السؤال لا يخلو من طيبة غبية كأنما يطرحه طفل في أولى خطواته الدراسية وليس قلمًا مسلحًا بعلم الاجتماع، ولكن هذا السلاح الواقعي جدًا لم يكفني لأتفهم هذا القدر الكبير من الانحطاط الأخلاقي الذي يحكم بلدي، هل عليّ أن أقر بقصر نظري لأترك لساسة بلادي مجال فعلهم المنحط والذي ينعكس على حياتي بشكل مباشر بصفتي (مواطنًا) ملزمًا بالبقاء نافرًا من الهجرة والاتكاء على شعوب أخرى طورت بلدانها بوسائلها ووجدت صيغًا تبدو لي من هنا عبقرية وذات قدر عال من الأخلاق.
سيكون من غير العلمي القول إن علم الاجتماع يعجز عن تفسير الشعب التونسي وحكوماته وخاصة طبقته السياسة التي يمكنها أن تحصل مكاسب كثيرة بالتعايش ولكنها تصر على الخسران المبين بالتنافي، ولم أشهد هذا في تواريخ الأولين، هذه الورقة البسيطة أقرب إلى تعبير شخصي عن الخيبة والإحباط الذي صار يلازم قلمي بعد تفاؤل ثورة سلمية.
آخر مشاهد الانحطاط
تفتق ذهن الرئيس التونسي عن حيلة لا يمكن اعتبارها إلا عملاً لا أخلاقيًا، فقد ربط إعلان دعوة الناخبين للموعد الانتخابي للبلديات بشرط الموافقة المسبقة على قانون المصالحة مع رجال بن علي، بحيث لا يمكن إجراء الانتخابات إلا إذا وافق البرلمان على إعفاء لصوص دولة بن علي من التبعات القانونية لما ارتكبوه من فساد إداري ومالي طيلة خدمتهم لدولة المخلوع.
ليس سلوك الابتزاز الرئاسي وحده ما يثير القرف ويدعو للاشمئزاز، بل إن سلوك الطبقة السياسية بكل ألوان الطيف أيضًا يكشف طبيعة غير أخلاقية خالية بصفة كلية من كل قيمة يمكن الرجوع اليها وإرشاد النشء إلى اتباعها
الرئيس مارس الابتزاز على شعبه مقابل مركزه، فالحاصلون على الإعفاء والبراءة بقانون المصالحة هم الذين أوصلوه إلى سدة الحكم (وهو هنا يرد لهم جميلاً كما لو أنه رجل وفيّ وله كلمة ووعد صادق)، لكنه يغفل في الأثناء أنه كان رجلاً ميتًا سياسيًا وانصرف في آخر أيامه إلى كسب المال وتنمية نفوذ أسرته قبل أن تنشله الثورة من موته البطيء ليصبح رئيس حكومة ثم رئيس دولة، وكان من الوجاهة الأخلاقية أن يكون وفيًا لشعب الثورة لا للفئة الفاسدة التي قامت عليها الثورة.
لكنه عقد صفقة مع الشيطان وباع شعب الثورة بمال كثير ونفوذ محدود في الزمن مهما تأجل الموت، هنا نحن أمام مشهد انحطاط أخلاقي غير قابل للتفسير، إلا أن دائرة السلطة هي بالضرورة دائرة الانحطاط الأخلاقي، وإذا كان علم الاجتماع قادرًا على أن يجد جملاً تفسيرية (تبريرية في الواقع) من قبيل أن الصراع الاجتماعي الحاكم الفعلي في علاقات الناس مهما كان مركزهم الاجتماعي أو المالي (الطبقي)، والبحث عن قيمة أخلاقية في هذا الصراع مثالية سخيفة تنم عن جهل بقوانين الصراع.
لم يخل الصراع الاجتماعي من مثل أبدًا
التبرير السوسيولوجي يغفل عامدًا أن لكل شعب منظومة أخلاقية وقيم ومثاليات توجه سلوك الأفراد ووقائع كثيرة غير فردية حكمتها شهامة المحاربين ونخوة القادة وعفة الحكام ولذلك أنتجت تلك الشعوب أبطالاً ورموزًا وأيقونات أخلاقية يربى عليها النشء ضمن مسارات التنشئة الاجتماعية لتنقل القيم وتبنى عليها السلوكيات وتصنع المرجعيات، ولكن ماذا يمكن أن ننقل نحن التونسيين عن رؤسائنا ورموزنا السياسية غير تقاليد الابتزاز السياسي للجمهور العريض على قاعدة (تحمل العيش مع اللصوص أو ادخل في الفوضى والحرب الأهلية) إذا لم يكن هذا هو الإرهاب فماذا يكون؟
الأحزاب لصوص المزابل
ليس سلوك الابتزاز الرئاسي وحده ما يثير القرف ويدعو للاشمئزاز، بل إن سلوك الطبقة السياسية بكل ألوان الطيف أيضًا يكشف طبيعة غير أخلاقية خالية بصفة كلية من كل قيمة يمكن الرجوع اليها وإرشاد النشء إلى اتباعها.
فالطيف السياسي كله بلا استثناءات يعرف أن عملية الابتزاز عملية غير أخلاقية لكنه لا يعترض عليها لأن فيها نتيجة مفيدة لطيف واسع هو الطيف غير الإسلامي (من غير حزب النهضة)، بينما يعرف حزب النهضة أيضًا أنها عملية لا أخلاقية لكنه يقبل بها مظهرًا حذلقة عن الحد الأدنى الديمقراطي.
يمكننا تذكر مشهد الثعالب التي تنظر فضلة الأسد بالنسبة للطيف الأول غير أن الصياد هنا ليس أسدًا ولكنه ضبع سياسي يقتل بالغدر ولا يترك فضلة لأحد، وعليه فإن الثعالب السياسية هنا لن يكونوا أفضل حالاً من جامعي القمامة الباحثين عن لقية نادرة في سلال المهملات في الشارع السياسي، إنهم يعرفون جيدًا أن الابتزاز الرئاسي سينتج انهيارًا سياسيًا لحزب النهضة وسيفقد شعبيته الكاسحة.
يبدو الرعب المسيطر على سلوك حزب النهضة رعبًا كاشفًا لموقف غير أخلاقي، فمقابل البقاء في الحكومة ومقابل بعض المشاركة التي لا تخلو من إذلال قبلوا الصفقة وهم يعرفون أن رفض الرئيس للانتخابات يقضي عليه أولاً قبل أن يقضي على العملية الديمقراطية
ولذلك رأيناهم يتصيدون موافقة النهضة على صفقة الانتخابات بمقابل المصالحة، فيشرعون في المزايدة الرخيصة ويحسبون عدد المستقيلين من حزب النهضة ليربحوه صوتًا في أرصدتهم (موقفهم المنحط من دعوة النائب نذير بن عمو النائب المستقل الذي ترشح على قوائم حزب النهضة واستقال رافضًا للابتزاز للالتحاق بهم).
في مقابلهم يبدو الرعب المسيطر على سلوك حزب النهضة رعبًا كاشفًا لموقف غير أخلاقي، فمقابل البقاء في الحكومة وبعض المشاركة التي لا تخلو من إذلال قبلوا الصفقة وهم يعرفون أن رفض الرئيس للانتخابات يقضي عليه أولاً قبل أن يقضي على العملية الديمقراطية، ليست مسؤوليتهم وحدهم وإنما شاغل جماعي (في الخطاب على الأقل)، وكان يمكن (وهنا نتحدث عن احتمال مهدر) أن يرفضوا الربط الابتزازي، فيضعون الرئيس أمام مسؤولياته فهو الضامن للديمقراطية وهو الذي شرع في تخريبها بالابتزاز، ولكن عوض دفع الرفض إلى مداه خنعوا وبرروا بالحفاظ على الحد الأدنى الديمقراطي.
ولذلك يحق لنا أن نظن بهم الظنون، ففوائد مصالحة النظام القديم قد تعطي أنصارًا مختلفين عن الطبقة الشعبية التي تعتبرها النهضة رصيدها الحقيقي، يقبل الحزب المصالحة مفكرًا فيما يمكن أن يجنيه من هؤلاء ونجد أنفسنا في مواجهة موقف لا أخلاقي لا علاقة له بالمرجعية الأخلاقية للحزب.
الجمهور الرومانسي المغدور
فئة واسعة من الجمهور الذي أنقذت الثورة أرواحه من التيه الأخلاقي تحت حكم المخلوع آمن بالشهداء وقدسهم وقبل الرضوخ للتحولات الديمقراطية المتأنية رغم الخطاب الثوري، لكنه يقف الآن مشدوها أمام قدرة الطبقة السياسية على المناورة المنحطة أخلاقيًا وتتولد لديه حيرة في القرار، هل يعود إلى سلوكه زمن بن علي أم يحاول مد الشارع بنفس ثوري جديد؟ السلوك زمن بن علي هو الاستقالة من الشأن العام عجزًا عن التأثير فيه، أما النفس الثوري فينقطع بالتدريج إلا لدى فئة تتضاءل باستمرار، فحتى الزعماء الذين يزعمون الثورة والنقاء الأخلاقي ينتظرون جثة النهضة السياسية ليأكلوا منها ونقدهم لموقفها الذليل من قبيل اذهب أنت وربك فقاتلا.
هنا نتوقف ونعيد طرح السؤال: إذا بالإمكان الحصول على غنم وافر دون التخلي عن النخوة والشهامة، فلماذا انتظار الغنم من صيد الآخرين ضباعًا كانوا أم ثعالب؟
الحيرة دومًا أكبر من الأسئلة، وقد ازدادت الحيرة هذه الأيام، إذ ينكشف الوضع التونسي عن عملية سياسية لا يمكن وصفها إلا بالانحطاط الأخلاقي
ليس لدي تفسير يقنعني قبل من أكتب لهم يمكنني أن أجد تبريرات علموية لكنها تظل تبريرات متهافتة، يمكن إلقاء المسؤولية على النظام السياسي والتربوي السابق ونعته بأبشع النعوت فما هذه الطبقة السياسية إلا من تربيته وإنتاجه حكمًا ومعارضة، ولكن لماذا تغلغل النظام القديم في أرواح الناس ودمّر مرجعياتهم الأخلاقية؟ هل نتيجة قوته الذاتية أم نتاج الاستعداد المبدئي للانحطاط عند الفرد التونسي الذي يهتم بالشأن العام ويحاول الغنم منه؟.
الحيرة دومًا أكبر من الأسئلة وقد ازدادت الحيرة هذه الأيام، إذ ينكشف الوضع التونسي عن عملية سياسية لا يمكن وصفها إلا بالانحطاط الأخلاقي الذي يكشف بلدًا بلا مرجعية أخلاقية لان طبقة السياسية فاسدة حتى العظم وما ثورته إلا حلم جميل مر كبرق خلّب.