعد مذبحة حماة ودعم طهران للأسد، أعلن محمد فاروق طيفور، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان السورية، وقف جميع أنشطته في إيران احتجاجًا على الدعم الإيراني لعمليات الإبادة التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه.
الخميني وحافظ الأسد
بعد شهور قليلة من استيلاء الخميني على السلطة، كانت ذروة الثورة ضد حافظ الأسد على أشدها، وبدا واضحًا أن الجمهورية الإسلامية ليست ذلك النظام الديمقراطي المناهض للاستبداد.
في الواقع، كان حافظ الأسد الذي لم تكن له علاقات دافئة مع شاه إيران أول رئيس عربي اعترف بسلطة الخميني وثورته، وأرسل له قرآنًا مرصعًا بالذهب وبرقية تهنئة أشاد فيها بالخميني وأعلن دعمه للثورة، وكان هذا الموقف من أسباب تجميد المباحثات العراقية السورية.
وقبلها، كان الأسد قد عرض على الخميني ملاذًا آمنًا في دمشق ودعاه عام 1978 للإقامة في سوريا بعد أن أُجبر على مغادرة العراق، لكنه بدلًا من ذلك فضل التوجه إلى فرنسا.
كما قدم الأسد مساعدات لحركة الخميني، وادعى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد خامنئي، أن أنصار الخميني تلقوا تدريبات عسكرية في دمشق بغرض القتال ضد نظام الشاه.
وفي أعقاب الثورة الإيرانية، سعى القادة الإيرانيون إلى إقامة علاقات قوية مع حافظ الأسد، وتبادل النظامان الزيارات الودية في 1979، ثم في العام 1980، اتخذ الأسد الموقف المثير عندما دعم إيران خلال الحرب الإيرانية العراقية، رغم المبادئ القومية العربية التي روج لها علنًا، وأصبحت سوريا الأسد الدولة العربية الوحيدة التي وقفت إلى جانب إيران، وكان دعم الأسد لإيران بداية لإيجاد موطئ قدم ونقطة انطلاق للأخيرة في المنطقة العربية.
وبحسب باتريك سيل الصديق المقرب لنظام الأسد، فقد كانت سوريا بمثابة قناة مهمة لشحنات الأسلحة إلى إيران، وقدمت أشكالًا مختلفة من المساعدة العسكرية، بما في ذلك تسهيل الضربات الجوية الإيرانية على المطارات العسكرية العراقية، وتزويد طهران بالأسلحة والمدربين العسكريين والمعدات السوفيتية والمساعدات الطبية، بجانب دعم أعمال الشغب الداخلية داخل العراق في أثناء الحرب الإيرانية العراقية.
كذلك خلال الحرب، ولصالح إيران، أغلق حافظ الأسد خط أنابيب “كركوك – بانياس” لمنع وصول العراق إلى البحر الأبيض المتوسط.
لذا في أغسطس/آب 1980 اقتحمت القوات العراقية السفارة السورية في بغداد، واتهمت نظام الأسد بالقيام بأعمال التخريب ودعم الشيعة داخل العراق بالسلاح من أجل إسقاط النظام العراقي، ثم في 2 أكتوبر/تشرين الأول 1980، قطع العراق علاقاته رسميًا مع دمشق.
ويرى سيل أن تأييد ودعم الأسد الكبير لإيران في أثناء وبعد ثورتها، كان بمثابة إهانة متعمدة للسنة الذين كان يحاربهم في الداخل، وكان يعتقد أنهم سلالة مختلفة تمامًا مقارنة بأولئك الذين استولوا على السلطة في إيران.
كما يزعم سيل أن الحكومة الإيرانية الجديدة كانت “حركة إسلامية ثورية تحدت المؤسسات السنية”.
وفي دراسته “المواجهة في سوريا 1982” يرى الباحث مارك فاندرفين أن حافظ الأسد في العديد من خطاباته كان يبرز الفارق بين الثوريين في إيران والثوريين في سوريا، ويرسم مقارنة ضمنية بين رجال الدين في إيران والجبهة الإسلامية في سوريا، إذ يحلل فاندرفين أحد خطابات الأسد التي ألقاها في مارس/آذار 1980، وانتقد فيها دوافع المعارضة السورية مقارنة بالإيرانية، فقال: “نحن نشجع أولئك الذين يعملون من أجل الدين، ونقاتل أولئك الذين يستغلونه لأهداف غير دينية”.
وفي مقابل دعم حافظ الأسد لطهران، ردت الأخيرة من خلال دعمه في الأيام التي كان في أشد الحاجة إلى الدعم من أجل القضاء على الثورة، خصوصًا أنه كان يبحث عن أي شرعية خارجية، وبالفعل دخلت علاقات الأسد مع إيران مرحلة التنسيق الإستراتيجي، ويمكن وصف هذه الفترة بأنها ذروة العلاقات السورية-الإيرانية في المنطقة، إضافة لإرسال طهران كميات كبيرة من النفط المجاني والمخفض إلى دمشق.
وفي وسط الاضطرابات الشعبية التي كانت سوريا تشهدها في الثمانينات، صار النظامان يتعاملان بشكل مكشوف، وتحركت إيران سريعًا لدعم النظام السوري، إذ زار إبراهيم يزدي وزير الخارجية الإيراني حافظ الأسد، وأكد أن الأسد قدم كل أشكال الدعم للثورة الإيرانية وكان له أكبر الأثر في انتصار الثورة، لذا أوضح يزدي بأن إيران لن تتخلى عن سوريا وستقف معها ضد الأحداث الداخلية التي تمر بها.
كذلك كثرت زيارات نائب رئيس الوزراء الإيراني صادق طباطبائي إلى سوريا بعد حادث الكلية العسكرية في حلب، ومن اللافت أن الأخير عقد مؤتمرًا صحفيًا أشاد فيه بحافظ الأسد، وقال: “إن الإيرانيين يقفون الى جانب سوريا وسينضمون إليها إذا تطلب الموقف ذلك”.
وفي 16/8/1979 نشرت جريدة “السياسة الكويتية” في رسالة لها من طهران قالت إن الخميني قرر إرسال قوات إيرانية للمرابطة في سورية، وبالفعل أشارت العديد من التقارير إلى وجود مسلحين إيرانيين في سوريا قرب دمشق.
ومن اللافت، أن أول رحلة خارجية لرئيس في تاريخ إيران بعد ثورتها كانت إلى سوريا.
ورغم أن البعض وصف ساعتها تحالف حافظ الأسد وطهران بزواج المصلحة، وأنه سيتفكك بمجرد الإطاحة بصدام حسين، فإن التحالف لم يكن بالأساس مبنيًا على مواجهة صدام حسين فحسب، فبجانب الدعم العسكري، بذلت إيران جهودًا متضافرة للتغلغل في المجتمع السوري من خلال إقامة المدارس والحوزات وتقديم عروض طيران مدعومة بشكل كبير لمواطنيها من أجل السفر إلى سوريا.
وبالفعل جلبت طهران أفواجًا من “الحجاج الإيرانيين” إلى دمشق، وقامت حكومة الخميني ببناء أول حوزة شيعية بالقرب من مقام السيدة زينب في منطقة سنية بالكامل (سابقًا) في جنوب دمشق، – البعض يشير إلى أنه أزيلت مبان بأكملها من أجل توسعة مقام السيدة زينب – وهو الموقع الذي لا يرتاده الشيعة الإثنى عشرية فحسب، بل أيضًا المجتمع العلوي الأكبر في سوريا، ولا يزال أهم مزار شيعي في سوريا.
لكن في الواقع، تضايق السوريون من التحالف بين الأسد والخميني، وتشير التقارير إلى أن العديد من السكان المحليين لم يكونوا مستعدين للترحيب بهذا النوع من الإسلام الذي اجتاح إيران، واستاءوا من جرأة هؤلاء “الحجاج الإيرانيين” بسبب زيارتهم لقبر “السيدة زينب” وفرض طقوسهم وتقاليدهم في كثير من الأحيان.
ويذكر الباحث مارك فاندرفين في دراسته “المواجهة في سوريا 1982” إلى أن حافظ الأسد علم أن شرائح عديدة من السكان السوريين استاؤوا من نموذج الثورة الخمينية، لذا استغل هذا الأمر من خلال الترويج بأن نموذج الحكم الذي قدمته الثورة الإيرانية هو ما ستقدمه المعارضة المسلحة، وهي رواية بذل نظام الأسد جهودًا كبيرة لإثارتها، وبحسب فاندرفين فقد تضررت المعارضة السورية من الصور السلبية التي أثارتها جمهورية إيران الإسلامية.
لذا أشار أبو مصعب السوري في شهادته على أحداث حماة إلى أن أحد الأخطاء القاتلة للمعارضة المسلحة هي أنهم لم يشرحوا للمجتمع برنامجهم البديل عن النظام، ولم يكن أحد يعلم كيف ستكون الحياة تحت حكمهم، رغم أنهم حظوا بتعاطف شريحة واسعة من السكان وبعض التجار وملاك الأراضي السابقين وغيرهم من ضحايا حكم البعث، وكما يقول سيل: “فقد تحدثت المعارضة عن إنشاء جمهورية إسلامية في سوريا، لكنهم لم يقدموا أي برنامج متماسك”، وبالتالي لعب فشل المعارضة في الإعلان عن برنامجها السياسي دورًا في مصلحة الأسد.
وبحسب فاندرفين فقد نشر نظام الأسد دعاية صورت المعارضة كمتعصبين عنيفين، وعصابة عازمة على تنفيذ ولاية الفقيه على السكان السوريين، ويعقب فاندرفين: “كانت التفاصيل التي نشرت حول حكم المعارضة الإسلامية مماثلة بشكل لافت لبرنامج الخميني في إيران، ونتيجة لذلك، كان من الصعب على السوريين عدم إجراء مقارنة بين جماعة الإخوان والثوار الإيرانيين”.
في المجمل، كان حافظ الأسد الحليف الإقليمي الثابت والوحيد لطهران منذ الثورة الإسلامية عام 1979، وفي المقابل عززت النخبة السياسية في طهران تحالفها مع النظام السوري ودعمت القتل الجماعي الذي ارتكبه حافظ الأسد ضد السوريين، واستفاد الإيرانيون بشكل كبير من طبيعة العلاقات المتينة مع حافظ الأسد، ربما كان تورط إيران في عهد حافظ الأسد غير مكشوف، لكنه أصبح صارخًا هذه الأيام.
وفي الواقع فإن الأولوية الأساسية لكلا النظامين من البداية هي بقاء الآخر والدفاع عنه مهما ارتكب أي منهما من مجازر، وإذا تمت الإطاحة بنظام بشار الأسد واستبداله بنظام معبر عن السوريين، فإن ذلك سيمثل كابوسًا لإيران ولا نبالغ إن قلنا بأنه سيكون أكبر خسارة لها على المستوى الإقليمي.
لذا تبذل طهران منذ تحالفها مع حافظ الأسد كل ما في وسعها لضمان عدم الإطاحة بهذا النظام، وهو ما ظهر واضحًا منذ البداية وما زال مستمرًا اليوم.