يسود العالم الإفريقي حال من التخلف والجهل في جميع مظاهر حياته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وفي مناسبات كثيرة تكون العادات الشائعة والأعراف المتوارثة وراء قدر غير يسير من البلاء والعنت الذي تتورط فيه مجتمعات القارة السمراء، ويقف جهلها وجمودها عقبة في طريق الإصلاح الاجتماعي، وجنديًا شرسًا يدافع باستماتة وحماس عن ممارسات باطلة وعادات فاجرة تظن فيها السداد وهي جرثومة الفساد، وتقنع منها بالآلام والأضرار دون البحث فيها والنظر في حقيقتها. وتظل تلك الثقافة مغروسة في أعماقها متمكنة من نفوس أهلها حتى إن تفيأوا ظلال المدنية، وخرجوا من طور البداوة إلى طور التحضر، وتركوا ديارهم الإفريقية ليسكنوا أحياء لندن وبيرمنغهام.
عالمنا ينضح بعجائب المتناقضات والمفارقات الاجتماعية الصارخة، فبينما تعمد كثير من النساء إلى إعمال مبضع الجراح قاصدات تكبير حجم الصدر وتدويره أو رفعه، تلجأ أمهات بائسات في الكاميرون إلى وسائل وأساليب تذكر بالقرون الوسطى لا تخطر على البال لتحجيم أثداء بناتهن ومنعها من البروز باستعمال أدوات صلبة غالبًا ما تكون ساخنة.
وهي الممارسة التي يعرفها الباحثون والحقوقيون بِكَيّ الصد breast ironing، كناية عن محاولة إعادة ثدي الفتاة إلى مراحله الأولى التي يشبه فيها صدر الأنثى صدر الذكر، بطرق شبيهة في بعضها بطريقة كي الملابس بالمكواة، وهي معدودة كواحدة ضمن خمس جرائم منسية ضد المرأة حسب الأمم المتحدة والتي طالت زهاء أربع ملايين فتاة.
آخر الدواء.. “الكي”
كي الصدر «breast ironing» أو كشط الصدر «breast flattening »، من الممارسات الاجتماعية الشائعة بين دول إفريقيا الوسطى والتي عرفها المجتمع الدولي قبل عقد من الزمان فقط، ولا زالت أصولها التاريخية ودلالاتها الاجتماعية والثقافية مبهمة حتى اليوم، ولا يعرف إن كانت لها امتددات في أعماق الموروثات الدينية والاجتماعية في مجتمعات إفريقيا الوسطى.
الأمهات هن الأكثر مباشرة لهذه الممارسة على بناتهن، وأحيانا تمارس من طرف الأقارب أو الفتاة المعنية نفسها.
ففي 2006 قامت وكالة التنمية الألمانية (GIZ) وشبكة ريناتا (RENATA) وهي منظمة كاميرونية غير حكومية، باستطلاع رأي 5000 فتاة وامرأة بين سن 10 و82، وخلص الاستطلاع إلى أن ما يناهز 25% منهن تعرضن بشكل أو بآخر إلى ما اصطلح عليه بـ”كي أو كشط الصدر”، بمعدلات قد تصل أحيانًا إلى 53%في بعض المناطق من جنوب شرق الكاميرون.
وحسب دراسة تقدمت بها الباحثة ريبيكا تابسكوت في فهم الظاهرة ودوافع ممارستها في المجتمع الكاميرني، فإن جميع الإثنيات العرقية البالغ عددها مئتين تتقاسم نفس الممارسة.
وتوصلت الدراسة المذكورة إلى أن الأمهات هن الأكثر مباشرة لهذه الممارسة على بناتهن، وأحيانًا تمارس من طرف الأقارب أو الفتاة المعنية نفسها، وهي ظاهرة متفشية في الكاميرون وتوغو وتشاد والكونغو وغيرها من دول إفريقيا الغربية والوسطى، بل حتى في أوساط الجالية الكاميرونية المقيمة في المملكة المتحدة حسب مقال نشرته إيميلي دوغان في صحيفة “إندبندنت” البريطانية عام 2013.
ممارسات صادمة
وفي تقرير للصحفي ستاف زيف نشر في مجلة “نيوزويك” الأمريكية أوائل أغسطس الماضي، يحكي قصة امرأة أضحت جدة وهي في الثامنة والعشرين من عمرها ولها خمس بنات، البكر منهن حبلت في سن الرابعة عشر، فقررت الجدة الشابة أن تحول دون أن يتكرر الأمر مع بناتها الأخريات.
الحاجة أم الاختراع، وكان الاختراع في حالة هذه الأم أن عمدت إلى أبنتيها ذواتي العاشرة والسابعة على التوالي، فأمسكت بحجر أصم بحجم الكف يستعمل عادة لدق الأعشاب، وتناولت البنتين كل واحدة على حدة، ثم أخذت تضغط بالحجر على حواف الثديين، وتدعكهما بحركة دائرية وكأنها تعيد ذلك النتوء إلى مكانه الأصلي لمدة عشر دقائق، عشر دقائق من الألم البالغ والأنين.
الهدف من ذلك الحد من نمو الصدر أو تأخير نموه إلى أجل، حتى لا تستثير أحدًا ممن حولها من الفتيان والرجال وهي في ذلك السن الصغير.
وليست هذه إلا حالة لظاهرة تفشت بين النساء في هذه الدولة من دول إفريقيا الوسطى، التي يبلغ تعداد سكانها 23 مليون نسمة، فقد ذكر الصحفي راندي جو في مقال نشرته “بي بي سي” على موقعها عام 2006 أن 26% من النساء في المجتمع الكاميروني تعرضن بطريقة أو بأخرى لهذه الممارسات.
كما أن لها طرق مختلفة غير الطريقة الأولى، فمنهن من يشد حول صدرها بحزام وثيق، ومنهن من تسخن لها فاكهة الموز أو جوز الهند أو مدْلكة العجين أو مدقة التوابل على النار، ثم تستخدم في عملية الضغط والتدليك، وحسب مجلة “فيس” في الحوار الذي أجرته مع المصور الفوتوغرافي جيلداس باري الذي عاين طقوس الممارسة في الكاميرون وحظي بصور لمجموعة من الضحايا، فإن الاعتقاد السائد أن تسخين الأدوات المستعملة وضغط الثدي سيفضي في النهاية إلى ذوبان الشحم الذي يمنحه ذلك الانتفاخ والنتوء، “وهذا ضرب من الجنون” يضيف المصور الفرنسي، والهدف من ذلك كما أشرنا الحد من نمو الصدر أو تأخير نموه إلى أجل، حتى لا تستثير أحدًا ممن حولها من الفتيان والرجال وهي في تلك السن الصغيرة.
مضاعفات خطيرة
قد يبدو الأمر متوحشًا ومقززًا ومؤلمًا، وهو كذلك بالفعل، فما تقوم به هؤلاء النسوة يشبه من يعمد إلى زهرة في ريعان التفتح فيقيد تيجانها ويضم أوراقها إلى بعض ثم يربطها بقيد، خوفًا على رحيقها من شراهة النحل.
لكن الذي حمل الأم الشابة ومثيلاتها على ذلك، أنها تروم حماية بناتها من أخطار الزواج المبكر أو الاغتصاب وما ينتج عنه من حمل خارج إطار الزواج، الأمر الذي يتسبب في عنوسة الفتاة طيلة حياتها، وانقطاعها عن الدراسة في ميْعة الصبا، وسط مجتمع إفريقي ما زال يرفل في أسمال الجهل والأمية، ويرزح تحت نير العادات والأعراف المستحكمة.
ورغم أنه لا توجد دراسات أو أبحاث طبية عن الأضرار والمضاعفات التي قد تؤدي لها مثل هذه الممارسات في المدى القصير أو البعيد، فإن الخبراء أكدوا أن ذلك قد يسبب سرطان الثدي، وتشكل كتل ورمية وتعفنات على مستوى الصدر، وتمزق الأنسجة، لكن ما هو حقًا تراجيدي في كلام الخبراء، أن هذه الممارسات لا تؤثر بأي شكل على النمو الطبيعي للثدي.
منطق الطبيعة ومنطق المجتمع
التصور يكمن في أن هؤلاء النساء يعتقدن أن بإمكانهن حماية بناتهن من الاعتداءات الجنسية عن طريق “تصحيح” بعض المظاهر الفسيولوجية في جسد الفتاة التي تثير غرائز الذكور، أو بالأحرى ضبط توقيت ظهورها من خلال هذه الممارسات البدائية المؤذية.
كثير من الأمهات في الكاميرون لقلة الوعي وغلبة الجهل عندما لا يجدن من يحمي فلذات أكبادهن من تغول الشهوة وتوحش الغريزة، يعمدن إلى أشد الوسائل إغراقًا في التخلف وإحداثًا للضرر
فالفتاة ما دامت في سن الثامنة والعاشرة فإنها لا زالت طفلة صغيرة، وبالتالي فلا داعي لأن يبرز لها ثدي مثل باقي النساء البالغات، فاعتقدن بسذاجتهن أن الحل في “تصحيح” بعض أوضاع الطبيعة في جسم الأنثى التي تبدو غير منطقية، إلى حين أن تكبر الفتاة وتبلغ سن الزواج ليتم بعد ذلك السماح للثدي بالتشكل والظهور.
وكيفما دار الأمر فإن الاختلال لا يكمن في الطبيعة ولا في الثدي المثير للغريزة، ولكن في الشخص المثار، وفي المجتمع المريض الذي يتفشى فيه التمييز بين الجنسين وتزويج القاصرات والتساهل القانوني والاجتماعي مع جرائم الاغتصاب والتحرش وانعدام الثقافة الجنسية، وفي اعتبار الأنثى الطرف السلبي في المعادلة والمسؤولة عن فعل الإثارة، واعتبار الذكر مجرد متلقٍ ومستجيب لنداء الغريزة.
لذلك فكثير من الأمهات في الكاميرون لقلة الوعي وغلبة الجهل عندما لا يجدن من يحمي فلذات أكبادهن من تغول الشهوة وتوحش الغريزة، فإنهن يعمدن إلى أشد الوسائل إغراقًا في التخلف وإحداثًا للضرر، ظنًا منهن أنهن بذلك يحمين بناتهن من ذئاب المجتمع وأجلافه، بينما يقترفن أكبر حماقة في حق من يحببن دون إرادة ولا شعور.
لكن يبقى هذا فصل من فصول الحكاية، لأن تفشي الظاهرة في أوساط الجالية الكاميرونية في بريطانيا ورصد بعض تجلياتها في أوروبا حيث الأنظمة والقوانين التي توفر الحماية اللازمة للأطفال وتجرم زواج القاصرات ويتمتع فيها الأفراد بدرجة معتبرة من الوعي، أمر يسترعى الانتباه والاستغراب، ويدل على أن هذه الممارسة ليست مرتبطة فقط بالأوضاع الاجتماعية والسوسيواقتصادية في إفريقيا الوسطى، ولكنها تمثل ثقافة راسخة وطقسًا من طقوس الهوية لدى أفارقة الكاميرون في أوروبا لم تغن عنه الحياة المدنية الأوروبية وقوانينها الحمائية والإنسانية.