انتهت مذبحة حماة عام 1982 بتسوية أحياء كاملة بالأرض، بما فيها أحياء المدينة القديمة – البارودي والكيلاني والحميدية والخضر وغيرها -، وقضت على عدد كبير من السكان، وزج بالآلاف من الشباب في مراكز الاعتقال والسجون العسكرية، كما فرّ العديد من أبناء العائلات الحموية الكبيرة وشقوا طريقهم في مجتمعات الشتات ببلاد مختلفة، في حين لا يعرف حتى يومنا هذا مصير 17 ألفًا تم اعتقالهم آنذاك.
وأخضع جيش الأسد بعد تطهير المدينة، الناجين أو من لم يستطع الهروب للاستجواب في معسكرات اعتقال مؤقتة أقامتها المخابرات، وبحسب شهادة بعض المعتقلين، فإن ما يسمى بـ”كرسي سليمان”، المزود بمسامير حديدية وشبيه بوسائل تعذيب محاكم التفتيش في إسبانيا، كان يُعرض عليه أي سجين يتردد في الكلام.
ووفقًا لكل من منظمة العفو الدولية وجماعة الإخوان المسلمين، فقد تم أخذ مجموعات من السجناء المشتبه في أن لديهم مشاعر مناهضة للنظام من معسكرات الاعتقال، وإطلاق النار عليهم بالرشاشات بشكل جماعي، ثم تم إلقاؤهم في مقابر جماعية محفورة مسبقًا وتركت دون علامات.
كما ذكرت منظمة العفو الدولية أن النظام أدخل حاويات “غاز السيانيد” إلى المدينة، وتم ربطها بأنابيب مطاطية بمداخل المباني التي اعتقد أنها تؤوي المتمردين، ثم تم تشغيلها، ما أدى إلى مقتل كل من بداخل هذه المباني. بجانب أن جنود النظام سرقوا محتويات منازل أهل حماة وممتلكاتهم التجارية وبيعت في أسواق خاصة.
ربما نجادل بأن مذبحة حماة لم تكشف فقط عن قدرة النظام الفائقة على اختراق وكسر المجتمع، بقدر ما كشفت أيضًا عن ضعف وهشاشة جبهة المعارضة، وكذلك موقف الدول العربية التي التزمت الصمت حين كانت الطائرات والمدفعية السورية تدك حماة خلال الأسابيع الثلاث الأكثر دموية في تاريخ سوريا، ما بين 2 و 28 فبراير/شباط 1982.
ورغم ظن الكثيرين أن مذبحة حماة ستكون صرخة حاشدة لإشعال ثورة جامحة في جميع أنحاء البلاد وسيشهد النظام انشقاقًا واسع النطاق، مثلما تنبأت جماعة الإخوان المسلمين، فإنها أصبحت نقطة الانهيار.
يجادل “نيكولاس فان دام” أحد الباحثين المعروفين بدراساته عن النظام السوري في كتابه الشهير “الصراع على السلطة في سورية”، بأن الروابط العائلية والانتماءات الطائفية كانت عوامل حاسمة في تحديد تركيبة النخبة العسكرية في عهد الأسد الأب، وأن هذه الخطوة لم تضمن فقط ولاء وحدات الجيش وعناصر أمنية معينة للأسد، بل منعت العصيان وسمحت للنظام بالخروج سالمًا بعد مذبحة حماة.
لكن ربما السؤال الأهم، هل تخيل الشعب السوري هذه الوحشية التي وقعت في حماة، هل تفاجأ السوريين في دمشق وحلب وأماكن أخرى من رؤية ما حل بحماة.
قد يرجع البعض رد الفعل الضعيف للمجتمع السوري إلى الرغبة بتقليل التكاليف وتجنب أي فعل من شأنه أن يعيد نموذج حماة إلى مدنهم من أجل البقاء، لكن يبدو واضحًا أن مذبحة حماة تركت آثارًا عميقة على الشعب السوري، وقد يكون الكثير منهم شعروا بالغربة والخوف، وتفاجأوا بمدى معاناة العديد منهم.
من المهم ملاحظة أن الغياب شبه الكامل لأي شكل من أشكال المقاومة يشهد على حالة الهلع والصدمة واليأس التي عانى منها المجتمع بعد مذبحة حماة، قد نقرأ تفاصيل هذه الصدمة في خطابات الجميع بمن فيهم الأشخاص الذين قاتلوا ضد الأسد. وحتى بحلول أوائل التسعينيات، كان أبو مصعب السوري يأسف على اللامبالاة التي يكنها المقاتلون السوريون تجاه الدعوة لجهاد النظام، مما يشير إلى الصدمة التي مني بها الجميع.
وفي الواقع، فإن “نوبات الدعم” للأسد بعد مذبحة حماة والتبجيل المبالغ فيه على قدر ما تبعث على السخرية، ولا ينبغي حقيقة أن تقرأ باعتبارها تأييدًا لشرعيته، فإنها أيضًا توضح كيف كان الخوف هو إستراتيجية الأسد وأحد الأعمدة الرئيسة التي مكنت النظام من إعادة تأكيد سلطته على البلاد بأكملها.
فيديو شهادة على مجزرة حماة
لا يمكن التقليل من الآثار التي خلفتها مذبحة حماة على المجتمع، ودور “الرعب والقلق” الذي زرعه نظام الأسد من أجل التحذير من خطر التحدي مرة أخرى، وفي الواقع، فقد زادت سلطة النظام وتوحشه بعد المذبحة، وكانت المراقبة والترهيب والاعتقالات ومداهمة المنازل والسجون العملاقة والتعذيب ومراقبة العناصر الأمنية للشوارع والاستلاب النفسي والسياسي للمجتمع جزءًا من جدول الحياة.
والأسوأ من ذلك، الانتقام من الأهل، إذ اعتقل النظام أفراد عائلات الأشخاص الذين لم يتمكن من اعتقالهم في 1982، و كمحاولة للضغط على بعض السوريين الموجودين بالخارج، كما كان النظام يهدد صراحة باعتقال الأهل إذا ما حاول أي فرد منهم تحدي النظام.
لقد توغلت قوات الأمن في المجتمع بعمق ونجحت في السيطرة على سلوك السوريون الذين اضطروا بطريقة أو بأخرى إلى التأقلم مع واقع لا يطاق، وقد ذكرت صور الأسد ومقرات حزب البعث والمنشآت الأمنية المنتشرة في كل مكان برمزية الانتقام في حالة ما ثار الناس، أو ما يسميه الباحث بلال ساليمه بـ”شخصنة النظام”، وبالتالي بالخوف والقمع أصبح الأسد هو الإمكانية الوحيدة، عاشت البلاد بالضبط رواية جورج أورويل 1984.
يوم أسقطنا تماثيل الأسد
لكن رغم كل ما قام به النظام، فقد خشي بالفعل من الكابوس الحموي مستقبلًا، لقد فقد شرعية حكمه بلا رجعة وبشكل لا يمكن إصلاحه بعد أن قتل أعدادًا كبيرةً من أهل المدينة، ولا شك أنه شعر بذلك، هو يعلم تمامًا أن ذاكرة المدينة تقف ضده، وقد يكون حاول استرضاء بعض الفئات.
وما يلفت الانتباه أنه بعد المذبحة، شكلت نفقات الأمن الداخلي والدفاع أكثر من نصف إجمالي النفقات الحكومية، لقد أصبحت سوريا واحدة من 10 دول يبلغ إجمالي نفقاتها العسكرية أكثر من 10% من الناتج القومي الإجمالي.
الصندوق الأسود | بالحديد والنار حُكمت حماة
ويلاحظ أن من أوائل الأشياء التي قام بها النظام بعد المذبحة، إعادة هندسة حماة حضاريًا وفق تصوره الأمني الخاص، وبحيث تكون المدنية مستقبلًا سهلة الحصار والاقتحام عسكريًا، بجانب ضمان عدم وجود أي مكان يمكن أن يتحصن فيه الناس.
هندس النظام مواقع الأفرع الأمنية لمداخل المدينة ومخارجها بحيث تكون مكشوفة ومطوقة بالكامل، وفكك ما تبقى من شوكة مجتمع حماة من خلال تطهير عدد من المؤسسات الإسلامية والاجتماعية وتحويلها إلى تابعة له، وسيطر على الخطاب العام من أجل القضاء على الروح الدافعة والنشاط المتجدد لهذه المدينة، واتخذت خطوات عملية لاجتثاث “الإسلام الثوري” من حماة، والترويج لظاهرة “الإسلام الرسمي” كجزء من الجهود الحثيثة لإغلاق كل السبل أمام “الإسلام الثوري”.
كذلك سعى النظام إلى الحصول على الدعم الرسمي من عدد قليل من علماء السنة مثل المفتي آنذاك أحمد كفتارو والشيخ الكردي سعيد رمضان البوطي، الذين أشادوا بالنظام بشكل أعمى.
في الواقع، بعد مذبحة 1982 تضررت نواة المجتمع الحموي بشكل كبير وضعفت الحركة الإسلامية، عمليًا، تمت تصفية القيادة الإسلامية بأكملها في حماة، من الشيوخ إلى المعلمين إلى القائمين على رعاية المساجد. يبدو أن النظام نظر إلى هذا المجتمع باعتباره مشكلة في حد ذاته، ويشير العديد من ساكني حماة إلى مشكلة التهميش والتمييز والعزلة التي فرضها النظام على حماة بعد المجزرة، والأسوأ انفصال المدينة عن باقي المدن السورية وحرمانها من أن تكون محطة رئيسة على الطرق البرية.
هيمنة مطلقة للنظام على حماة، المجتمع منقرض، أو على الأقل مفكك ومقموع بالكامل، لا يوجد أي مجتمع منظم سياسيًا، ومن المؤكد أن حماة ظلت على الحداد لفترة طويلة، مع العلم أن السكان منعوا من إحياء ذكرى المجزرة وتم تخويفهم وإجبارهم على الصمت، وكان من المحرمات في كل سوريا أن يتكلم أحد عنها.
ويذكر الباحث والمؤرخ الحموي سليمان الحراكي أنه قبل الثورة السورية 2011، أقام محاضرة في مدينة حماة تتعلق بتاريخ المدينة وعرض فيها صورًا للأحياء الأثرية التي أبادها النظام في 1982، وعلى الفور تم التحقيق مع سليمان، وهدده رئيس فرع الأمن العسكري العميد محمد مفلح بالاعتقال إذ استمر في ذكر تاريخ المدينة بالثمانينيات، وبحسب سليمان، فإن الأجهزة الأمنية بحماة ظلت تهدد الأهالي دائمًا بالقول: “أي حراك بنرجعكم للماضي”.
وحين نذهب لأرشيفات حماة، نجد أنه بعد 1982 لا يوجد أثر للاحتفالات العامة رغم تعدد هوايات وأنشطة المدينة الاجتماعية والثقافية وتميزها ببعض الطقوس الاجتماعية دون بقية المدن السورية، بل حتى احتفالات الزواج والولادات يبدو أنها كانت تتم في أجواء حميمة أكثر سرية. وفي الواقع، ظلت المدينة بعد المجزرة ولأكثر من 10 سنوات تغلق كل المحلات فيها عند الساعة الخامسة مساءً، ما يدل على الارتداد المجتمعي الكبير.
ويذكر فضل عبد الغني مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أنه عندما حاول البحث في أرشيفات الدول عن مجزرة حماة، وجد أنها غير مذكورة، ولم يجد أي إشارة للمجزرة إلا في بعض التقارير الغربية والقسم الأكبر منها يحمل رواية النظام، وحتى الآن، لم تشر هيئات الأمم المتحدة مطلقًا إلى مذبحة حماة عام 1982، رغم أن القتل والاختفاء القسري الذي مارسه النظام يشكل جرائم ضد الإنسانية.
وبكل أسى، حاول البعض ترسيخ صورة نمطية مشوهة ومختزلة عن “أحداث حماة 1982″، وتكريس وصم “التشدد والتطرف” بسكان المدينة، الأمر الذي أدى إلى استباحة حقوق الناس بحماة، وصرف الانتباه عن المجزرة ومشكلة سوريا الحقيقية. ويرى الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، أن أهمية مذبحة 1982 أبعد من كونها تمثل صراعًا بين النظام والإسلاميين، إنما كانت نقطة النهاية لأي حقوق سياسية لجميع السوريين.
أصداء مجزرة حماة ٨٢ مازالت تتردد في جنباتها
مدينة حماة تجسد المدى الوحشي الذي بإمكان عائلة الأسد أن تصل إليه دون أن يرف لها جفن، وكانت بمثابة رسالة محفورة بالدم للشعب السوري، وبيان رعب لكل من يعارض العائلة الأسدية البربرية.
المجزرة ليست عادية، فهي لم تقع خلال قصف أو هجوم امتد…
— Fadel Abdul Ghany (@FADELABDULGHANY) February 2, 2024
لكن رغم كل هذه المحاولات للسيطرة على السكان وتفكيك بنية المجتمع في حماة، ومحاولات التغيير من البنية الديمغرافية، استطاع أهل حماة أن يحافظوا على نسيجهم الاجتماعي وروابطهم العائلية، وحتى المساجد التي دمرها النظام، بناها أهل حماة بأنفسهم، إذ يشير الحموي سليمان الحراكي بأن النظام لم يبن مسجدًا واحدًا في مدينة حماة بعد تدميرها عام 1982.
وثائقي عن مجزرة حماه 1982 سجل عام 1984
في النهاية من الممكن القول إن مجزرة حماة 1982 أحدثت تغيرًا هائلًا في حياة المجتمع الحموي، إذ لا يوجد بيت لم يتأثر بالمجزرة، والواضح كذلك أن هذه المجزرة خلفت آثارًا اجتماعية خطيرة وتركت عبئًا نفسيا كبيرًا على المجتمع السوري ككل.
لقد نفّذ حافظ الأسد واحدة من أكثر المذابح دموية في تاريخ المنطقة، وحقق هدفه على نهر من دماء الشعب السوري، لكن غَرْس الخوف الهائل لم يدعم سلطة النظام الذي اعتقد أنه آمن العرش بعد حماة ودمر أي احتمال لظهور مجتمع سياسي، فبنهاية المطاف لم تغير القوة الغاشمة المجتمع إلى حد كبير رغم اعتقاد الكثيرين أن دولة الأسد محصنة ضد الثورة.
فبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، أثبتت الأيام أن مذبحة حماة ستؤدي إلى صراعات أطول وأكثر دموية، ومن المفارقات أن بداية الثورة في 2011 أعادت إلى أذهان السوريين مذبحة حماة، وصرخ الثوار بعبارات تعبر عن الطريقة التي غذى بها الوعي أحداث الماضي ومظلومية المدينة، مثل “لن نسمح بتكرار مجزرة حماة” – “مات حافظ وحماة لم تمت” – “سيموت بشار وحماة لن تموت” – “عذرًا حماة سامحينا”.
أضخم مظاهرة في حماة
لذا فإن دراسة هذه الحلقة التاريخية أمر في غاية الأهمية للحصول على فهم أفضل للثورة السورية في 2011. لقد دفعت حماة الثمن مسبقًا في 1982، أما سوريا فقد شهدت حموات أخرى على يد الابن وأسوأ بكثير مما ارتكبه الأب، وما زالت تعيش جراح التشرذم والمعاناة على يد العدوان الأسدي الذي لا يزال يلعب وفقًا للقواعد التي لعب بها في عام 1982.