يبدو أن تغيير الإستراتيجية الإسرائيلية في ضرب أهداف إيرانية في سوريا بعد السابع من أكتوبر، هي ضريبة يدفع ثمنها المدنيون السوريون في مناطق نظام الأسد، فمع انتقال “إسرائيل” من استهداف شحنات الأسلحة الإيرانية في المطارات والموانئ أو في أثناء عبورها إلى سوريا عن طريق العراق، إلى استهداف الشخصيات البارزة وقيادات الحرث الثوري التي تسللت تحت جنح الظلام إلى الأحياء المأهولة بالمدنيين، وجد السوريون أنفسهم ضحايا الغارات الإسرائيلية التي باتت تتكرر بشكل شبه يومي منذ عملية طوفان الأقصى.
والأربعاء الماضي استهدف قصف صاروخي إسرائيلي مواقع عدة بمدينة حمص وسط سوريا، أدى إلى مقتل 9 أشخاص بينهم مدنيون وإصابة 13 آخرين، وذلك بحسب ما أعلنته وكالة أنباء النظام “سانا”.
طبيعة المكان المستهدف
قد لا يكون خبر القصف لافتًا، إذ يأتي ضمن إستراتيجية اتبعها الجيش الإسرائيلي منذ 2013 وأطلق عليها اسم “المعركة بين الحروب”، وهي كما ذكرنا تستهدف إيران وأذرعها في سوريا، إلا أن اللافت للنظر هذه المرة هو طبيعة المكان المستهدف وموقعه، فبالإضافة إلى مرآب مديرية الموارد المائية وقاعدة الشعيرات ومزارع في حي الوعر، استهدف القصف أيضًا منزلًا في حي الحمراء الراقي وسط مدينة حمص، لا يبعد 300 متر عن مقر مبنى أمن الدولة، إلى جانب مناطق مدنية قرب الملعب المدني و منطقة الأوراس.
مصادر محلية متطابقة أكدت لموقع “نون بوست” أن المنزل المستهدف في حي الحمراء مكون من ثلاثة طوابق وتعود ملكيته للسيدة نبيلة رسلان، التي قُتلت هي وابنها محمد حسن موصلي المقيم في الولايات المتحدة، والذي كان في زيارة لوالدته.
وبحسب هذه المصادر فقد أدى الاستهداف أيضًا إلى مقتل 5 شبان، عُرف منهم أنس إيبو وعبد الجبار السيد وعبد الرحمن السباعي، فيما عثرت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام على جثتين مجهولتين بالعقد الثالث من العمر على سقف بناء الملعب البلدي القريب من موقع الانفجار، لتعمل فرق الهلال الأحمر على نقلهما إلى أحد المستشفيات.
وأكد مصدر مقرب من “حزب الله” لوكالة الصحافة الفرنسية، مقتل اثنين من مقاتليه خلال الغارة الليلية الإسرائيلية على حمص مساء 7 فبراير/شباط.
وعن تفاصيل أكثر عن طبيعة المكان نقل “المرصد السوري” عن مصادره الخاصة أن “قبو البناء كان يسكنه 3 طلاب جامعيين قتلوا في الاستهداف، والطابق الأول كانت تقطنه سيدة وابنها وهي صاحبة البناء، والطابق الثالث كان يقطنه أشخاص استأجروا الطابق، وهم من جنسية غير سورية، لا يعلم إن كانوا مستشارين إيرانيين أم لبنانيين أم من جنسيات أخرى”.
المُستأجر مجهول
كثيرًا ما يتفاجأ المدنيون في المناطق المستهدفة بوجود قيادات أو عناصر من المليشيات التابعة لإيران أو “حزب الله” تسكن بينهم، إذ غالبًا ما تستولي هذه القيادات على المنازل التي سافر أصحابها أو هُجرّوا، إما عن الطريق السيطرة المباشر وإما الاستئجار وإما البيع، إذ يضطر أصحاب هذه المنازل إلى بيعها خوفًا من سيطرة النظام والمليشيات عليها، خاصة بعد إصدار النظام لقوانين وضع من خلالها يده على أملاك سوريين معارضين ومنع أقاربهم بالتصرف فيها.
وكما ذكرنا غالبًا ما يكون المستأجر أو الشخص الذي يشتري المنزل مجهولًا لصاحب المنزل، وفي هذا السياق أكدت مصادر خاصة لـ”نون بوست” أن السيدة التي قتلت في قصف حي الحمراء لم تكن تعلم أن الأشخاص الذين استأجروا الطابق الثالث من منزلها كانوا قيادات في “حزب الله” اللبناني.
وتوضيحًا لهذا الموضوع يقول الباحث في الشأن الإيراني بمركز “كاندل” للدراسات عباس شريفة: “أغلب الذين يستأجرون هم عبارة عن وسطاء، أي أن صاحب البيت لا يعرف بالحقيقة هوية المستأجر، إذ يؤجر لأشخاص بأسماء مجهولة، ولا يعلمون ذلك إلا بعد أن يتم استهداف المكان من الطيران الإسرائيلي”.
ويضيف الباحث شريفة لموقع “نون بوست” أنه ليس هناك نية لأصحاب البيوت بتأجير هؤلاء القيادات، إذ يعمد الوسطاء إلى إخفاء هوية المستأجر الحقيقي لدواعي أمنية، وعدم الوشاية به.
إلى جانب ذلك تلجأ هذه القيادات إلى السيطرة على بيوت لشخصيات مشهورة ومعروفة في المجتمع، والتي هاجر أصحابها بسبب الحرب، وفي هذا السياق ذكر مصدر خاص لـ”نون بوست” (رفض الكشف عن اسمه لدواعي أمنية) أن قياديًا من “حزب الله” استولى على مزرعة في جنوب حمص لرجل أعمال معروف اسمه عبد الوارث التركماني، يقيم حاليًا في الجزائر.
وأضاف المصدر أن الأهالي تفاجأوا بقصف الطيران الإسرائيلي لهذه المزرعة، إذ كانوا يظنون أن من يسكن فيها هو أحد أصدقاء رجل الأعمال التركماني.
تغيير إستراتيجية السكن
بالتزامن مع التصعيد الميداني في قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، واستهداف الطيران الإسرائيلي لعدد من قيادات الصف الأول من قيادات الحرس الثوري الإيراني في سوريا، والتي كان من أبرزها مقتل خمسة من قادة الحرس في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، وما سبقها من اغتيال القيادي البارز في الحرس الثوري رضي موسوي أيضًا بضربة جوية إسرائيلية استهدفت منزله في منطقة السيدة زينب جنوبي دمشق.
إثر هذا التصعيد لجأت القيادات التابعة لإيران إلى إستراتيجية جديدة تعتمد على تغيير أماكن سكنها التقليدية، فبعد أن كانت هذه القيادات والمستشارين يسكنون في المناطق التي تؤمن حاضنة شعبية لهم، بدأت تنتقل للسكن ـ ولو مؤقتًا ـ في المناطق الراقية من المدن السورية. وهذا ما تجلى بعد الإعلان عن استهداف المستشار في الحرس الثوري سعيد عليدادي في 2 فبراير/شباط الحاليّ، حيث كشفت وسائل إعلام إيرانية أنه قُتل في منطقة المزة (فيلات غربية) في ضواحي دمشق، ويعتبر هذا الحي من الأحياء الراقية التي يسكنها التجار ورؤوس الأموال في دمشق.
لا يقتصر الأمر على دمشق فقط، إذ يؤكد المواطن (ج، م) من أبناء حلب الشرقية، أن المليشيات الشيعية بدأت تنتشر في تلك الأحياء بعد سيطرة قوات النظام عليها أواخر العام 2016، مستغلة الحالة العشائرية هناك، حيث كانت تنتشر هذه القيادات والعناصر بشكل علني، وتسكن في الأحياء الشعبية، إلا أن هذا الأمر اختلف في الآونة الأخيرة.
يضيف (ج،م) أنه لم يعد يرى تلك القيادات أو حتى العناصر بلباسهم المعروف، متوقعًا أن يكونوا قد انتقلوا للعيش في مناطق الحمدانية وحلب الجديدة، وهي من المناطق الراقية في مدينة حلب.
من ناحيته يؤكد الباحث بمركز جسور للدراسات رشيد حوراني أن “المليشيات باتت في الآونة الأخيرة تنتشر بين المدنيين، وتقيم في ممتلكات المهجرين منهم، كما تستخدم مرافق الدولة لخدماتها وأغراضها العسكرية؛ سواء للتمويه أم كمستودعات للتخزين أم مراكز للتدريب، والأماكن المستهدفة تقع ضمن هذه الإطارات المذكورة”.
لأسباب أمنية
لجأت قيادات المليشيات إلى تغيير أماكن سكنها والسكن بين المدنيين، بعد سلسلة من الاختراقات الأمنية التي كشفت من خلالها “إسرائيل” أماكن سكن هذه القيادات، وقامت بعمليات قتلت فيها كبار الضباط والمستشارين الإيرانيين في ضواحي دمشق، وذلك بحسب الباحث في الشأن الإيراني عباس شريفة.
أما السبب الثاني بحسب شريفة فيعود إلى عدم ثقة المستشارين الإيرانيين وقيادات المليشيات التابعة لهم بالنظام السوري الذي يقوم بتسريب هذه المعلومات وإعطاء الإحداثيات للجانب الإسرائيلي، كل ذلك دفع قادة المليشيات إلى اتخاذ إجراءات أمنية تتعلق بأماكن سكنهم المعتادة واللجوء إلى السكن ضمن الأماكن الراقية، وبيوت المدنيين.
وكانت خمسة مصادر مطلعة قالت لوكالة رويترز في وقت سابق إن الحرس الثوري الإيراني سحب كبار ضباطه من سوريا بسبب سلسلة من الضربات الإسرائيلية، وسيعتمد بشكل أكبر على الميليشيات المتحالفة معه للحفاظ على نفوذه هناك.
وأثار الحرس الثوري الإيراني مخاوفه مع النظام السوري من أن تسرب المعلومات من داخل “قوات الأمن السورية” لعب دورًا في الضربات الأخيرة، بحسب ما كشفته ثلاثة مصادر للوكالة.
وأشارت المصادر إلى أن الحرس الثوري سيدير العمليات في سوريا عن بعد بمساعدة حليفه “حزب الله”، وقال مصدر آخر، وهو مسؤول إقليمي مقرب من إيران، إن أولئك الذين ما زالوا في سوريا تركوا مكاتبهم وابتعدوا عن الأنظار، و”الإيرانيون لن يتخلوا عن سوريا لكنهم قلصوا وجودهم وتحركاتهم إلى أقصى حد”.