عادة لا أكتب لمجرد الكتابة، وأرفض بشدة الخوض فيما لا أفقه فيه ولم أخض غمار تجربته، أشعر أن الكلمات عليها أن تخرج من عمقي، تسيل من قلمي وحدها دون إرغامها على ذلك، وكذلك اليوم شعرت برغبة ملحة بنقل تجربتي وكلماتي لكم.
شاء الله أن أعيش الـ20 عامًا ونصف من حياتي مقسمة على غربتين تبدأ بغربة الوطن ثم غربة الأهل، مصطلح غربة فضفاض ويحوي في طياته الكثير من التفاصيل والمعاني التي ربما لن يفهمها أو يعرف حقيقة صعوبتها أو عكس ذلك إلا من جربها.
أما في الأولى، غربة الوطن، فلا أظن أن هناك ما هو أصعب منها خصوصًا عند أولئك الذين تربطهم علاقة وثيقة بالأرض والحجر والشجر والماضي والذكريات، فكيف إذا كان وطنهم هذا “فلسطين”؟ الشهداء والجرحى والأسرى والأقصى والمقاومة، هذه العناصر التي تجتمع لتشكل الرباط الوثيق الذي يربط هذا المغترب بوطنه أكثر فأكثر (رابط القضية)، أضف إلى ذلك العديد من الروابط الأخرى التي تختلف من فرد لآخر.
اغترب لتعرف قيمة الأشياء في حياتك، اغترب لتعرف أنه لا يوجد أدفأ وأأمن من حضن الأم ولا أحن وأرق من قلب الأب
في الغربة ليس هناك عيدًا ولا رمضان ولا فرحة تفوق أو نجاح، كل ذلك منقوص، حتى الحزن في الغربة موجع أكثر، فلا أخ ولا أم أو أب يخفف عنك ذلك الألم ويقتسمه معك، فربما تمكث في المستشفى شهرًا ولن يطرق باب غرفتك سوى الطبيب أو الممرضة المناوبة، أما إذا فقدت عزيزًا فلن تجد من يربت على كتفك ويمسح دمعك، أنت هنا كشجرة في صحراء خاوية، ستركض بلهفة خلف صورة لحارتك القديمة، وتتمنى أحيانًا لو تتذوق طعم ثمرة تين أو صبر أو حتى خبيزة.
عند عودتك إلى البلاد في إجازة قصيرة بعد غياب، ستسعد جدًا عندما ترى سائق التاكسي وبائع الخضرة وصاحب البقالة يتحدثون بلغتك ويفهمون ما تقول دون عناء، يناقشون معك قضايا البلد وارتفاع الأسعار وقرب العيد والعودة للمدارس والمصاريف المرهقة، اعتقال فلان وإغلاق حاجز حوارة بعد استشهاد بطل حاول تنفيذ عملية في مستعمرة قريبة.
ستتأمل كثيرًا في تفاصيل السوق والأحياء القديمة والشعبية، ستمعن النظر في وجوه وملامح الناس التي تروي الكثير من القصص، ولن تجد أجمل من إطلالة غرفتك أو شرفة مطبخك خصوصًا مع كوب شاي بالميرمية، فلا تغترب!
في خضم معارك حياتك وأنت تخوض غمار تجاربك في الغربة لا تنس طريق العودة، احفظه جيدًا وعُد في أقرب فرصة إلى أحضان وطنك وعائلتك
أما عن غربة الأهل فأنا أقول: عليك أن تغترب! اغترب لتعرف قيمة الأشياء في حياتك، اغترب لتعرف أنه لا يوجد أدفأ وأأمن من حضن الأم ولا أحن وأرق من قلب الأب، وأن غلاظة أخيك الأصغر ليست إلا خفة دم، وتدخل أختك في تفاصيل حياتك ليس إلا حبًا وحرصًا على مصلحتك، ستوقن أيضًا أن الخير في هذه الأمة لم ينقطع، فأنت الآن حصلت على أصدقاء أصبحوا أخوة، فكانوا لك عائلتك الثانية في غياب الأولى.
ولكن ربما ستُصدم بما هو عكس ذلك أيضًا، ستعلمك الحياة أن كل ما تسمع به في القصص والروايات أو الكتب والمسلسلات موجود حقًا، فستُخذل مرارًا وتحاسب نفسك كثيرًا على بلاهتك وهشاشة تفكيرك أحيانًا، لكن لا بأس، ذلك كله سيضاف إلى رصيد خبرتك وتجاربك، وفي محصلة هذا كله ربما أنت جربت كل شيء – كل شيء حرفيًا -. في غربة الأهل ستتحمل المسؤولية كاملة ولأول مرة، إدارة منزل والمصروف كاملًا بين يديك وفواتير الماء والكهرباء وشراء وإعداد الطعام وحاجيات المنزل ودفع الأقساط الجامعية وحساب البنك، ثم التنظيف وغسل الأطباق والملابس وفوق ذلك كله أعباء الدراسة والجامعة، أعباء كثيرة تحتاج لسوبرمان، أنت الآن لم تعد ذلك الطفل البريء الهش، أنت الآن سوبرمان.
وأخيرًا، في خضم معارك حياتك وأنت تخوض غمار تجاربك في الغربة لا تنس طريق العودة، احفظه جيداً وعُد في أقرب فرصة إلى أحضان وطنك وعائلتك.