تشهد العلاقات بين العراق وتركيا تطورات هامة في إطار التعاون الأمني والاقتصادي، إذ يبحث الطرفان عن حلول شاملة للأزمة الأمنية التي تثيرها نشاطات حزب العمال الكردستاني (PKK) على الحدود العراقية التركية، وكذلك مشكلة القواعد العسكرية التركية داخل الحدود العراقية، ويعد هذا التحدي الأمني أحد أبرز العوائق أمام مشروع “طريق التنمية” المشترك.
ويؤكد مراقبون أنّ معالجة هذه الأزمة الأمنية بكافة أبعادها وجوانبها ليست مجرد ضرورة استراتيجية، بل تمثل أيضًا فرصة تاريخية للانتقال إلى مرحلة جديدة من التعاون الثنائي، والذي يتجاوز حدود الأمن ليمتدَّ إلى المجالات الاقتصادية والتجارية.
وشدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريح له يوم 12 فبراير/ شباط الجاري، عقب اجتماع الحكومة في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، على أهمية القضاء على ما أسماه التنظيمات الإرهابية من أجل تنفيذ مشروع “طريق التنمية” مع العراق.
زيارة الوفد التركي
قبل ذلك، تحديدًا في 6 فبراير/ شباط الجاري، ترأس وزير الدفاع يشار غولر وفدًا تركيًا عسكريًا رفيع المستوى إلى بغداد وأربيل، في خطوة اعتبرت على درجة كبيرة من الأهمية لمناقشة التحديات الأمنية التي تعترض مشروع “طريق التنمية”، وعلى رأسها النشاط المتصاعد لمسلحي حزب العمال الكردستاني في المناطق الحدودية بين البلدَين.
الكاتب والباحث بالشأن السياسي والأمني، أثير الشرع، يرى أن مسألة تحييد حزب العمال الكردستاني الذي يتمركز في شمال العراق وشمال سوريا واحدة من القضايا الرئيسية التي بحثها الوفد التركي مع الجانب العراقي كونها على رأس سلّم أولويات أنقرة.
ويبيّن الشرع في حديثه لـ”نون بوست” أن هناك العديد من المحاور ومجالات التعاون التي ناقشها وزير الدفاع التركي ومعه رئيس هيئة الأركان العامة متين جوراك، بما يضمن سلامة تركيا الداخلية وعدم توسيع دائرة نشاط العمال الكردستاني في المنطقة.
ويلفت الباحث إلى أنه خلال زيارة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى العراق في أغسطس/ آب الماضي، لم يتوصّل الجانبان إلى جملة اتفاقات حول مسألة إعادة تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان ومشكلة المياه وملف الحدود، ما يعني وجود الكثير من النقاط العالقة والمشكلات التي ما زالت سائدة بين العراق وجارته تركيا.
ويستبعد الشرع إمكانية التوصل إلى اتفاق قريب، بسبب شروط تركيا التي قد تكون “غير منطقية” أو “غير واقعية” من وجهة نظر العراق، وحتى سوريا.
ويُبرز الباحث أهمية إعطاء القضايا الأمنية الوقت الكافي للبحث والنقاش، مشيرًا إلى أن زيارة وزير الدفاع قد تمهّد الطريق لحلول مستقبلية، لكنه يشدد على أن التحديات الأمنية في المنطقة تتطلب جهودًا إضافية، وحوارات معمّقة للوصول إلى اتفاق وحل لكل المشكلات العالقة ما بين الدولتَين.
طريق التنمية والأمن الحدودي
علاوة على ذلك، يسعى البلدان إلى تأمين مسار مشروع “طريق التنمية” الذي يمتد من العراق إلى الحدود التركية، حيث يُعتبر هذا المشروع جزءًا أساسيًّا من الجهود الرامية إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية في المنطقة.
ورغم التحديات الكبيرة، يثير هذا المشروع تساؤلات حول إمكانية تنفيذه، مع استمرار أنشطة مسلحي حزب العمال الكردستاني الممتدة لأكثر من 4 عقود.
ويربط مشروع “طريق التنمية” الموانئ الآسيوية بأوروبا عبر طريق برّي سريع، وشبكة من السكك الحديدية الممتدة من ميناء الفاو جنوب العراق إلى موانئ تركيا، ويبلغ طوله 1200 كيلومتر داخل العراق.
وحول أهمية طريق التنمية بالنسبة إلى العراق وتركيا من الناحية الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، يقول الكاتب والمحلل السياسي نزار حيدر إنّه بالاعتماد على ما قدّمه رئيس مجلس الوزراء العراقي، محمد السوداني، فيما يخصّ هذا المشروع، فهو بلا شك يمثّل نقلة نوعية في طبيعة المشاريع الاستراتيجية في العراق والمنطقة، يستفيد منه البلدان الجاران على أكثر من صعيد.
وبالإضافة إلى بُعده الاقتصادي والتجاري، فهو -وفق حيدر- بمثابة المشروع الذي يدفع بالبلدَين إلى التعاون في المجال الأمني لحمايته من الأزمات التي تعصف بالحدود العراقية والتركية طوال العام، بسبب تواجد قوات العمال الكردستاني الذي تصنّفه كلا الدولتَين بالإرهابي.
ويضيف حيدر في حديثه مع “نون بوست” أنّ الانتشار العسكري التركي في عمق الأراضي العراقية، من خلال تواجد القواعد والمعسكرات، يزيد من قلق هذه المنطقة بشكل كبير، خاصة أنّه يتزامن دائمًا مع تصعيد عسكري تركي في العمق العراقي.
ويرى أنّ مشروع بحجم “طريق التنمية” يبحث أولًا وقبل أي شيء آخر عن الحاضنة الآمنة، خاصة أنّ العراق يفكر في الحصول على قرض ضخم من البنك الدولي لتنفيذ المشروع، والمؤسسات الدولية كما هو معروف لا تقدم قروضًا قبل أن تضمن نجاح المشروع من كل النواحي، فما بالك إذا كان المشروع يمرّ في منطقة قلقة جدًّا تشهد تصعيدًا أمنيًّا وعسكريًا شبه يومي؟
ويشدد حيدر على ضرورة تحرّك بغداد وأنقرة لإيجاد حلول جذرية مستدامة لملف الحدود المشتركة يقوم على أساسَين؛ الأول يتمثل في التعاون لطرد مسلحي العمال الكردستاني من الأراضي العراقية، أما الثاني فهو قيام أنقرة بتفكيك كل قواعدها ومقارّها العسكرية والأمنية داخل الأراضي العراقية، وأن تمتنع عن تنفيذ أي عمليات عسكرية جديدة في العمق العراقي.
ويعتبر حيدر أنّ التفكير بتنفيذ المشروع قبل حل الأزمة الأمنية هو ضرب من الخيال، لذا هي فرصة تاريخية تقف أمام البلدَين للتعاون الأمني الجادّ للانتقال الى التعاون الاقتصادي والتجاري المثمر من خلال هذا المشروع الاستراتيجي الحيوي، رغم شدة التحديات وتعدد المخاطر الدولية والإقليمية التي تواجهه.
ويعرب عن اعتقاده بأنّ بقاء مسلحي حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية، من شأنه استنزاف العراق وتخريب مشاريعه الاستراتيجية، وعلى رأسها “طريق التنمية”.
أزمة حزب العمال الكردستاني
تشهد مناطق إقليم كردستان العراق المحاذية لتركيا أزمة أمنية ناتجة عن تواجد حزب العمال الكردستاني في المناطق الجبلية والنائية، وهو ما يعزز من التحديات الأمنية والاقتصادية في المنطقة.
يقول المحلل السياسي محمود خوشناو إن حزب العمال الكردستاني ينتشر في مناطق نائية ذات تضاريس عصيّة وصعبة، ما يجعل الوصول إليها تحديًا كبيرًا للحكومتَين العراقية والتركية.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يشير خوشناو إلى أن عناصر وقيادات الحزب انتقلت إلى المناطق الجبلية في قنديل منذ ثمانينيات القرن الماضي، وحتى حكومات النظام السابق فشلت في الوصول إليهم آنذاك.
ويوضّح أن حل مشكلة حزب العمال الكردستاني ضروري لإنجاز مشروع “طريق التنمية” وغيره من المشاريع التنموية، رغم أن تواجد عناصر الحزب بعيد عن مسارات الطريق الاستراتيجي.
ويرى خوشناو أن استخدام القوة لا يحسم هذا الأمر، حيث إن تركيا بجيشها القوي وعلى مدى 4 عقود من الزمن كانت تتعامل عسكريًّا مع هذا الملف، ولم يتم حسمه، فكيف للعراق أن يحسمه بالقدرات العسكرية المحدودة، لافتًا إلى أنه ليس من المنطق زجّ الجيش العراقي في هذا الصراع المسلح، خاصة أن هذه الجماعات لا تستهدف العراق إنما صراعها مع تركيا فقط.
ويشدد على ضرورة بدء حوار مباشر بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، بوساطة عراقية وبحضور عراقي، مع التأكيد على أهمية تجنُّب استخدام الأراضي العراقية لأغراض هجومية أو توغُّل عسكري.
ويلفت المحلل السياسي إلى أن الصراع في هذه المناطق يؤثر سلبًا على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، مؤكدًا أن هذه المناطق أصبحت مركزًا للصراع العسكري والاستهداف من قبل القوات التركية.
ويعرب خوشناو عن اعتقاده بأن التعاون الاقتصادي بين العراق وتركيا قد يلعب دورًا في تخفيف التوترات الأمنية، مع التأكيد على أهمية حوار شامل بين الأطراف المعنية، مشيرًا إلى المحاولات السابقة للحوار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، مع التأكيد على أهمية استمرار الجهود نحو التسوية السلمية.
من جانبه، يتحدث الخبير الاستراتيجي صفاء الأعسم عن إبرام كثير من الاتفاقيات بين بغداد وأنقرة خلال الـ 20 عامًا الماضية، في سبيل تعزيز الأمن ما بين البلدَين ومنع حزب العمال الكردستاني من مهاجمة تركيا.
ويبيّن الأعسم في حديثه لـ”نون بوست” أن مسار مشروع “طريق التنمية” يبتعد عن خطوط التماسّ بأكثر من 20 كيلومترًا، ومن غير المرجّح قيام مجاميع حزب العمال بالتحرّك لإفشال المشروع.
وينوّه الخبير الاستراتيجي إلى أن حزب العمال الكردستاني لا يطمح إلى خلق مشاكل داخل العراق، لأنه يتحاشى المواجهة مع القوات العراقية، كما أنّ المؤسسة العسكرية العراقية جادة كليًّا في منع أي إشكالات قد تمسّ “طريق التنمية”، وهناك سيطرة أمنية كاملة على الحدود من بغداد إلى تركيا.