عادت محكمة العدل الدولية لتتصدر المشهد من جديد، وهذه المرة من بوابة عربية، ففي 6 فبراير/ شباط الجاري اُنتخب القاضي اللبناني نوَّاف سلام رئيسًا لمحكمة العدل الدولية لمدة 3 سنوات، ليكون أول لبناني والعربي الثاني الذي يتولى المنصب بعد وزير الخارجية الجزائري الأسبق محمد بجاوي، الذي عمل لدى المحكمة لمدة 20 عامًا تقريبًا (مارس/ آذار 1982- سبتمبر/ أيلول 2001)، حيث شغل منصب رئيس غرفة خلال فترة 1984-1986، ثم رئيس المحكمة لمدة 3 سنوات خلال فترة 1994-1997.
الانتخابات التي جاءت برئيس جديد بعد انتهاء ولاية القاضية الأمريكية جوان دوانهيو ونائبها الروسي كيريل جيفورجيان، تعطي للقاضي اللبناني الحق بالتمتع بهذا المنصب لمدة 3 سنوات، وهي المدة التي يُتوقع أن يتم خلالها تداول ونظر قضية اتهام “إسرائيل” بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة.
أعلنت محكمة العدل الدولية تعيين القاضي اللبناني نواف سلام رئيسًا لها، والقاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي نائب له لفترة ولاية مدتها ثلاث سنوات.
📌 وأضافت المحكمة في بيانها أن “الرئيس سلام عضو في المحكمة منذ 6 فبراير/شباط 2018، وقبل انضمامه إلى المحكمة، كان سفيرا وممثلا دائما… pic.twitter.com/OqI7TLnlNZ
— نون بوست (@NoonPost) February 7, 2024
من هو الرئيس الجديد؟
وُلد سلام عام 1953 لعائلة سياسية بارزة في بيروت، كان جده سليم سلام عضوًا بالبرلمان العثماني، ويعتبر عمّه صائب سلام من آباء استقلال لبنان وأهم رجال الدولة في سنوات ما قبل الحرب الأهلية، ورئيس الوزراء اللبناني الأسبق (1952-1973) في عهد 4 رؤساء مختلفين، كذلك كان ابن عمه تمام سلام رئيسًا للبنان بالوكالة (2014–2016)، ورئيسًا للحكومة اللبنانية (2014–2016).
غادر سلام لبنان، مثل كثيرين آخرين من أبناء جيله، للدراسة أولًا ثم للعمل، في البداية كرّس حياته المهنية للبحث والتدريس بمعهد الدراسات السياسية في باريس، وكلية الحقوق في جامعة السوربون، وجامعة هارفارد، والجامعة الأمريكية في بيروت بين أواخر السبعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ينتمي القاضي اللبناني إلى جيل من رجال الدولة الذين تمتد مسيرتهم إلى سلسلة طويلة ذهابًا وإيابًا بين لبنان والمسرح الدولي، وتحمل سنواته الدبلوماسية والسياسية بصمات واضحة بدأها بممارسة المحاماة منذ عام 1984.
شغل سلام منصب سفير وممثل لبنان بالأمم المتحدة لمدة 10 سنوات (2007-2017)، صنع خلالها اسمًا لنفسه من خلال تفانيه في سيادة القانون: في قرار مجلس الأمن رقم 1701 (2006)، الذي كان من المفترض أن يضمن وقف الأعمال العدائية في جنوب لبنان، وفي القرار رقم 1757 (2007) الذي أنشأ المحكمة الخاصة بلبنان بعد عامَين من اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
وصل سلام إلى لاهاي للعمل قاضيًا بمحكمة العدل الدولية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وحظيَ انضمامه إلى قضاة قصر السلام الـ 17 في لاهاي بهولندا، الذين يعملون عادة بعيدًا عن الأضواء، بالترحيب في الصحافة المحلية، وعنونت صحيفة “النهار” اللبنانية أن “نوَّاف سلام يعيد لبنان إلى محكمة العدل الدولية”، مشددة على “النجاح السياسي والدبلوماسي الملحوظ”.
انتخابه لولاية مدتها 10 سنوات، بفضل الأغلبية المطلقة للأصوات في الجمعية العامة (135 صوتًا من إجمالي 193 صوتًا)، وكذلك في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (12 صوتًا من إجمالي 15 صوتًا)، كان علامة على الاعتراف الواسع النطاق من قِبل أقرانه ببراعته في المسائل القانونية.
على المستوى الدولي، ترك هذا الاختيار بصماته لسبب مختلف تمامًا، فلأول مرة منذ بدء هذه المحكمة العالمية عملها في نيسان/ أبريل 1946، لم تعد المملكة المتحدة ممثلة في قصر السلام، وقالت صحيفة “الغارديان” البريطانية حينها إن ذلك “ضربة مهينة لهيبة الدبلوماسية البريطانية في الأمم المتحدة”، ووصفت خسارة الوجود البريطاني في المحكمة بمثابة “إحراج سياسي دولي”.
منذ ذلك الحين، ارتدى سلام ثوب العدالة الأسود والأبيض داخل أروقة المحكمة الدولية الوحيدة التي تفصل في النزاعات بين الدول، والتي تأسّست عام 1945، وهي إحدى الأجهزة الستة للأمم المتحدة، التي تعنى بتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها، وهي منفصلة عن المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم الأفراد لارتكابهم جرائم ضد القانون الدولي.
عدّ البعض انتخاب سيبوتيندي في ثاني أهم منصب في محكمة العدل الدولية بمثابة مكافأة لها بعد الإعلان عن موقفها المؤيد للاحتلال داخل المحكمة
منذ مطلع عام 2019، بدأ اسمه يُطرح كرئيس وزراء لبنان لحلّ أزمته السياسية، وكان من الممكن أن يكون الرجل الذي كانت البلاد تنتظره مختلفًا عن أي شخص آخر في المشهد السياسي اللبناني، وبدلًا من ذلك يرفض الانصياع لمطالب الطبقة السياسية اللبنانية، وبقيَ بعيدًا، يُمتدح أحيانًا ويُنتقد أحيانًا أخرى، ويعمل دائمًا من لاهاي حيث يعيش على قضايا أكبر، ويشارك في التاريخ بطريقة مختلفة خلال الأسابيع القليلة الماضية.
ووفقًا لوصف صحيفة “الغارديان” البريطانية، فهو شخصية نادرة غير منحازة، يُنظر إليه على أنه بديل موثوق للطبقة السياسية التي رفضتها احتجاجات 2019، وحتى رغم وصفه من قبل أطراف لبنانية بأنه “ليس زعيمًا طائفيًّا ولا ثوريًّا مخلصًا”، لم يرُق ترشيحه لعديد من الأطراف الأخرى.
إذ اعتبره وزير حزب الكتائب اللبنانية السابق إيلي ماروني “شبحًا لا أحد يعرف من هو”، وقال رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، بحقّه: “لم نلمس الجدية الكافية”، كذلك واجه ترشيحه عقبات من “حزب الله” المدعوم من إيران لعلاقته الوثيقة مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، ومع أحد خصوم “حزب الله” السياسيين رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة.
سمير جعجع: لن نسمّي نواف سلام لرئاسة الحكومة
كتبة التقارير والصويحفيين: الحق على النواب السنة المحسوبين على الرئيس الحريري
— Sinane Al Arab (@SinaneArab) June 22, 2022
مكافأة نائب الرئيس
عادة ما تشكّل اللحظات التاريخية فرصة للأطراف المختلفة، لتسجّل اسمها إمّا على لوحة شرف تُحفظ في وجدان الشعوب، وإمّا على العكس من ذلك لا يتذكرهم الناس إلا بالخذلان لدعمهم كيانًا محتلًّا يُمسك بخناق العالم، وهو الذي لم تجف يد جنوده يومًا من الدم الفلسطيني، أنه “ضحية الإرهاب المهدد وجودها”.
ربما ينطبق هذا الوصف في شطره الأول على الرئيس الجديد لمحكمة العدل الدولية الذي صوَّت لصالح كافة الإجراءات التي اتخذتها المحكمة في قضية غزة، ففور انتخابه مع زملائه باقتراع سرّي وصف سلام انتخابه عبر موقع “إكس” أنه “مسؤولية كبرى في تحقيق العدالة الدولية وإعلاء القانون الدولي”.
انتخابي رئيسا لمحكمة العدل الدولية مسؤولية كبرى في تحقيق العدالة الدولية واعلاء القانون الدولي. وأول ما يحضر إلى ذهني ايضًا في هذه اللحظة هو همي الدائم ان تعود مدينتي بيروت، أماََ للشرائع كما هو لقبها، وان ننجح كلبنانيين في إقامة دولة القانون في بلادنا وان يسود العدل بين أبنائه. https://t.co/vIs487b3yN
— Nawaf Salam نواف سلام (@nawafasalam) February 6, 2024
بينما ينطبق شطره الثاني على القاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي التي اُنتخبت نائبة لرئيس محكمة العدل الدولية، وستعمل إلى جانب القاضي اللبناني لمدة 3 سنوات قادمة، وهي الوحيدة التي سجّلت موقفًا كسرَ الإجماع الذي يدين الاحتلال، بعد أن صوّتت ضد قرارات المحكمة التسعة المتعلقة بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
في اعتراضها الذي استغرق 6 صفحات، وتم تقديمه إلى جانب رأي أغلبية المحكمة، ادَّعت سيبوتيندي أن “الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين هو في الأساس صراع سياسي، وليس ذلك النوع من الخلاف القانوني الذي من المفترض أن تنظر فيه محكمة العدل الدولية”، وأن “جنوب أفريقيا فشلت في إظهار نية إسرائيل للإبادة الجماعية في حربها مع حماس”.
أثار توقيت الإعلان حالة من الغضب بسبب مواقف القاضية التي تدّعي أن ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة لا يرقى إلى “الإبادة الجماعية”، واعتبر البعض انتخاب سيبوتيندي في ثاني أهم منصب في محكمة العدل الدولية بمثابة مكافأة لها بعد الإعلان عن موقفها المؤيد للاحتلال داخل المحكمة، كونها القاضية الوحيدة التي اعترضت على جميع التدابير التي فرضتها المحكمة على “إسرائيل”، لتتفوق بذلك على كل قضاة المحكمة بمن فيهم القاضي الإسرائيلي نفسه.
اللافت في هذا الموضوع أن القاضية الأوغندية كانت العضو الدائم الوحيد من بين قضاة المحكمة الـ 17 التي صوّتت ضد جميع التدابير المقترحة المؤقتة التي تدين “إسرائيل”، حتى أن العضو الإسرائيلي بالمحكمة القاضي أهارون باراك صوَّت ضد قرارَين يتعلقان بغزة من أصل 6 تدابير.
باراك الذي عيّنته “إسرائيل” قاضيًا خاصًّا لهذه القضية، وهو من صلاحيات الدول التي تُحاكَم في المحكمة، صوّت لصالح الإجراء الذي يطالب ببذل جهود لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة، بالإضافة إلى إجراء يطالب “إسرائيل” باتخاذ جميع التدابير “لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة”.
في حين أثار موقف القاضي الإسرائيلي الجدل في الأوساط الإسرائيلية، فإن موقف القاضية الأوغندية المثير للجدل جعلها منها “بطلة” بين مؤيدي الاحتلال الإسرائيلي، ودفع البعض إلى توصيفها بأنها “إسرائيلية أكثر من إسرائيل نفسها”، في حين قارنه نشطاء وساسة دوليون بموقف وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور، التي شددت على أن بلادها تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني وتدعوه إلى عدم فقدان الأمل، كما دعت المجتمع الدولي إلى إجبار “إسرائيل” على الالتزام بالقانون الدولي ووقف جرائم الإبادة بحقّ الشعب الفلسطيني.
“سنواصل سعينا ولن نتعب”.. وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، تؤكد استمرار وقوف جنوب أفريقيا إلى جانب فلسطين، خلال كلمة لها في مسجد القدس في كيب تاون حيث ظهرت مرتديةً الحجاب#غزة_تُقاوم#FreePalaestin pic.twitter.com/zXUiqx7AfQ
— نون بوست (@NoonPost) February 7, 2024
رغم كونها أول امرأة أفريقية تنضم إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لم تكن سيبوتيندي سوى شخصية غامضة نسبيًّا على الساحة الدولية قبل هذه القضية، لكنها اشتهرت بسبب موقفها الأخير داخل المحكمة، والذي وُصف بـ”المخزي لأفريقيا والأفارقة”، ووصفها البعض بأنها “خانت ضمير أفريقيا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية”.
Judge Julia Sebutinde from UGANDA, voted against all the provisional measures South Africa sought against Israel.
She is a disgrace to Africa and Africans. She’s humiliated Africans before the whole world. She’s betrayed the conscience of Africa on the Palestinian question.… pic.twitter.com/q8CBNjHBKj— Amwoga Khalwale (@amwogakhalwale) January 26, 2024
هذا الوصف يختلف كثيرًا في الأوساط الإسرائيلية التي تنظر إلى القاضية، البالغة من العمر 69 عامًا، على أنها “قاضية متميزة” تتمتع بخلفية غنية في القانون، حيث تخرجت في جامعة ماكيريري، وحصلت على دبلوم من مركز تطوير القانون في كامبالا، وعملت بعد ذلك في مناصب قانونية مختلفة في الكثير من الدول، ما يعكس مساهماتها الكبيرة في العدالة الدولية.
وُلدت سيبوتيندي في أوغندا عام 1954، واُنتخبت عضوًا في محكمة العدل لأول مرة عام 2012 قبل أن يُعاد انتخابها عام 2021، وحصلت على الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة إدنبرة في المملكة المتحدة، وشغلت عدة مناصب قضائية وقانونية سابقة، حيث عملت قاضية في المحكمة الخاصة لسيراليون في فترة 2005-2011.
وفي عام 1996، تمّ تعيينها قاضية في المحكمة العليا في أوغندا، لتشغل بعدها عدة مناصب قضائية وقانونية حيث خاضت غمار الكثير من محاكمات قضايا جرائم الحرب، من ضمنها القضية ضد الرئيس الليبيري تشارلز ماكارثر غانكاي تايلور، الذي اتُّهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال فترة توليه الرئاسة، كذلك شغلت منصب قاضٍ في المحكمة العليا بأوغندا في القضايا المدنية والجنائية، وكانت رئيسة اللجنة القضائية للتحقيق في فساد الشرطة الأوغندية عام 2000.
بعد توسُّع رقعة حملات التنديد ضد سيبوتندي لتشمل أوغندا كدولة، دخلت الحكومة الأوغندية على الخط، لدرجة أنها تبرّأت منها، وأعلن ممثل أوغندا في الأمم المتحدة أدونيا إيباري، في بيان نشره على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي، أن “حكم القاضية في محكمة العدل الدولية لا يمثل الموقف الرسمي لأوغندا بشأن الوضع في فلسطين، إنما يمثلها هي فقط”، وأشار إلى أن سيبوتيندي سبق أن صوّتت ضد بلادها بشأن قضيتها ضد جمهورية الكونغو الديمقراطية.
Justice Sebutinde ruling at the International Court of Justice does not represent the Government of Uganda’s position on the situation in Palestine. She has previously voted against Uganda’s case on DRC. Uganda’s support for the plight of the Palestinian people has been expressed…
— Adonia Ayebare (@adoniaayebare) January 26, 2024
في حين أنها الوحيدة التي صوّتت ضد القرار بخلاف القاضي الإسرائيلي، فلا يعدّ هذا حاجزًا أمام المحكمة في عدد الأصوات، في وقت شهد فيه التصويت قاضيًا أمريكيًّا صوّت للقرار من ضمن القضاة الـ 15 في المحكمة.
ففي يوم الجمعة، 26 يناير/ كانون الثاني الماضي، أسقطت محكمة العدل الدولية قناع الضحية، وقررت أن على “إسرائيل” الامتناع عن ارتكاب أفعال ذات طبيعة إبادية ضد الفلسطينيين في غزة، وأنه يجب عليها اتخاذ خطوات فورية تمكّن من توفير المساعدات الإنسانية التي يحتاج إليها الفلسطينيون بشكل عاجل، ما يعني عمليًّا رفع الحصار المطبّق الذي تفرضه على القطاع.
لا تملك محكمة العدل الدولية سلطة إنفاذ قرارتها، لكن السلطة القانونية والأخلاقية لقرارتها يمكن تحويلها إلى رأس مال سياسي، ذلك ما سعت إليه الجزائر، العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن الدولي، بطلبها عقد أول جلسة لمجلس الأمن لبحث كيفية تنفيذ التدابير التي أقرّتها المحكمة.
سلام في عيون “إسرائيل”
في خضمّ حرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” على الفلسطينيين المدنيين في غزة، وفي ظل تقييد أيدي مجلس الأمن بسبب استخدام الفيتو المتكرر من جانب أعضائه، قامت جنوب أفريقيا بإعادة ترتيب أوراقها في 29 ديسمبر/ كانون الأول، بتقديم التماس إلى أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة.
يثير تعيين سلام ذي الأصول اللبنانية حفيظة “إسرائيل”، ويصفه الإعلام الإسرائيلي بـ”القاضي المناهض لإسرائيل”
قبل وصول سلام إلى رئاسة المحكمة، حملت بريتوريا قضية الشعب الفلسطيني إلى هناك، متهمةً “إسرائيل” بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، وجاءت إلى المحكمة بحساسية عالية تجاه الظلم والعدل، فذلك هو ميراثها الأخلاقي من نضال شعبها الأفريقي ضد الفصل العنصري على يد استعماريين بيض، هم بقية من هجمة استعمارية ما سلمت منها القارة الأفريقية.
بعد صدور الحكم كانت “إسرائيل” أول الشاجبين لنزع القناع عن حقيقتها، كما أظهرها قرار المحكمة في القضية التي يترأّسها سلام الآن، وكما فعلت جنوب أفريقيا، حيث يُنتظر منه أن ينتصر لنفسه وللفلسطينيين ولكل أحرار العالم الذين تأذّت نفسيتهم برؤية استسهال سفك الدم في غزة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم أن جنوب أفريقيا طلبت من المحكمة أن تأمر “إسرائيل” بوقف جميع أنشطتها العسكرية في غزة، فإن المحكمة لم تقدم هذا الطلب، ولم تُشِر إلى أي نشاط محدد من جانب “إسرائيل” تعتبره انتهاكًا لقرارات المحكمة، لكنها أمرت “إسرائيل”، في خطوة مهمة، بالحفاظ على الأدلة على الإبادة الجماعية المحتملة التي سيتم التحقيق فيها في المستقبل، وتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر واحد، يبيّن ما فعلته لمنع الإبادة الجماعية في غزة.
ليس من المعروف حتى الآن ماذا ستكتب “إسرائيل” في تقريرها للمحكمة، لكن بإمكان المحكمة بحُلّتها الجديدة حينها ألا تكتفي بالتقرير أو تصدر أوامر جديدة أكثر صرامة لحماية الفلسطينيين في غزة، وتطلب من مجلس الأمن إجبار “إسرائيل” على تنفيذ هذه الأوامر، وفي حال لم تمتثل للأوامر بشكل صارم، فقد تجد نفسها في وضع أسوأ من أي من سابقاته.
يعني هذا أن ثمة فرصة سانحة أمام رئيس محكمة العدل الدولية الجديد للفصل في هذه القضية، على سبيل المثال يمكنه الذهاب إلى أبعد من ذلك، عندما يقود المحكمة لاتخاذ إجراءات تأمر “إسرائيل” بوقف عدوانها العسكري في غزة، علمًا أن المحكمة لم تصل في وقت سابق حدّ الأمر بإصدار أمر لوقف فوري لإطلاق النار.
لذلك يثير تعيين سلام ذي الأصول اللبنانية حفيظة “إسرائيل”، وتصفه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلي بـ”القاضي المناهض لإسرائيل”، في حين لم يلقَ تعيين القاضية الأوغندية نائبةً للرئيس أصداء سلبية في الأوساط الإسرائيلية.
ومسؤوليتكم اتجاه منع جرائم الحرب الصهيونية كبيرة.
وفقكم الله وسدد بالحق خطاكم.— سعيد المسكري (@saidsaif) February 7, 2024
تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عمّا أسمته “تاريخ سلام في الإدلاء بتصريحات معادية لإسرائيل”، وهو ما استبقته أجهزة الدعاية الإسرائيلية الأخرى بمحاولة تشويه صورته بالبحث في ماضيه، لعلّها تجد ما يُلصق به تهمة “معاداة السامية”.
وعلى عكس ما تروّج له الدعاية الإسرائيلية، يرتبط سلام بالقضية الفلسطينية ارتباطًا غير مشروط وفقًا للقانون الدولي، وفي بعض الأحيان يدين خيانة جزء من المجتمع الدولي عند الضرورة، ففي عام 1994 كتب وهو لا يزال أستاذًا في الجامعة الأمريكية في بيروت، في مجلة “الدراسات الفلسطينية”: “لم يكد حبر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين) يجفّ، عندما كانت الجهود الدولية قد بدأت بالفعل في التراجع عن تنفيذه لصالح إيجاد طرق لإعادة توطينهم في العالم العربي”.
تداولت عدة مواقع إسرائيلية ما سمّته “مواقف نوَّاف سلام المعادية والمنحازة ضد إسرائيل”، من بينها منشور يعود لعام 2015 في ذكرى إعلان دولة الاحتلال، كتب فيه: “عيد ميلاد غير سعيد لك، 48 عامًا من الاحتلال”، وبعد أشهر قيل إنه كتب: “يجب على إسرائيل وقف العنف وإنهاء الاحتلال”، وأن “تصوير منتقدي سياسات إسرائيل على أنهم معادون للسامية هو محاولة لترهيبهم وتشويه سمعتهم، وهو ما نرفضه”.
#Israel Occupation of #Gaza & the #WestBank. pic.twitter.com/rWdrMK0KHA
— Nawaf Salam نواف سلام (@nawafasalam) June 6, 2015
وصف أيضًا محرر صحيفة “جيروزالم بوست” الإسرائيلية، هيرب كاينون، موقف سلام بقوله: “هناك من يشك بالطريقة التي سيحكم بها القاضي اللبناني في قضية إبادة جماعية ضد إسرائيل؟ تخيّل أن القاضي اللبناني سلام يصوت ضد أمر قضائي يدعو إسرائيل لوقف الحرب بغزة بسبب مخاوف من ارتكاب إبادة جماعية، ثم يعود لبيروت ويشرح للحكومة اللبنانية التي تضم وزراء من حزب الله”.
يشير حديث كاينون إلى استبعاد أن يتخذ سلام قرارًا مماثلًا لقرار نائبته كما فعل في المرة الأولى، فمن ناحية يُعرف عنه موقفه المزعج للاحتلال -وإن بدا الرجل محايدًا وفق القانون-، فقد سبق أن دعا إلى عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، وهو ما يعني الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
إذا كان للمحكمة أن تصدر حكمها استنادًا إلى الميول السلبية للبلد التي ينتمي إليها رئيسها تجاه “إسرائيل”، فقد يكون حكمه مزعجًا للاحتلال الإسرائيلي، فهو ينتمي إلى دولة عربية يتحكم في أركانها “حزب الله”، الذي يمثل الجبهة الثانية ضد الاحتلال الإسرائيلي في هذه الحرب على الحدود الشمالية، والمدعوم من إيران العدو اللدود لـ”إسرائيل” في المنطقة، والتي تخوض أذرعها العسكرية في لبنان وسوريا والعراق يوميًّا مناوشات ترقى إلى حدّ المواجهة المباشرة في بعض المناطق.
رغم موقف القاضية الأوغندية، فإن صوت الشارع في أفريقيا أكثر صخبًا وتأثيرًا في الحكومات حسبما يُقال، ويكون في كثير من الأحيان ضابطًا لموقف الحكومة في مثل هذه القضايا، إذ عمَّت المظاهرات معظم دول أفريقيا بما في ذلك التي تناصر حكوماتها تل أبيب.
وفي حين كانت الضربة الأكبر من جنوب أفريقيا، أحرجت ناميبيا ألمانيا التي تعهّدت بالدفاع عن “إسرائيل” قضائيًّا، وذكّرتها بتاريخها الدموي في البلد الأفريقي الساحلي، وحتى بعض الدول التي ناصرت “إسرائيل” تراجعت عن ذلك، مثل كينيا التي سحبت بيان تضامن أصدرته في بداية الحرب، وتشاد التي سحبت القائم بأعمالها لدى تل أبيب.
يرى الصحفي وصانع الأفلام الألماني أنتوني لوينشتانين، أن الجهود الدبلوماسية التي بذلتها “إسرائيل” والمكاسب التي حققتها في أفريقيا مهدَّدة بسبب الحرب الحالية، وآية ذلك العزلة التاريخية التي واجهتها في أفريقيا بعد حربَي 1967 و1973، واللتين لا تزال آثارهما تظهر حتى اليوم.
شيئًا فشيئًا تتحول “إسرائيل” إلى عبء على داعميها، وهي التي أمنت في ظل حمايتهم العقوبة عقودًا طوالًا، فقد كانت تحتل أراضي الفلسطينيين وتتوسع فيها، فإن قاوموها قتلتهم بتهمة الإرهاب، وصرخت في وجه العالم، لا سيما الغربي: “هل تسمحون بهولوكوست آخر لنا؟ ألم تقولوا إن ذلك لن يحدث مرة أخرى؟”، فبأي أذن سيسمع سلام مثل هذه النداءات؟