تتكشف لنا وقائع لا يمكن وصفها إلا بالخزي العظيم، مصر تمول العدو بالأغذية بواسطة خط بحري نشط، فيما تحكم الحصار على غزة الجائعة التي تتجمد من البرد. خيالنا المعتاد حول الخيانة لم يصل إلى تصور هذه الحركة من جيش مصر، والقول إننا متفاجئون بما يجري لم يعد يكفي لوصف ما نرى، لم تعد مصر محايدة أو لا مبالية بغزة، بل هي الآن تحاربها بالتجويع.
كنا نقول إن الأنظمة العربية وفي مقدمتها مصر تستمد شرعية وجودها من السكوت عن مظالم الكيان تجاه الفلسطيني، فإذا هي تحارب مع الكيان ليبقى فتبقى، لن نطرح السؤال الذي صار علامة على غبائنا، أيهما أدعى لشرعية الحكم، أن يسمع النظام لشعبه ويماشي تعاطفه مع فلسطين، أم أن يعين على الفلسطيني فيعين بالتبعية على شعبه؟
لا نظن هذه الأنظمة غبية
تُجْمِع تحاليل كثيرة عربية وغربية على أن معكرة الطوفان قد هزت وجود الكيان وتمهد لفنائه، فالجميع عرف هشاشته الداخلية ويجمعون (وبخلفيات مختلفة) على أنه لولا الجسور الجوية التي ترفده بالسلاح لما صمد للشهر الخامس أمام مقاتل مؤمن بقضيته، ويفترض أن تؤدي هذه التحاليل العاقلة إلى مسارعة الأنظمة المرعوبة من قوته إلى التنصل منه والعودة إلى شعوبها، فهو لم يعد مصدر تخويف ولا يمكنه أن يهدد بشيء بعد ما أصابه من انكسار، لكننا نشهد خلاف ذلك، فالأنظمة العربية أو خط التطبيع، سواء دول الطوق أم الدول البعيدة في الجغرافيا كالمغرب وتونس وحتى الجزائر، لا تزال مؤمنة بقوة الكيان وتشارك في رفده، ليبقى مسيطرًا على المنطقة ويمحق الفلسطيني المتحرر من خوفه.
لا نظن هذا من الغباء السياسي، بل هو الذكاء الضروري في معركة وجودها الأخيرة، إنها مؤمنة بانتصار الفلسطيني ولكنها الآن وهنا تخاف انتصار الفلسطيني على عدوه، وترى من موقعها الخائن أن هذا الانتصار ينهي وجودها ربما قبل وجود الكيان نفسه، هذا الانتصار الذي ما زال في بدايته يمكن أن يتأسس عليه حل سلمي يتعايش فيه بقية من الكيان مع وجود فلسطيني ضمن حل دولة واحدة لشعبين أو حتى احتمال دولتين لشعبين – وهو حديث مبكر لم ينضج بعد – وهذا الاحتمال يؤدي فيما نرى إلى كارثة على حزام التطبيع، وفي مقدمته دول الطوق أو المواجهة. إن سؤالها الوجودي يتردد في مجالسها، على من سنستند إذا غاب الكيان أو ضعف بحيث لا يفيدنا في تحصيل الدعم الأمريكي والحماية الغربية؟
من الذكاء الذي عاشت به هذه الأنظمة أن يبقى الكيان، وأن يبقى قويًا مؤثرًا يحميها ويضمن لها دورًا، وفي هذا الدور منافع ومكاسب ليس أقلها نهب مال شعوبها بالقهر والتقتيل في الساحات، ولهذا وجب دعمه في معركة وجوده فوجوده يضمن وجودها ومنافعها، أما الشعوب عند هذه الأنظمة فعدوة لا يجب الإنصات لزفراتها ولا سماع تعاطفها في معركة وجود فعلي ضد كيان سرق من حياتها قرنًا كاملًا .
ما أهون هذه الأنظمة على عدونا (صديقها)
لقد بلغ من استهانة الكيان بالنظام المصري أن فضحه أمام محكمة الدول الدولية فأقر بأنه يغلق معبر رفح برغبته لا بأمر من الكيان، وأكَّد الرئيس الأمريكي ذلك مستهينًا بكرامة هذا النظام وأجهزة دعايته التي تروج موقفًا قوميًا لا أثر له على الأرض، وقد بلغ صلف الكيان أن أمر بغلق مطعم أردني تسمى باسم السابع من أكتوبر. وما يبلغنا عن تفاصيل خيانة النظام الأردني لمعركة الطوفان يفوق ما نعرفه عن الخيانة، لقد حرم الكلام على شعبه ويسجن خيرته طائعًا ويفعل أكثر مما يطلب العدو منه.
ليس لهذه الأنظمة كرامة عند العدو، رغم ذلك تصر على دورها الخياني فتخوض بذلك ما نراه آخر معارك وجودها، إنقاذ الكيان لا السماع لشعوبها والتراجع عن خط التفريط.
هذا يجعلنا نرى بوضوح أثر معركة الطوفان خارج غزة، لقد أجهزت دون طلقة واحدة على هذه الأنظمة، إنها لم تصب العدو وحده في مقتل بل كسرت آخر أكاذيب الشرعية التي تتخفى خلفها أنظمة التطبيع العربية، فحجة الحفاظ على حالة سلم تضمن بها التنمية لشعوبها انكشفت عن نفاق عظيم، فشعوب خط المواجهة جائعة وغلاء الأسعار يلتهم آخر ما لديها، لكن الأنظمة تسرق من قوتها وتحوله للكيان ليعيش ويحارب.
لا يمكن أن نطلب من المقاومة أكثر مما فعلت بهذه الأنظمة، لقد فضحتها فأسلمتها إلى شعوبها دون آخر ورقة شرعية، وما بقي هو واجب الشعوب المُجَوَّعة المفقرة المقهورة.
إن سقوط هيبة العدو وانكشاف ضعفه ليس تعرية للأنظمة فقط، بل هو هدية من المقاومة إلى الشعوب العربية، وقد انكشف أنه لم يعد قادرًا على تهديد الشعوب لأنه لم يعد قادرًا على دعم الأنظمة، فهي الآن بلا غطاء ولا سند وتصل إلى آخر قدراتها على القمع، ولا نراها تصمد أمام مظاهرة حقيقة متقنة التنظيم.
معركة الطوفان جرت عمليًا في مربع غزة الصغير المحاصر، لكن ارتداداتها وصلت إلى آخر بقعة عربية قبل أن تضع الحرب أوزارها، وما بقي هو وعي الشعوب بهذه الفرصة المتاحة، أمام هذه الشعوب نموذج الحالة اليمنية المتحررة من غطرسة نظام (لا وجود له في الواقع)، وليس مطلوبًا منها أن تحمل السلاح وتقاتل بطريقة اليمني، بل يكفي أن تخرج إلى الشوارع على الأقل خجلًا من الشوارع الأوروبية التي تزداد وعيًا بطبيعة العدو ومهمته.
عفوًا وجب أن أراجع هذا التفاؤل المفرط بوعي الشعوب وقدراتها، فقد تبين أن بينها نخبًا مطبعة أكثر من تطبيع الأنظمة، وهي كامنة في الصفوف تمنع الشوارع من الحركة لأن وجودها – مثل وجود الأنظمة – من وجود الكيان، وقد صح لدينا أن معركة شوارع ضد نخب التطبيع تسبق بالقوة معركة ضد أنظمة التطبيع، فالذين خانوا معركة الحريات التي أطلقها الربيع العربي واستبشروا وساندوا الردة الانقلابية عليه بدءًا من مصر، هم أنفسهم من ينتظرون هزيمة المقاومة ليعود وضع التطبيع إلى ما كان عليه قبل معركة الطوفان، كيف تنطلق هذه المعركة ومن أي نقطة؟ هذه حيرة مواطن عربي يرى ويعجز، لكنه يربي الأمل.