مع بداية ما أُصطلح على تسميته بالربيع العربي، وجدت تركيا نفسها مجبرة على التخلي عن استراتيجيتها التي تبنتها حكومة العدالة والتنمية طيلة الفترة التي سبقت ذلك الحدث، والمتمثلة بسياسة تصفير المشاكل مع الدول المجاورة وغير المجاورة، واضطرت تركيا لاتخاذ مواقف مساندة ومناصرة لثورات الشعوب التي اندلعت في أكثر من دولة عربية، لكن موقف تركيا ذاك، جعل مؤشر خلافاتها وتباين مواقفها بينها وبين الدول الكبرى ودول المنطقة، يرتفع تدريجيًا ليفوق في ارتفاعه ما كان عليه قبل تبني تلك الاستراتيجية، كنتيجة حتمية متوقعة.
ذلك لأن الثورة المضادة التي قادتها الدول العميقة ضد شعوبها في تلك البلدان، لم تكتف بالانتقام من شعوبها، بل شملت في انتقامها كل الدول التي دعمت تطلعات شعوب المنطقة بالتحرر والانعتاق، وكانت على رأس تلك الدول التي تلقت شرارة الثورة المضادة، تركيا، حتى وصل الأمر أنها كادت تخسر نظامها الديمقراطي عندما مولت الأنظمة الاستبدادية انقلابًا عسكريًا فاشلًا ضدها. لقد كانت النتيجة ومع الأسف مخيبة للآمال التركية في الرهان على ربيع إقليمي يحقق لشعوب المنطقة تطلعاتها، وبدلًا من ذلك أفرز حركات انفصالية غايتها تفتيت دول المنطقة، لتتوافق مع ما تخطط له “إسرائيل” والدول الغربية للمنطقة.
فشل “النموذج الكردي” في العراق بالتخلص من أحلام الانفصال
كان النموذج الكردي في إقليم كردستان العراق، نموذجًا مرضيًا لتركيا، مما جعلها توسع علاقاتها بإقليم كردستان العراق سياسيًا واقتصاديًا، وسعت تركيا لتطبيق حالة مشابه في المناطق الكردية بتركيا، من خلال التوصل لوقف إطلاق النار مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي، أعقبه بدء مباحثات سلام شامل ينال فيه الأكراد حقوقهم الثقافية والسياسية ضمن الدولة التركية الواحدة، إلا أن من استمرأت يده على سفك الدماء، فسَّر توجهات القيادة التركية بأنها ناتجة عن ضعف فيها، فاستغل ظروف الربيع العربي ليوسع عمله الإرهابي ويشكل تنظيمات إرهابية جديدة في سوريا تابعة له، ونكث بعدها كل الاتفاقات التي أُبرمت مع الدولة التركية وقطع الطريق عمدًا أمام التوصل لحل.
استغل الساسة الأكراد الفوضى التي اجتاحت العراق فضلًا عن ضعف حكوماته التي تعاقبت على حكمه بعد الاحتلال الأمريكي
ومع كل هذه الأحداث، لم تتخل الدولة التركية عن تحالفها الاستراتيجي مع أكراد العراق، على اعتبار أن تجربتهم تنم عن حِنكة سياسية وشعور عالٍ بالمسؤولية تجاه شعبهم الكردي، وتعكس رغبة جادة من قبلهم لعدم توريط شعبهم في حروب لا طائل منها مع شعوب المنطقة الأخرى التي تتقاسم العيش المشترك معهم.
لكن أكراد العراق الذين عاشوا في أفضل حالاتهم في ظل الحكومة الاتحادية التي تأسست بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، لم يكتفوا بحدود ما حصلوا عليه، وبدأ الغرب يدفعهم مرة أخرى لتبني الأحلام القديمة بالاستقلال عن شعوب المنطقة وتكوين دولتهم القومية، وكأن تجارب الدول القومية التي تأسست في المنطقة بدعم من الاستعمار الغربي، لم تكن كافية ليتعظوا من مشاكلها ويستنكفوا عن خوض تلك التجربة التي ثبت فشلها عالميًا.
لقد استغل الساسة الأكراد الفوضى التي اجتاحت العراق فضلًا عن ضعف حكوماته التي تعاقبت على حكمه بعد الاحتلال الأمريكي، بسبب تصرفاتها الطائفية، أعلنوا تنظيم (استفتاء) للاستقلال عن العراق بحجة أن من المستحيل البقاء ضمن عراقٍ موحدٍ يضم كل قومياته وطوائفه، بسبب سوء تصرفات الحكومة ضدهم، واضعين نصب أعينهم حلم قيام الدولة الكردية الكبرى، والطموح بقيادة الأكراد في المنطقة كلها، عبر القيام بالخطوة الأولى المتمثلة بالاستقلال عن العراق. أبدى القادة الاتراك النصح لقادة كردستان بأن ما يقدمون عليه خطأ كبير يمكن أن يبدد كل المكتسبات التي حصلوا عليها خلال السنوات السابقة، لكن لم تجد تلك النصائح آذان صاغية من القادة الكرد.
تركيا تتخذ احتياطاتها إزاء الوضع الجديد
لم يكن أمام الأتراك من خيار إلا أن يبدأوا بأخذ الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون الخطر المحدق بالمنطقة نتيجة مغامرات الأكراد العراقيين الذين لم يفطنوا إلى أن من شجعهم على إقامة الاستفتاء للاستقلال عن العراق بالأمس، هو نفسه من يتخلى عنهم الآن وينصحهم بتأجيله أو العدول عنه، فتلك التشجيعات لم تكن سوى نفخ للنار التي تشتعل بالمنطقة لتجعل شعوبها وبمقدمتها الشعب الكردي وقودًا لها.
الحزبين الرئيسيين في كردستان العراق ما زالا يحتفظان بقوات مسلحة (بيشمركة) مستقلة كل واحدة عن الأخرى
وفي خضم الاحتجاجات التي اندلعت في كردستان منذ شباط/فبراير 2016، على الفساد وعدم دفع الأجور، والتي أبدى فيها المتظاهرون الأكراد خيبة أملهم العلنية إزاء الحكومة الكردية في الإقليم، أطلق مسعود البارزاني الذي أنهى فعليًا ولايته كرئيس، حملة لتحقيق الاستقلال الكردي، محاولًا بهذا التصرف الهروب من مشاكله الداخلية إلى الأمام، وتجديد ولايته الرئاسية من جديد. وهنا يطرح السؤال: هل يمكن لمن فشل في تحقيق طموحات الشعب الكردي في العيش الرغيد وهو يأخذ 17% من ميزانية الحكومة العراقية، تأسيس دولة كردية مستقلة في الوقت المحاصرة فيه من قبل دول الجوار؟
لقد ورطت حكومة كردستان الشعب الكردي بديونٍ بلغت قيمتها حتى الآن 25 مليار دولار، مع علاقة متأزمة بينها وبين بغداد وعلاقة سيئة مع أنقرة وطهران وانتقادات من الاتحاد الأوروبي على خلفية تعثر الديمقراطية في كردستان وعدم شفافية الإيرادات والإسراف في الميزانيات، وهذا كله وهم لم يحصلوا على الاستقلال بعد، فكيف سيكون الوضع بعد الاستقلال؟ إن الدولة الكردية المستحدثة، لن تجد نصيرًا لها سوى الكيان الصهيوني، الذي بدوره لن يدخر وسعًا وجهدًا في تفتيت دول المنطقة لتكون “إسرائيل” الأقوى في المنطقة، وستضطر الدولة الجديدة أن تكون خادمًا لـ”إسرائيل” كي تستطيع العيش وسط هذا الرفض الإقليمي، في حالة أشبه ما تكون لحالة دولة جنوب السودان التي تخلت عنها “إسرائيل” حينما أتمت انفصالها عن السودان، لتعيش اليوم أسوأ حالاتها من فقر وحرب داخلية لا تنتهي.
وفي سذاجة سياسية بالغة، اعتقد القادة الأكراد أن قيامهم بتصدير الغاز الطبيعي والنفط عبر تركيا، سيساعد كردستان على تحقيق اقتصاد مستقل، ناسين أو متناسين أن تركيا لن تتعامل مع كيان انفصالي، وتصديرهم للغاز الطبيعي لن يكون سهلًا أمام ناظري إيران وروسيا.
من جانب آخر، حدا عجز الحكومة الكردية الحالية عن دفع رواتب قوات “البيشمركة” ومستحقاتها المالية، إلى الطلب من الولايات المتحدة المساعدة في تأمين رواتبهم، الأمر الذي سيحولهم تدريجيًا إلى قوات مرتزقة تعمل بإمرة القوات الامريكية أو الإسرائيلية أو أي دولة تدفع أكثر، وعلى ذلك تقاس كل الأمور من مشاريع اقتصادية فاشلة وسياسة نفطية خاطئة وعجز عن بناء بنية تحتية استراتيجية، وهي مؤشرات تشير برمتها إلى أن المنطقة الكردية ليست جاهزة للاستقلال في ظل تلك الظروف.
الاستفتاء الكردي إذا ما تم تمريره، فإن ما بعده من اعتراف بالدولة الوليدة سيكون أسهل بكثير، والاعتراف بها من قبل “إسرائيل” لن ينتظر طويلًا
ولو نظرنا إلى التصدعات السياسية الموجودة في الأحزاب الكردية، والتي لم تلتئم إلا بضغوط أمريكية، لوجدنا أن الحزبين الرئيسيين في كردستان العراق ما زالا يحتفظان بقوات مسلحة (بيشمركة) مستقلة كل واحدة عن الأخرى، ورغم الجهود التي بدأت منذ عام 2005 لتوحيد قوات البيشمركة، ما زالت منقسمة، فمن الطبيعي الاستنتاج أن الخطوة التالية لإعلان استقلال كردستان، سيكون احتربًا عسكريًا بين الحزبين للحصول على كعكة الدولة، كما يحدث الآن في جنوب السودان.
لماذا ترفض دول الإقليم الاستفتاء؟
هناك قناعة راسخة عند دول الإقليم، أن الاستفتاء الكردي إذا ما تم تمريره، فإن ما بعده من اعتراف بالدولة الوليدة سيكون أسهل بكثير، والاعتراف بها من قبل “إسرائيل” والولايات المتحدة لن ينتظر طويلًا، بل سيصبح الاعتراف بهذا الكيان الانفصالي، ورقة ضغط تستغلها الدول التي تصطاد بالماء العكر، من دول غربية ودول خليجية للضغط على تركيا. إن للاستفتاء الكردي للانفصال عن العراق تداعيات، لا بد أن تشمل الجارين التركي والإيراني، وإذا كان الإيرانيون يشعرون أنهم في مأمن من أكرادهم ودعواتهم الانفصالية، فإن الأمر مختلف جدًا في تركيا التي تقود حربًا حقيقية مع الانفصاليين الأكراد منذ سنيين طويلة. التردد المستمر للقيادة التركية في التدخل في الشأن السوري عسكريًا بشكل مبكر لحسم الملفات العالقة فيه، جعل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا المتحكمين الأساسيين في المشهد السوري، واللتين سرعان ما دعمتا تشكيل كيان كردي عميل لهما ليحمي قواعدهما التي أنشآها في الأرض السورية، وإلا فهل من المنطقي أن تنشئ الولايات المتحدة 17 قاعدة عسكرية في المناطق التي تسيطر عليها مليشيا وحدات حماية الشعوب الكردية بحجة الحرب على “داعش”؟
لتركيا خيارات عديدة ليس أقلها غلق الحدود أمام كردستان، والذي معناه اقتصاديًا، خنق كردستان بالكامل إذا ما علمنا أن علاقات الأكراد متدهورة حاليًا مع طهران وبغداد
والآن بعد كل الذي جرى، هل تكفي عمليات مثل “درع الفرات” أو سيفه، لتعطيل المشروع الأمريكي والروسي الذي لا محالة سيلف الحبل حول عنق تركيا من طرفها الجنوبي؟ إن عدم اتخاذ تركيا لإجراء حقيقي للحيلولة دون تمرير مؤامرة تفتيت العراق بانفصال كردستان عنه، سيجعلها وفي ظرف سنوات قليلة، تناقش تداعيات حالة مشابهة لتلك التي في العراق، ولكن هذه المرة ستكون داخل تركيا، ونفس الأمر سينطبق على إيران أيضًا.
هل من خيارات لتركيا يمكنها اتخاذها حيال هذا الوضع؟
وفي ظل إصرار الأكراد على الانفصال، وإصرار تركيا على عدم السماح بتشكيل كيان كردي انفصالي متاخم لحدودها الجنوبية سواء كان في العراق أو سوريا، ولكيلا تتحول تلك الكيانات لقاعدة متقدمة لـ”إسرائيل” أو باقي أجهزة المخابرات العالمية التي لا محالة ستستهدف أمن واستقرار تركيا، فإن لتركيا خيارات عديدة ليس أقلها غلق الحدود أمام كردستان، والذي معناه اقتصاديًا، خنق كردستان بالكامل إذا ما علمنا أن علاقات الأكراد متدهورة حاليًا مع طهران وبغداد.
والخيارات التركية الأخرى مفتوحة لأكثر من ذلك، فحينما زار رئيس الأركان الإيراني “محمد باقري” أنقرة والتقى بنظيره التركي خلوصي آكار، لم تكن زيارة سياسية، بل كان موضوع الاستفتاء الكردي على رأس جدول أعمالهما، وبالتأكيد هذان الرجلان لا يناقشان المسائل السياسية لأنها ليست من اختصاصهما بل ناقشا الخيارات العسكرية للتعامل مع موضوع الإصرار الكردي على قيام هذا الاستفتاء.
فهل سيكون التردد هذه المرة أيضًا سيد الموقف في القرارات التركية؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام القليلة القادمة.