تنويع المصادر العسكرية وبالتالي حماية الأمن القومي هي الذريعة التي أطلقتها تركيا بشأن مسألة عقدها اتفاقية مع روسيا لاستخدام منظومة الدفاع الجوي المعروفة باسم “إس 400”.
في الحقيقة، لا تعتبر تركيا أولى الدول التي تستخدم منظومة دفاع روسية، فاليونان التي تُشابه تركيا في عضويتها لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، تستخدم منظومة “إس 300” منذ سنوات طويلة، ولكن تركيا تعتبر الدولة الأولى التي تستخدم أقوى منظومات الدفاع الجوي الروسية.
ومع استخدام تركيا التي تتمتع بموقع جيوسياسي مهم بالنسبة “للناتو”، والتي تحتضن أهم القواعد الجوية للحلف في منطقة الشرق الأوسط، يصبح هناك عدة انعكاسات توحي بإمكانية تغير المعادلات الدولية والإقليمية على المدى البعيد، وانطلاقًا من ذلك، ما أهم انعكاسات تلك الخطوة على مستقبل تركيا والإقليم والساحة الدولية؟
قبل كل شيء، تجدر الإشارة إلى أن الاحتراز التركي هو السبب الأساسي وراء انطلاق تركيا نحو استخدام هذه المنظومة، وقد سردت هذا السبب بشكل مفصل في مقالٍ لي نُشر سابقًا في نون بوست، ولإعادة سرد تفاصيل هذا العامل بإيجاز، نذكر أنه في عام 2012، تعرضت تركيا لهجوم تهديدي لاذع من النظام السوري، وتنامت الأزمات على جانب حدودها مع العراق، ولتخفيف حدة هذه التهديدات وتأمين مدنها الحدودية، سارعت بتقديم طلب رسمي إلى “الناتو”، تطالبه بنصب أجهزة دفاع جوية، وفي حينها، استجاب “الناتو” سريعًا للطلب التركي، ونشر منظومته الدفاعية “الباتريوت” على طول الحدود التركية ـ السورية.
بعد هذه الأزمات، لاحظت تركيا أنها بحاجة ماسة إلى منظومة دفاع ذاتية فاعلة تستعملها في حماية حدودها بشكل مستمر، وازدادت حاجة تركيا لهذه المنظومة، في كانون الثاني/يناير 2015، حيث بدأت دول الناتو التي مدت يدها لمساعدة تركيا كهولندا وألمانيا، بسحب منظومتها الدفاعية فجأة، وقبل موعدها الذي كان محددًا في شهر يناير/كانون الثاني 2016، من المدن التركية الحدودية، لقد آثارت هذه الخطوة امتعاض الجانب التركي، ودفعتها للبحث، بشكل جاد، عن بناء قوة ذاتية بديلة “للناتو” في حماية أمنها القومي.
هدف تركيا الأساسي من التفاوض مع الصين، كان الضغط على دول “الناتو” ليس إلا، ولإعلانها إلغاء الاتفاقية على هامش قمة العشرين
لقد أجرت تركيا مع دول “الناتو”، وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، مفاوضات مضنية، لإقناعها بإنشاء منظومة دفاع جوي تُديرها تركيا، وتمتلكها بشكل استراتيجي، غير أنها لم تتمكن من التوصل إلى مسعاها، ويكاد اتفاق الغرب مع إيران عبر “الاتفاق النووي” الموقع عام 2015، وربما عدم دعم “الناتو” للرؤية التركية بشأن إقامة “مناطق آمنة” في سوريا واستهداف نظام الأسد وإيقاف الدعم لوحدات الحماية الكردية، السببان الأساسيان لاندفاع تركيا نحو إجراء مباحثات مع الصين وروسيا اللتين تعتبران المنافس الأول لحلف “الناتو”.
وعلى الأرجح، جاء توجه تركيا صوب توسيع التعاون العسكري مع تلك الدولتين بالذات بدافع رغبتها في تشكيل ضغط على “الناتو”، من خلال إظهار بعض شواهد التغيير في موازين القوى في المنطقة، لكسب دعمه للرؤية التركية في سوريا، وعملاً بذلك فتحت مطلع عام 2015 مناقصة لاستيراد منظومة جديدة، وفي ضوء ذلك، جنحت لتوقيع اتفاق مبدئي مع إحدى شركات الدفاع الصينية في شباط/فبراير 2015، بغرض إنجاز مشروع “الدفاع القومي” الذي كان الهدف الظاهر منه إنشاء منظومة دفاع ذاتية.
ولكن أظهرت تركيا، بشكل جلي، عشية إعلانها إلغاء اتفاقها مع الصين على هامش قمة العشرين التي تمت في أنطاليا في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أن هدفها الأساسي من التفاوض مع الصين، كان الضغط على دول “الناتو” ليس إلا، ولإعلانها إلغاء الاتفاقية على هامش قمة العشرين التي تجمع أغلب دول حلف “الناتو”، دلالة مؤكدة على رغبتها في إرسال هذه الرسالةة لهم.
ازدادت حاجة تركيا لدول “الناتو” أكثر، عقب الأزمة التي نشبت بينها وبين روسيا إبان إسقاطها للطائرة الروسية على حدودها مع سوريا، غير أن دول “الناتو” لم تأبه لهذه الحاجة، وعلى ما يبدو كان يعود ذلك إلى رغبتها في إنهاء أزمتي الإرهاب واللاجئين اللتين أثرتا سلبًا على أمنها وتماسكها، واللتين تم تفسيرهما من قبلهم على أنهما نتاج لفراغ السلطة في سوريا، مما دفعهما لإظهار مؤشر إيجابي لروسيا وإيران، بشأن رغبتهما في تسريع إنهاء الأزمة السورية عبر عملية الحل السلمي، بضمان بقاء النظام السوري، وبغض النظر عن طموح الشعب السوري التي كانت تركيا، في حينها، ترمي إلى تحقيقه.
ونتيجة لعدم اكتراث دول “الناتو” لحاجتها الماسة، طرحت تركيا على هامش المصالحة مع روسيا في آب/أغسطس 2016، إمكانية توسيع التعاون مع روسيا وصولاً إلى التعاون العسكري الموسع وتواصل الادعاءات بشأن إمكانية استخدام تركيا لهذه المنظومة، حتى تاريخ 12 من أيلول/سبتمبر، حيث أعلن الرئيس أردوغان توقيع اتفاقيتها.
تخلو الصحف التركية والروسية من موعد محدد لتسليم روسيا لتركيا المنظومة، غير أنها تؤكد أن عملية التسليم ستتم في أقرب وقت ممكن، لكن بوضع الصعوبة التي ستواجه المهندسين العسكريين في إيجاد توليفة بين منظومة “إس 400” ومنظومة الرادارات التي تمتلكها بالتعاون مع “الناتو”، وقد تضطر إلى عقد صفقة رادارات جديدة مع روسيا، والإجراءات القانونية التي تحتاج تركيا لإجرائها كي تحصل على المنظومة، وغيرها من العوامل تجعل الوقت الأقرب لاستلام تركيا هذه المنظومة وتفعيلها 2019 أو 2020.
ألمانيا ترغب في احتواء النفوذ الروسي المتنامي على الصعيد العسكري والاقتصادي الدولي الذي يهدد بدوره نفوذها الإقليمي والدولي
وفيما يتعلق بردود فعل الدول الأساسية لحلف “الناتو” وقيادته حيال الاتفاقية، ورد تباين كبير بين ردودها، فبينما علّقت فرنسا على الاتفاقية بالإشارة إلى أنه “شأن سيادي”، وتجنبت بريطانيا وإيطاليا التعليق عليها، أعلنت ألمانيا إيقاف التعاون العسكري مع تركيا، وأعربت وزارتا الدفاع الأمريكية والخارجية الأمريكية عن “قلق بلادهما” من هذه الاتفاقية.
أما فيما يخص قيادة الحلف، فقد صرح مسؤول رفيع المستوى لوكالة الأناضول، قوله: “الدول الأعضاء في الحلف تقرر أنواع المعدات العسكرية التي تريد شرائها، لكن النقطة المهمة هي أن تتلاءم المعدات العسكرية التي يتم شراؤها مع نظام عمل المعدات التابعة للحلف”.
لعل استمرار تركيا في عقد اتفاقيات عسكرية مجدية مع فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، إلى جانب رغبتهم، أي فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، في دخول سوق بيع السلاح بالفعالية التي كانوا عليها في السابق، بالإضافة إلى التماسهما منافسة ألمانيا والولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا، وكسر احتكار الولايات المتحدة للساحة الدولية، واحتكار ألمانيا للساحة الأوروبية، فضلاً عن عدم وجود تهديد روسي مباشر لأمنهم العسكري والطاقوي، باستثناء بريطانيا وغيرها، عوامل تدفعهم جميعًا لعدم إبداء اعتراض شديد على هذه الاتفاقية.
على النقيض من ألمانيا التي ترغب في احتواء النفوذ الروسي المتنامي على الصعيد العسكري والاقتصادي الدولي الذي يهدد بدوره نفوذها الإقليمي والدولي، وتعارض الولايات المتحدة هذا الاتفاق، نظرًا لرغبتها في استمرار “القطبية الأحادية” التي تمثل سيطرتها المؤثرة في الساحة الدولية.
انعكاسات هذه الاتفاقية على الصعيد التركي الداخلي والدولي الإقليمي
لا ريب أن الاتفاقية سيكون لها انعكاسات كثيرة، لكن يمكن إيجاز أهم انعكاساتها على الصعيدين التركي والدولي الإقليمي على النحو التالي:
ـ الصعيد التركي الداخلي
1 تنويع المصادر العسكرية الدفاعية، ورفع مستوى القدرات العسكرية الرادعة:
إن تنويع المصادر العسكرية الدفاعية كان “الحُلم القومي” بالنسبة لتركيا التي ذاقت مرارة “أحادية التعاون العسكري” مع حلف “الناتو”، بزعامة الولايات المتحدة، لسنوات طويلة، كان بداية المرارة عام 1963، حيث سحبت الولايات المتحدة أسلحتها الرادعة من تركيا مقابل سحب الاتحاد السوفييتي أسلحته من كوبا، الأمر الذي هز مؤسسات تركيا التي رأت نفسها “عارية” أمام التهديدات السوفييتية، مرورًا بعام 1964، حيث رفضت الولايات المتحدة استخدام تركيا للأسلحة الأمريكية في عملية “إنقاذ المواطنين القبارصة الأتراك من المجازر المرتكبة بحقهم من قبل المليشيات القبرصية اليونانية” رغم تمتع تركيا بحق الضمان الذي يكفل لها حق التدخل العسكري الشرعي، ومن ثم في تعرضها لحصار أمريكي غربي عسكري واقتصادي عام 1974، على إثر تدخلها العسكري في جزيرة قبرص.
وختامًا بعد عام 2011، حيث وجدت تركيا نفسها، من جديد، عارية وأسيرة قرار حلف الناتو العسكري والسياسي، فيما يتعلق بقضية الأزمة السورية التي أثرت بشكل سلبي كبير وملموس بمصالحها القومية التي وقفت عاجزة عن حمايتها، نتيجة ارتباطها بقرار “ما فوق القومي أو الوطني”.
بقدوم حكومة حزب العدالة والتنمية إلى مقاليد الحكم، طرحت مشروع “العثمانية الجديدة” أو ما يُعرف دبلوماسيًا “التكامل الإقليمي”، معتمدةً في تحقيقه إلى أساليب السياسة الناعمة
لكن مع تنوع مصادرها العسكرية، سترفع مستوى القدرات العسكرية التكنولوجية الرادعة التي تعتبر من أهم أسس القوة بالنسبة للدولة القومية، وكسلسلة متشابكة، الظفر بقدرات عسكرية تكنولوجية يمنح الدولة إرادة سياسية وطيدة تساهم في خلق قرار سياسي مستقل يرعى المصالح القومية فوق كل اعتبار آخر، وبالتمعن في المميزات التقنية لهذه المنظومة، والتي تنقلها عدة صحف ومصادر موثوقة، نلاحظ أن تركيا باتت على وشك امتلاك قوة عسكرية حقيقية:
ـ توجيه 72 صاروخًا وتدمير 36 هدفًا في آن واحد.
ـ إمكانية نشرها خلال 5 دقائق لتكون جاهزة للعمل.
ـ امتلاك قاعدة إلكترونية أكثر تطورًا من منظومة “إس 300”.
ـ إسقاط جميع وسائل الهجوم الجوي ما بين الطائرات والمروحيات والطائرات من دون طيار والصواريخ التقليدية والبالستية وغيرها.
لا شك أن هذه القدرات ستساهم في تعزيز القدرات العسكرية للجيش التركي، لكن الأهمية الكبرى لهذه المنظومة تكمن في دفع تركيا نحو رفع مستوى صناعاتها العسكرية الذاتية التي بلغت نسبتها العام الماضي 40%، إلى أعلى مستوى، فميزة صعوبة دمج هذه المنظومة بالرادارات التابعة “للناتو”، وضلوع تركيا في التعاون بهذا الشكل الوثيق مع روسيا، عاملان، على الأرجح، قد يشجعان تركيا للنظر في إمكانيات تطوير قدراتها العسكرية الذاتية المواتية للتعاون مع أكثر من دولة.
وفي ضوء هذه النقطة، نرى في موازاة تركيا لتعاونها مع روسيا والصين إرسال رسائل، ظاهرة ومبطنة، إلى الغرب، تدل على رغبتها الشديدة في إجراء تعاون مشترك، كإلغاء الصفقة الموقعة مع الصين سابقًا، واستمرارها فعلاً في عقد صفقات التعاون العسكري مع الدول الغربية، كالتعاون الوطيد الجاري بينها وبين فرنسا وإيطاليا.
إنها بالفعل تهدف إلى تنويع مصادرها العسكرية، وليس الانتقال إلى إحداها وقطع التعاون التام مع الأخرى، بغية تحقيق توازن قوى يكفل لها أداة ضغط على الدول الغربية، ولا يُعقل أصلاً أن تتجه تركيا التي ذاقت مرارة “أحادية التعاون العسكري” لسنوات طويلة، إلى التعاون التام مع روسيا على حساب الغرب.
ـ الموازنة بين “القوة الصلبة” و”القوة الناعمة” للوصول إلى معادلة “القوة الذكية” التي ترفع مستوى تركيا الدبلوماسي:
بقدوم حكومة حزب العدالة والتنمية إلى مقاليد الحكم، طرحت مشروع “العثمانية الجديدة” أو ما يُعرف دبلوماسيًا “التكامل الإقليمي”، معتمدةً في تحقيقه إلى أساليب السياسة الناعمة كالاتفاقيات الاقتصادية ورفع مستوى التعاون العلمي والثقافي وزيادة الإنتاج الإعلامي المستهدف للإقليم.
وظهر جلّيًا أن تركيا لم تولِ القوة العسكرية والأمنية الصلبة الأهمية الكبيرة، وذلك ربما لأنها رأت في ذاتها دولة سنية مماثلة لمعظم دول الإقليم، بخلاف إيران التي تختلف عن دول المنطقة من حيث المذهب، وبالتالي تنتهج ثقافة “الدولة الأمنية” الخائفة من الصدام وحروب الوجود بشكل دائم.
واليوم بزيادة مستوى التعاون العسكري الدفاعي تصبح تركيا مدركة لأهمية التوليف بين “القوة الناعمة” و”القوة الصلبة”، بما يعني تبني بعض أسس ثقافة الدولة الأمنية، وبدمج القوتين تصبح هناك “قوة ذكية” تمتلك تركيا جزءًا كبيرًا منها.
واصلت فرنسا وإيطاليا وروسيا وتركيا والصين عقد اتفاقيات عسكرية متداخلة تجمع دول “الناتو” أو الدول المقربة إليه
ـ تغير مفهوم التهديد الأمني بالنسبة لتركيا
لقد انضمت تركيا إلى حلف “الناتو” عام 1952، لمواجهة التهديدات والأطماع الروسية في مناطقها الجغرافية الحدودية والسيادية، والمناطق الجغرافية الإقليمية التي تنافسها روسيا فيها، غير أنها باستخدام المنظومة المذكورة تظهر أن مفهوم التهديد الأمني بالنسبة لها بات يعني جميع الأطراف، الأمر الذي جعلها بحاجة للتعاون مع “جميع الأطراف” على حساب “جميع الأطراف”، ومن أجل مصلحتها القومية، بعيدًا عن “القطبية التامة”، وذلك يعني احتمال اتجاهها بالمزيد نحو التعاون مع اتحاد “الشنغهاي” وغيرها من الاتحادات الإقليمية.
ـ إظهار إرادة سياسية تحقق “الحلم التاريخي” لتركيا
راود تركيا حلم تاريخي قديم بشأن تنويع مصادرها العسكرية، لكن ضعف قدراتها الاقتصادية وتردي وضعها الأمني الداخلي وركاكة وضعها السياسي، وغيرها من العوامل حال دون تمكنها من تحقيق ذلك، ولكن اليوم بتوافر الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي استطاعت تركيا الاعتماد على إرادة سياسية تحقق حلمها.
ـ نتائج عكسية تدفع الناتو لرفع دعم الأكراد في سوريا على حساب تركيا
كان رد إدارة “الناتو” على امتلاك تركيا منظمة “إس 400” ناعمًا، لكن هذا لا يعني أن الحلف قد يحرم تركيا من بعض برامج التخطيط الدفاعي واستخدام الرادارات، وقد يُنزل عليها العقوبات من خلال رفع مستوى دعم الأكراد سياسيًا وعسكريًا واستخباراتيًا، وصولاً ربما لدعم تأسيس الأكراد لدولة فيدرالية أو مستقلة بالكامل تمكن “الناتو” من نقل قواعده العسكرية الموجودة في تركيا إليه، وغيرها من الخطوات التي تستدعي استعداد تركيا الوقائي والاستباقي لهذه النتائج.
ـ على الصعيد الدولي الإقليمي
تكريس مفهوم “القطبية المتعددة” على حساب “القطبية الأمريكية الأحادية”
ظهرت حقبة القطبية المتعددة خلال حقبة ما بين الحربين العالميتين، حيث ظهر “ميثاق البلقان” عام 1934، بين بلغاريا ويوغسلافيا وتركيا، و”ميثاق سادابات” عام 1937، بين إيران وأفغانستان وتركيا، و”اتفاق المحور” 1940 بين ألمانيا وإيطاليا واليابان، “واتفاق الدفاع المشترك” 1939 بين بريطانيا وفرنسا، وقد انضمت تركيا إليه فيما بعد لكنها لم تعمل به.
وعقب الحرب العالمية الثانية، ظهرت نسخة جديدة من الاتفاقيات الأمنية، ولكن بصبغة أيديولوجية تأرجحت ما بين القطب الرأسمالي الليبرالي بزعامة الولايات المتحدة، والقطب الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفييتي، فظهر للسطح حلف شمال الأطلسي “الناتو” عام 1949، بين الدول الرئيسية للقطب الرأسمالي، وحلف وارسو 1955 بين الدول الرئيسية للقطب الشيوعي، و”ميثاق بغداد” 1954 بين العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا، و”ميثاق البلقان” 1953 بين اليونان ويوغسلافيا وتركيا، وقد كرست هذه الاتفاقيات نهج النظام العالمي المستند على “ثنائية القطبية”.
بدأ التقارب التركي الروسي، خلال حقبة التسعينيات، في مجال تبادل الطاقة، وانتقل إلى مجال التعاون في مجالات اقتصادية أخرى
في حين واصلت فرنسا وإيطاليا وروسيا وتركيا والصين عقد اتفاقيات عسكرية متداخلة تجمع دول “الناتو” أو الدول المقربة إليه، ودول القطب الروسي الصيني، فإن العالم سيكون متجهًا، بلا أدنى شك، نحو حقبة ما بين الحربين العالمين التي تعني “القطبية المتعددة” التي تكسر أحادية القطبية الخاضعة لحكر إدارة الولايات المتحدة لمسارات السياسة العالمية، وتؤدي إلى ظهور توازن قوى يستند إلى إرادات سياسية لدول متعددة، إرادات سياسية تؤدي إلى ظهور سياسات مختلفة على الساحة الدولية.
وفي سياق “تعدد القطبية العالمية”، يبدو أن روسيا تسابق الخُطى نحو تحقيق “الفكرة الأوراسية” التي تمثل أساس سياستها الخارجية، على الأرجح، تُجري روسيا توسعها العسكري في إطار “الفكرة الأوراسية” التي تعني بناء “أعمدة” في قارتي أسيا وأوروبا على وجه الخصوص، بما يكفل لروسيا بناء تكتلات أمنية أو دينية أو اقتصادية تكاملية تدعم ظهورها كقطب مؤثر عالميًا، وتكسر “أحادية القطبية العالمية”.
وفي حين بقي السهم متجهًا نحو “القطبية التعددية”، ربما يكون هناك تذكية لمفهوم الصراع غير العنيف، كالتنافس الدبلوماسي والاقتصادي والاحتواء الإعلامي في أكثر من منطقة، بما يعني تكريس مفهوم الحفاظ على توازن القوى في العالم بعيدًا عن الحروب الساخنة.
انفتاح صفحة جديدة من “سباق التسلح”
قبل الاتفاق مع تركيا، اتفقت روسيا مع الصين والهند عام 2015، مما يدل على احتمال وجود عدد من المشترين الجدد، لا سيما من دول جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وبعض دول البلقان، وهنا نشهد انفتاح صفحة جديدة من “سباق التسلح” في الساحة الدولية، “سباق تسلح” تشكل روسيا بدعايتها السياسية القوية التي حازت عليها بعد دورها في سوريا، إحدى أهم قواعده، وعلى الأرجح، سيكون “سباق تسلح” يغذي دخول عدة دول إلى مضماره.
يمهد الاتفاق أرضية خصبة لاتجاه الساحة الدولية نحو “القطبية المتعددة” في الساحة الدولية، ويزيد من التنافسية حول العالم
تدعيم التقارب التركي الروسي
بدأ التقارب التركي الروسي، خلال حقبة التسعينيات، في مجال تبادل الطاقة، وانتقل إلى مجال التعاون في مجالات اقتصادية أخرى أوصلتهما إلى “الاعتماد الاقتصادي المتبادل المعقد الوثيق” الذي رفع مستوى الفائدة المتبادلة بينهما، وجعلهما مضطرتين، دومًا، لحل أي خلاف وفقًا “للسياسة الاتحادية التوافقية”، وقد ظهر ذلك جليًا حيال أزمة إسقاط الطائرة التي اضطر الطرفان، بضغط الحرص على الفائدة المتبادلة، لحلها قبل تجاوزها العام، وفي ظل الاتفاق الأخير يصبح هناك “اعتمادًا عسكريًا وثيقًا” يضطرهما أكثر لرعاية فائدتهما المتبادلة في إطار معادلة “رابح زائد رابح”، لأن خسارة طرف تعني خسارة الطرف الآخر بلا أدنى شك.
احتمال تكثيف الولايات المتحدة لتنفيذ مبدأ “العصا الغليظة”
بنشر روسيا لهذه المنظومة، تصبح الولايات المتحدة أمام تحدي التمدد الصيني الساعي لكسر الاحتكار الأمريكي الاقتصادي والتمويلي للساحة الدولية، والتمدد الروسي الساعي لكسر الاحتكار الأمريكي العسكري والسياسي للساحة ذاتها، وبالتالي، تكاد التصورات تجزم أن هذين التحديين سيضطران الولايات المتحدة لتبني مبدأ “مونرو” أو “العصا الغليظة” الذي ينص على أن نصف الكرة الغربي، أي الأمريكيتين والمناطق القريبة إليهما، يجب أن يكون بعيدًا عن التدخلات الخارجية، وإن حدث خطر عليه، ستتخذ الولايات المتحدة جميع الوسائل الوقائية اللازمة.
وقد استخدم الرئيس الأمريكي ثيودر روزفلت، هذا المبدأ بغزارة ضد التمدد الأوروبي في أمريكا الجنوبية، واستخدمه عدد من الرؤساء الأمريكيين خلال حقبة الحرب الباردة، مما يدل على احتمال عودة الولايات المتحدة لاستخدامه بكثافة في الأيام القادمة.
في الختام، يمهد الاتفاق أرضية خصبة لاتجاه الساحة الدولية نحو “القطبية المتعددة” في الساحة الدولية، ويزيد من التنافسية حول العالم، ونجاح روسيا والدول الأخرى في كسر الاحتكار العالمي كفيل بمدى قدرتهم على إجراء تحركات استباقية تخفض من مستوى تهديد الإجراءات الأمريكية ضد تحركهم لأدنى المستويات.