السجن والحي العشوائي، رغم اختلافهما، يتشابهان. فالسجن مكان تابع لمؤسسات الدولة العقابية الذي يُحتجز فيها من ارتكبوا جرائم مخالفة للقانون، أما الحي العشوائي فهي فضاء عمراني مهمّش داخل حدود الدولة يضمّ عددًا من السكان، ضمن نمط حياتي متواضع.
نبحث في هذا التقرير أوجه التشابه بين العشوائيات والسجون في مصر، لناحية شكل العمران والظروف المعيشية، والأعراف والقوانين الأخلاقية التي يخضع لها السكان، كما نظرة السلطة السياسة النابذة لهما.
العمران والخدمات
تتّسم عمارة السجون المصرية بالتنوّع، نظرًا إلى أنها بُنيت في مراحل مختلفة من التاريخ المصري الحديث، وكل سجن له تصميمه الذي من خلاله يتحكم في شكل معيشة السجناء بداخله.
لكن رغم اختلاف مساحات السجن، إلا أن السلطة السجنية لا تهتم براحة السجناء، بل تنتهج ممارسات ضمن حياة مرئية، تنتهك القانون اللفظي الذي يصون حقوق السجناء.
تتمثل هذه الممارسات في تكدُّس عشرات السجناء في زنازين صغيرة ضيقة، فتُقاس مساحة السجين الواحد بالسنتيمتر مربع، وهذا هو المكان الذي يقضي فيه السجين مدة سجنه لشهور أو سنوات طويلة، أيضًا تفتقد السجون لوجود خدمات جيدة، مثل دورات مياه، فثمّة زنازين ليس بها أي حمّامات، وإن وُجدت تكون بلا نظام صرف صحي حديث (قاعدات بلدي).
كذلك تنتفي مقومات الحفاظ على الصحة النفسية والجسدية للسجناء، فلا يوجد ساعات كافية للخروج وممارسة الرياضة ورؤية الشمس وتنفُّس الهواء، كما تنعدم أي جودة جيدة أو حتى متوسطة للطعام والشراب الذي يقدَّم للسجناء، فضلًا عن ممارسات مختلفة من العقاب والإذلال داخل منظومة سجنية تدمّر السجين لا تصلحه.
كل هذا تتّسم به الحارات العشوائية، فهي عبارة عن بيوت رديئة صغيرة مكدسة ترتصّ بعشوائية في حارة صغيرة داخل منطقة بعينها، تفتقد هذه البيوت وساكنوها إلى كل المقومات التي يفتقدها السجناء، فلا مساحة آدمية يعيشون فيها تسمح لهم بشيء من العيش والنوم والخصوصية والراحة.
كذلك تفتقد هذه البيوت، والتي هي بمثابة زنازين صغيرة بلا سجّان، إلى خدمات البنية التحتية، من شبكات ريّ وصرف صحي تزود ساكنيها بحياة نظيفة، يستطيعون من خلالها العيش بلا أمراض أو أوبئة، كذلك لا تتوفر في هذا الحيز الضيّق مقومات صحية نفسية أو جسدية من حيث المناخ البيئي، فهذه المناطق تزدحم بالورش الحرفية الصغيرة وعوادمها.
القوانين الأخلاقية
من حيث القيم الأخلاقية، والتي تتحول مع الوقت إلى قوانين عرفية يتبعها السكان، فتتشابه الكثير من هذه الأعراف بين السجن والحارة العشوائية، إذ أشهر قانون سجني هو ما يعرَف بالأقدمية، والأقدمية هنا تعني وجود سجين قديم في عنبر السجناء، لكنه في غالب الأمر سجين قوي مفتول العضلات، وله سجلّ إجرامي كبير.
يكون السجين هذا هو رئيس العنبر (مسيّر أو نبطشي)، وهو من يتحكم في شكله وممارساته اليومية، من توزيع الخدمات على السجناء الآخرين، كما في حلّ المنازعات، وغير ذلك من أمور تخصّ السجناء، لذا يسعى جميع السجناء الآخرين إلى التودُّد له وإرضائه كي ينالوا قدرًا أفضل من المعيشة داخل السجن.
كما يعمل نبطشي العنبر مع السلطة داخل السجن، في إبلاغهم عمّا يدور داخل العنبر من السجناء من ممارسات جنسية، ومحاولات للإضراب، والانتحار، والهروب، والحديث في السياسة، إلى آخره من ممارسات تحرّمها السلطة.
أيضًا في السجون من يفرض وجوده بالقوة، والتي تتمثل في جسد ضخم يستقوي على الضعيف، أحاديث بلسان خشن لا تنتابه الليونة، فلا مكانة لسجين لا يبرز كل علامات الذكورة والفحولة، هذه هي القوانين الأخلاقية التي يعيش بها السجناء، مقلدين في ذلك السلطة، والتي هي أيضًا تعاملهم بفرض أخلاقها التي تعتمد على القوة لا على القانون الإنساني المنصوص عليه في لائحة مصلحة السجون.
في هذا تتشابه الحارة العشوائية مع السجن، فرجل الحارة ذو الجسد القوي، بالإضافة إلى سجلّ الشقاوة والإجرام، هو الذي يدير الحارة، حتى لو بشكل غير معترف به، من خلال حلّه النزاعات والمشاكل بين سكان هذه الحارة، وهذه الحلول أيضًا ترجع إلى مصالحه الشخصية، وهذا ما يدفع سكان الحارة إلى التقرب منه، كما الخوف من إيذائه.
كما يتمتع رجل الحارة، أو نبطشيها بالمفهوم السجني، بعلاقات جيدة مع الجهاز الأمني، ويعمل مرشدًا لديها يبلغ عن المخالفين للقانون سواء بالحقيقة أو الادّعاء حسب هواه الشخصي، كما تستخدمه السلطات في مساعدتها على إيذاء أو اعتقال الفئات المعارضة للسلطة السياسية، تمامًا كما يفعل نبطشي العنبر داخل السجن.
أماكن منبوذي السلطة
السجناء هم المنبوذون من السلطة، والتي حاولت عبر عقود مضت، بواسطة أدواتها المرئية من برامج وأفلام ومسلسلات، تشويه صورتهم وتمثيلهم كأنهم وحوش بلا أخلاق، لا يستحقون سوى الإذلال والانتهاك.
والسلطة بالأساس هي التي تخالف نصوص الدستور، التي تفرض عليها أن يكون السجن مكانًا لتأهيل السجين، وتحسين حالته الأخلاقية والنفسية والجسدية للرجوع مرة أخرى إلى المجتمع كإنسان مستقيم يبني لا يهدم، لكنها وعبر ممارساتها تحوّله بالفعل إلى إنسان أكثر إجرامًا ووحشية تجاه ذاته، والمجتمع من حوله.
فالسجن تعدّه السلطة مكانًا لإخفاء منبوذيها بدلًا من إصلاحهم، كما في حال السجناء الجنائيين، أو حتى مكان عزل السجناء السياسيين كمنبوذين أيضًا بنظرها، بدلًا من الحوار معهم.
أيضًا تتعامل السلطة السياسية مع المناطق العشوائية كأنها غير موجودة في مسؤوليتها، فتعمل على تجاهلها أو حتى، وكما يحدث في آخر سنوات، بيع أراضي هذه المناطق، ونقل سكانها (قسرًا) إلى أماكن أخرى بهدف التطوير، لكنها لا تعمل على تطوير المناطق من أجل سكانها، والذين هم مواطنو الدولة، وواجب السلطة تحسين حياتهم ومناطقهم لا إزالتهم منها.
كذلك تتخذ السلطة السياسية السيناريو ذاته مع السجون كما مع الحارات العشوائية عند الزيارات الحقوقية والدبلوماسية، ففي السجون تعمل السلطة السجنية ليوم واحد فقط على تحسين جودة السجن وحياة السجناء داخله، عند زيارات وفود حقوق الإنسان سواء كانت محلية أو دولية، فتصبح العنابر والزنازين نظيفة مرتبة، وتفتح الأبواب للسجناء بهدف ممارسة الرياضة، ويطبخ الطعام بجودة جديدة.
وهذا يتشابه مع ما تفعله السلطة السياسية خارج السجن مع المناطق العشوائية، إذ هي تفضّل تجاهل المناطق العشوائية دون زيارتها أو مرور المواكب من أمامها، وتختار شوارع المدينة الرئيسية بعد تلميعها جيدًا، بل تطويقها أمنيًّا حتى لا يخرج إليها قاطنو مناطق العشوائيات، حتى لا يشوّهوا، بنظرها، الفضاء البصري العام المجمّل من أجل الزيارات والوفود الدبلوماسية.
هذا التشابه من حيث العمران والأخلاق لساكني السجون والحارات العشوائية، ما هو إلا نتاج سياقات عمرانية وأخلاقية صنعتها السلطة السياسية في أحايين، وفي أخرى وجدتها، لكنها لم تعمل على إصلاحها، بل كرّست تهميشها، فما يهمّها هو استمرار هيمنتها وبقاؤها، لا تحسين حياة هؤلاء السجناء والمهمّشين، من خلال إخفائهم وعزلهم ونبذهم وإذلالهم.