“الأمريكي سيُضيع انتصاركم في الموصل، الانتصار العراقي الحقيقي هو أن تُضرَبَ داعش، وأن يُعتَقَلَ قادتها ومقاتلوها ويزج بهم في السجون ويحاكموا محاكمة عادلة، لا أن يفتح لهم الطريق إلى سوريا، لأن وجودهم في سوريا سيشكل خطرًا كبيرًا على العراق قبل كل شيء”.
ربما لم يكن زعيم المليشيا مدركًا حينها أنه سيضع نفسه في هذا الموقف المتناقض بعد التنظير على العراقيين، وسيغدر بهم لتأمين جبهته ونفوذه في سوريا، يومها كان الحزب ما زال يعيش كوابيس التفجيرات التي ضربت عدة أماكن من لبنان بما فيها السفارة الإيرانية والضاحية، وكذلك هاجس المواجهة المحتملة في أي لحظة مع فصيلي “تنظيم الدولة الإسلامية” و”هيئة تحرير الشام”، اللذين كانا شوكة في خاصرته الشرقية، على طرفي الحدود السورية اللبنانية المتداخلة وذات الطبيعة الجغرافية الوعرة.
للتذكير، فإنه وفي بدايات الشهر الثامن من العام 2014، دارت اشتباكات عنيفة في بلدة عرسال وجرودها، بين الجيش اللبناني وحزب الله من جهة، وفصائل سورية متعددة على رأسها جبهة النصرة وتنظيم الدولة ومجموعات من الجيش السوري الحر، التي قاتلت موحدة، بعد أن نَحَّت جانبًا الخلافات الأيديولوجية، ونأت بنفسها عن الاقتتال الفصائلي، لقد كانت علامة فارقة في تاريخ الصراع مع المحور الإيراني في سوريا والمنطقة.
نجاح “حزب الله” في إبرام صفقته الأخيرة، مع العناصر المنضمين لـ”تنظيم الدولة” (أغلبهم من فصائل حمص والقلمون)، والاتفاق على انسحابهم إلى محافظة دير الزور (البوكمال)، يسدل الستار على مرحلة مهمة من الصراع العَقَدي، فقد نجح قبلها بأسابيع قليلة في إبرام اتفاق واسع نسبيًا، مع كل من هيئة تحرير الشام وسرايا أهل الشام، انسحب بموجبه مقاتلو الفصيلين ومعهم بضعة آلاف من اللاجئين السوريين، إلى محافظة إدلب (تحرير الشام)، ومدينة الرحيبة في ريف دمشق (سرايا أهل الشام).
وبهذا الاتفاق يكون الحزب قد أغلق ملف الأسرى العسكريين لدى “تنظيم الدولة”، وهم ثمانية من أصل ثلاثين كان قد تم أسرهم في عرسال، من قبل تنظيم الدولة وجبهة النصرة في العام 2014، حيث أبرم في العام 2015 اتفاق تبادل أسرى مع جبهة النصرة، خرج بموجبه العسكريون المحتجزون لديها، في حين قام تنظيم الدولة بإعدام حصته من الأسرى وهم ثمانية، وتسليم رفاتهم للحكومة اللبنانية بموجب الاتفاق الأخير.
قرار حزب الله صائب واتفاق القلمون جزء من استراتيجية المعركة ضد الإرهاب
كِلا الاتفاقين إضافة لاتفاق تبادل الأسرى في العام 2015، بين الحكومة اللبنانية وحزب الله من جهة، وتحرير الشام من جهة أخرى، يحسبان لعراب الاتفاقات اللواء عباس إبراهيم مدير عام الأمن اللبناني، الذي نجح من خلال الاتفاق الأخير مع تنظيم الدولة، في وضع نهاية لقضية العسكريين الأسرى وإغلاق ملفهم.
من المهم جدًا التأكيد على البُعد الاستراتيجي لهذه الاتفاقات، والذي عبر عنه المالكي (ذراع إيران القوية في العراق) بالقول: “قرار حزب الله صائب واتفاق القلمون جزء من استراتيجية المعركة ضد الإرهاب”، المالكي اتهم منتقدي الاتفاق بالجهلاء، ولعله محق في هذا، فالاتفاق نتاج تجزئة الملفات والتعامل معها بحسب الأولوية، مما سمح للمحور الإيراني بتنفس الصعداء، كون المنطقة ما عادت مهددة عسكريًا، وسيتمكن الحزب من السيطرة على طرفي الحدود التي ستخضع للنظام السوري وحزب الله لأول مرة منذ العام 2014، وهو ما يمنحهما أمانًا نسبيًا وإن مرحليًا، ما لم لم تحدث مفاجآت في الصراع الدائر شرق سوريا ضد تنظيم الدولة، إضافة لمآلات الوضع في إدلب.
إذ من غير المعروف ما إذا كان الموقف سيتطور عسكريًا، كما يشاع عن نية الثلاثي (روسيا – تركيا – إيران) التدخل عسكريًا في إدلب، بحلول نهاية الشهر الحالي سبتمبر/إيلول، أم أنه سيتم التعايش مع ما يمكن تسميته “الحالة الإدلبية” وإن مؤقتًا، لحين الانتهاء من التسوية السياسية المقترحة (مناطق خفض التصعيد) والتي ستفضي حتمًا لعودة شرائح واسعة من المعارضة السياسية والعسكرية لحظيرة الأسد.
إن طبيعة الحروب التي تخاض في المنطقة، وطول أمدها خاصة في سوريا، إضافة لتعدد أطرافها وتنوعها ما بين جماعات وتنظيمات ودول، واختلاف أيديولوجياتهم وأهدافهم وتنافر مصالحهم، جعلت من المستحيل عليهم توقع مآلات أي معركة، الأمر الذي أصبح يجبرهم على التريث واختبار البدائل الممكنة. فطول أمد الصراع استنزف القوى كافة، حتى ما عاد بالإمكان لطرف ما كـ”حزب الله” المغامرة بخوض غمار معارك مكلفة غير مضمونة النتائج، وهو ما يمكن أن يكون الدافع الرئيسي لتبني الحزب وحكومة لبنان لخيار التسوية، التي ضمنت لهما إبعاد خطر وجودي ولمئات الكيلومترات عن الحدود، لا سيما أن الخصم عنيد ومتمرس في المنطقة الوعرة كثيرة الكمائن والألغام، وقد يقاتل حتى الرمق الأخير، وهو ما أثبتته معارك الأيام القليلة التي خسر فيها الحزب عددًا من عناصره (خمسة قتلى)، رغم الدعم اللوجستي والجوي المعلوماتي الذي قدمته القوات الأمريكية الموجودة في “مطار رياق” العسكري اللبناني.
من هنا يمكن فهم بواعث القلق الذي شعرت به حكومة المنطقة الخضراء في بغداد، والتي سارعت لانتقاد الاتفاق المبرم، فهي لم تستوعب حقيقة أن هكذا اتفاق ما كان ليتم لولا الموافقة الدولية (أمريكا – فرنسا – روسيا) والإقليمية متمثلة بإيران ونظام الأسد وأطراف عربية منخرطة في ملف التسوية التي يتم طبخها على نار هادئة، وترغب بتأمين لبنان ومحيط دمشق، أما عويل أهالي العسكريين اللبنانيين المقتولين فآخر اهتمامات هذه الأطراف.
إيران رغم عدائها العقائدي لنا تعتبر الأكثر براغماتية في المنطقة، ولا تمانع في المناورة وإبرام أي اتفاق مع أعدائها
الأمر أكبر وأعقد بكثير مما يظن البعض، ومن السذاجة بمكان، الاعتقاد أن صفقات الحزب المهيمن على قرار لبنان، مع كل من سرايا أهل الشام والهيئة والدولة، على وجه الخصوص، هو نهاية للدور المرسوم لهذين التنظيمين، أما الاستشهاد على ذلك بأن عناصر التنظيم ركبوا الحافلات المكيفة وهم يضحكون، وغادروا تحت أعين وبصر التحالف الدولي والنظام السوري، وباقي الفصائل السورية المعادية للتنظيم في المنطقة، والاستغراب من عدم قيام الحكومة اللبنانية بقتلهم أو اعتقالهم ومحاكمتهم، بدل السماح لهم بالمغادرة، هو جهل بعدة حقائق منها أن قرار الفصيل بالمغادرة ليس بالضرورة مركزي، إضافة إلى أن مجرد خروج مقاتلي التنظيم من المنطقة، يعتبر إنجازًا كبيرًا عملت عليه الأطراف كافة، بما فيها التحالف الدولي الذي ربما حاول إفشال الاتفاق، وقتل نحو 85 من عناصر التنظيم في أثناء محاولتهم مواصلة المسير بشكل فردي، واستمر في حصار القافلة لمدة أسبوعين, إلى أن نجحت الوساطة الروسية بالسماح للقافلة بمواصلة سيرها نحو هدفها بعد أن أطلق التنظيم سراح “أحمد معتوق” أحد عناصر الحزب، والذي كان قد أُسِرَ قبل عدة شهور في معارك البادية السورية.
إفراغ جرود بعلبك والقاع من مقاتلي تنظيم الدولة، وقبلها جرود عرسال وفليطه من تحرير الشام، صفقات تستحق العناء وثمنها، المتمثل بالسماح لمقاتلي التنظيمين، بالمغادرة باتجاه دير الزور وإدلب، فبحسب “نصر الله” ومشغليه في طهران، فإنه لا ضير في الاتفاق طالما أنه يؤمن دمشق ولبنان عسكريًا، وما عجز الحزب عن تحقيقه في القلمون، سيحققه بمساعدة التحالف وروسيا والفصائل المحلية لاحقًا، وفي جبهات بعيدة جغرافيًا كالرقة ودير الزور.
إيران رغم عدائها العقائدي لنا، تعتبر الأكثر براغماتية في المنطقة، ولا تمانع في المناورة وإبرام أي اتفاق مع أعدائها، طالما أنه يضمن مصالحها، وهي في هذا على عكس الفصائل السورية التي جعلت من قتال التنظيمات الجهادية، أولوية مقدمة على قتال النظام المجرم والمحتل الخارجي الغاصب، وطبعًا بحجة محاربة الإرهاب، فخاضت معارك الآخرين واستنزفت الدماء والإمكانيات، ثم أدارت ظهرها لدماء مليون شهيد وعشرة ملايين مهجر، ولم تقاتل النظام السوري، بل تستعد للعودة إلى حظيرته طائعة خانعة، بعد أن كانت تتحجج بوجود تنظيمات إرهابية تمنعها من قتال النظام الذي عقدت معه عشرات التفاهمات والهدن.
طبيعة الصراع في سوريا، تؤكد أن عودة أي فصيل لمنطقة الحدود اللبنانية السورية أو لأي منطقة وخلطه للأوراق لا تحتاج سوى لساعات قليلة
من المؤسف حقًا أن نشاهد عدونا أكثر إخلاصًا وتفانيًا لقضيته وهو على باطل، بينما أهل الحق مشرذمون يتبنون أجندات الآخرين، أيعقل أن نجد من السوريين من يتباكى ويستشيط غضبًا، مطالبًا التحالف الدولي وروسيا والنظام السوري ولبنان، بقصف وقتل نحو 700 إنسان نصفهم من النساء والأطفال، إنها دموع التماسيح الكاذبة تسكب غزيرة لتبرير التخاذل، وعدم قتال نظام يقتل ويدمر ويهجر مسلمي الشام صباحًا ومساءً، أي عار هذا؟
إيران مستمرة بالتغلغل في أوطان العرب وعلى رأسها العراق وسوريا ولبنان واليمن، ونجاحها في تأمين محيط دمشق، سيشجعها على المضي في عملية السيطرة على مفاصل الدولة واستكمال عملية التغيير الديموغرافي وتثبيت أقدامها، خاصة بعد تفريغ أرياف دمشق من المجموعات المسلحة، أما ما تبقى من فصائل الغوطة الشرقية فهو بين حليف أو متقوقع في إقطاعيته.
طبيعة الصراع في سوريا تؤكد أن عودة أي فصيل لمنطقة الحدود اللبنانية السورية أو لأي منطقة، وخلطه للأوراق لا تحتاج سوى لساعات قليلة، وتحرير دمشق كان ولا يزال ممكنًا وسهلًا جدًا، لكنه يحتاج لقرار لا يملكه وكلاء النظام وغرف العمليات المخابراتية (الموك والموم)، الممسكة برقاب أمراء الإقطاعيات وتجار المعابر والدماء.