ترجمة وتحرير: نون بوست
في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية في الثالث من آذار/ مارس سنة 1924 وإعلان مصطفى كمال أتاتورك عن تحول تركيا إلى جمهورية علمانية، تطلعت البلاد إلى أوروبا الغربية كنموذج سياسي ينبغي محاكاته. وخلال سنوات تكوينها، شهدت الجمهورية التركية الجديدة فترة من الاستيعاب القسري للعلمانية ورقابة على الهوية والثقافة الإسلامية المتجذرة في مجتمعها. بناء على ذلك، حظر النظام الكمالي ارتداء الحجاب، ورفع الآذان، بالإضافة إلى غلق المدارس الدينية وإلغاء اللغة العربية من المناهج التعليمية.
في الواقع، استمرت هذه الحملة الاستبدادية التي شُنت على كل ما يتعلق بالإسلام لعقود طويلة. وفي الأثناء، وقعت عدة انقلابات عسكرية جراء تعرض “أمن” “ووحدة” الجمهورية العلمانية للتهديد. كما تم القضاء على الآثار التاريخية للإمبراطورية العثمانية من الحياة العامة، نظرا لأن القيادات العليا من السلطة الكمالية اعتبرتها بمثابة فصل رجعي من التاريخ التركي.
على صعيد آخر، اصطدمت رغبة تركيا في نيل عضوية الاتحاد الأوروبي بإشكالية تمثلت في أنها بلد ذو غالبية مسلمة يبلغ عدد سكانه 80 مليون نسمة، وتمتلك أحد أقوى الجيوش العاملة في العالم، وحيث الأعراف الاجتماعية الدينية لا تتوافق تماما مع مبادئ أوروبا الليبرالية العلمانية. أما حين يعارض أعضاء الاتحاد الأوروبي محاولة تركيا انضمامها للاتحاد، فغالبا ما يتهمون أنقرة بانتهاكها لحقوق الإنسان وفرض رقابة على الحريات.
لا يمكن إنكار الدور الأساسي الذي لعبه حزب العدالة والتنمية في إحياء التاريخ العثماني في تركيا
سياسيا، قد يبدو من غير السليم قول ذلك، بيد أن علاقات تركيا تاريخيا مع أوروبا خلال العصر العثماني جعلت هويتها الإسلامية أمرا لا يحبذ الأوروبيون التطرق إليه. وفي الوقت الراهن، تتطلع تركيا بقيادة الرئيس الذي يتمتع بالكاريزما، رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية، إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للظفر بأي نفوذ سياسي وازدهار اقتصادي.
إحياء التاريخ العثماني
حين برز أردوغان، الزعيم المسلم الذي لا يبدي أي رغبة في الاعتذار، بعد 70 سنة من التقهقر التدريجي للكمالية، لم يكن هناك مفر من أن يعتبره البعض، وإلى جانبهم حزب العدالة والتنمية، بمثابة عثمانيّ العصر الحديث. وجرت العادة أن تتم هذه المقارنات من قبل الصحفيين الغرب والعلمانيين الأتراك، الذين يربطون “السلطان أردوغان” بالإمبراطورية العثمانية. في المقابل، لا يمت أردوغان، أو خطاب حزب العدالة والتنمية، ولا حتى السياسة التي يتبعها بأي صلة بالعثمانيين.
مع ذلك، يشهد الحنين إلى العصر العثماني ارتفاعا ملحوظا في تركيا. فخلال الزيارتين الأخيرتين اللتين أديتهما إلى إسطنبول منذ سنة 2015، لاحظت، ابتداءً من موظفي الفندق، مرورا بسائقي سيارات الأجرة، ووصولا إلى أصحاب المحلات التجارية وطلاب الجامعات، نظرة إيجابية على الدوام إزاء التاريخ العثماني، حتى في صفوف أولئك الذين كانوا من أشد المنتقدين لأردوغان وحزبه.
في الحقيقة، قد يبدو من غير السليم مقارنة أردوغان بالسلاطين العثمانيين حتى وإن كان مجازا، إلا أنه لا يمكن إنكار الدور الأساسي الذي لعبه حزب العدالة والتنمية في إحياء التاريخ العثماني في تركيا. مما لا شك فيه، إن إحياء ذكرى المعارك التاريخية من قبيل معركة جاليبولي، واستقبال زعماء العالم من قبل حراس يرتدون ملابس من العصر العثماني، فضلا عن خطاب أردوغان وسياسة حزبه الاجتماعية لن تروق لأتاتورك حتى وهو في قبره.
طيلة سنوات، أيّد أردوغان وحزب العدالة والتنمية العديد من السياسات الاجتماعية التي سبقهم إليها العثمانيون، بما في ذلك دعوة الشباب المسلم في تركيا إلى عدم التأخر في الزواج، ودعم الأزواج لإنجاب المزيد من الأطفال. علاوة على ذلك، يعيد دعم الحكومة المستمر للفلسطينيين والسوريين والروهينغا إلى الأذهان كيفية تدخل تركيا لمساعدة المسلمين المضطهدين. كما توجد هناك أدلة أخرى على إحياء السلطات للتاريخ العثماني، على غرار الإشادة بالمسلسلات التلفزيونية التي تجسد العصر العثماني؛ وفيما يلي أبرز الأمثلة على تلك المسلسلات.
قيامة أرطغرل
عُرض أولى حلقات مسلسل “قيامة أرطغرل” للمرة الأولى سنة 2013، حيث يروي قصة “غازي أرطغرل”، وهو والد السلطان عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية الذي عاش قبل حوالي 800 سنة. وفقا لأحداث المسلسل، يُكافح أرطغرل لإيجاد وطن دائم لقبيلته “قايى” في الوقت الذي يحارب فيه فرسان الهيكل، والمغول، والحكام والجنرالات السلاجقة الغادرين، فضلا عن الجواسيس في الداخل.
مسلسل قيامة أرطغرل يتضمن أفكارا رئيسية قوية تتعلق بإقامة دولة توسعية على أساس الحكم بالعدل والمفاهيم الإسلامية، التي تدور حول الوحدة والجهاد والاستشهاد والصبر والأمل
وبالعودة إلى طاقم الفيلم، يُعتبر مخرج ومنتج المسلسل، المحافظ محمد بوزداغ، صانع أفلام مشهور في تركيا، كما لا يخفى على أحد صلته الوثيقة بحزب العدالة والتنمية. عندما بُثّ المسلسل على قناة “تي ري تي”، القناة الأولى التركية، حقق نجاحا ساحقا. ومع ذلك، حقق المسلسل شعبية أكبر، إن كان بالإمكان اعتبار مواقع التواصل الاجتماعي مؤشرا على ذلك، بين أوساط المشاهدين غير الأتراك الذين تابعوه على شبكة “نتفليكس”. وقد وصل الأمر بالبعض إلى إطلاق اسم “صراع العروش التركي” على المسلسل.
بالنسبة لدور البطولة، قام الممثل التركي، إنجين ألتان دوزياتان، بتجسيد شخصية أرطغرل، الخادم المخلص للسلطان السلجوقي، علاء الدين كيقباد، الذي عمل على حماية الإمبراطورية السلجوقية وتوسيعها. في الآن ذاته، امتلك أرطغرل خطة طويلة الأمد يهدف من خلالها إلى إقامة إمارته الخاصة التي ستطغى على المعقل السلجوقي. وفي الأثناء، استعان أرطغرل بإرشادات العلماء الدينيين، الصوفيين على وجه الخصوص، ووالدته “هايماه”، وزوجته السلجوقية “حليمة”.
والجدير بالذكر أن المسلسل يتضمن أفكارا رئيسية قوية تتعلق بإقامة دولة توسعية على أساس الحكم بالعدل والمفاهيم الإسلامية، التي تدور حول الوحدة والجهاد والاستشهاد والصبر والأمل، مقترنة بكراهية محضة تجاه الصليبيين وجواسيسهم من “داخل” القبيلة. نتيجة لذلك، لم يسعني سوى الشعور بأن الصليبيين وعملاءهم يتناسبون تماما مع رواية أردوغان الرسمية بشأن المؤامرة الانقلابية، التي تم تنظيمها من قبل الغرب وتنفيذها من قبل جماعة فتح الله غولن. وتدور الشائعات بأن موسما رابعا للمسلسل سيتم إصداره في أواخر السنة الجارية.
السلطان الأخير؛ عبد الحميد الثاني
عُرض مسلسل “السلطان عبد الحميد الثاني” للمرة الأولى على قناة “تي ري تي” في مطلع هذه السنة، حيث يقتفي أثر السنوات الأخيرة من حكم السلطان عبد الحميد الثاني خلال أوائل القرن العشرين، التي شابتها حركات التمرد الانفصالية، والمؤامرات الانقلابية من قبل حركة “تركيا الفتاة”، فضلا عن التهديدات الخارجية من القوى الأوروبية التي يدّعي المسلسل أن مؤسس الصهيونية، تيودور هرتزل، يقف وراءها.
أحدث مسلسل السلطان عبد الحميد ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة بين صفوف الطائفة اليهودية، الذين اتهموا المسلسل بالترويج لمعاداة السامية
في هذا الصدد، يُنظر إلى عبد الحميد الثاني، الذي جسّد شخصيته الممثل التركي، بولنت إينال، على نطاق واسع على أنه الخليفة العثماني العظيم والأخير الذي نجح بمفرده في الإبقاء على الإمبراطورية لمدة أربعين سنة إضافية. خلافا لذلك، وُصف السلطان العثماني من قبل معاصريه الأوروبيين على أنه ملك رجعي حرم إمبراطوريته من التمتع بالحداثة.
خلال فترة حكمه، نفّذ عبد الحميد إصلاحات تعليمية وعسكرية واقتصادية كبرى ما مكن الإمبراطورية من تجاوز تاريخ سقوطها المتوقع بحوالي نصف قرن قبل أن تتم تنحية السلطان سنة 1909. وقد أشاد أردوغان، جنبا إلى جنب مع العديدين من داخل الشرائح المحافظة في المجتمع التركي بهذا المسلسل، تماما مثلما فعل الأمير عبد الحميد كايهان عثمان أوغلو، حفيد السلطان عبد الحميد الذي شارك بالنصح في إنتاج المسلسل.
صورة للسلطان عبد الحميد الثاني خلال ظهور نادر له في العلن خلال سنة 1908.
على الرغم من ذلك، أحدث مسلسل السلطان عبد الحميد ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة بين صفوف الطائفة اليهودية، الذين اتهموا المسلسل بالترويج لمعاداة السامية. وقد نجحت جماعات الضغط السياسي في منع شبكة “نتفليكس” من بث المسلسل، في حين ادعى موظفون في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات أنه يروج “لنظرة عالمية معادية للديمقراطية والسامية وقائمة على نظرية المؤامرة”.
القرن العظيم
يصور مسلسل “القرن العظيم” حياة سليمان “العظيم”(المعروف أيضا باسم حريم السلطان)، وهو أحد أعظم السلاطين العثمانيين الذين قادوا الإمبراطورية إلى بلوغ ذروتها خلال القرن السادس عشر. وفي تباين صارخ مع قيامة أرطغرل والسلطان عبد الحميد، سلط القرن العظيم الضوء أساسا على النسوة اللواتي أحطن بالسلطان، بما في ذلك زوجاته الغيورات والجواري المتنافسات والأم المسيطرة، اللاتي تسعين جميعهن للحصول على النفوذ داخل القصر.
فضلا عن ذلك، تصور الدراما صعود “هرم” إلى رأس السلطة، التي كانت عبدة أرثوذكسية مسيحية من شبه جزيرة القرم لتصبح فيما بعد زوجة سليمان وإحدى أقوى النساء في التاريخ العثماني. وعلى الرغم من أن تحقيق القرن العظيم، الذي بثّته قناة “تي ري تي”، نجاحا ساحقا في تركيا، إلا أن المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري التركي قال إنه تلقّى أكثر من 70 ألف شكاية بسبب تصوير المسلسل لحياة السلطان الجنسية، ولعبه للقمار وغيرها من التجاوزات داخل العائلة المالكة.
تمثل الموضوعات الثابتة من قبيل؛ الفتوحات العسكرية، والوحدة الإسلامية، ومفهوم الجهاد كآلية لتحرير الأراضي المحتلة، جزءً لا يتجزأ من المسلسلات التلفزيونية على غرار قيامة أرطغرل والسلطان عبد الحميد
من جانب آخر، لم يسلم المسلسل من انتقادات الرئيس التركي الذي وصفه “بالمخل للاحترام” تجاه شخصية تاريخية موقرة. وعلى الرغم من أن القرن العظيم يختلف بشكل كبير عن قيامة أرطغرل والسلطان عبد الحميد إلا أن ذلك لا ينفي تصويره، من خلال مقتطفات متناغمة، لمجد الإمبراطورية العثمانية، وللسلطان سليمان على أنه الخليفة الأعظم في الإسلام. كما يُشار إلى المخرجين والمنتجين الرئيسيين للقرن العظيم على أنهم علمانيون. ومن هذا المنطلق، مثّل إدراجهم للمفاهيم الإسلامية في المسلسل وفقدان الثقة التاريخية التي يُبديها الأوروبيون عنصرا مفاجئا.
هل ستشكل العثمانية المستقبل التركي؟
في الوقت الذي لا تمثل فيه هذه المسلسلات إنتاجات حكومية، تمكن اثنين منها تم إنتاجها من قبل القناة الأولى التركية “تي ري تي”، من نيل استحسان أردوغان وكبار السياسيين في حزب العدالة والتنمية بشكل كبير. ويبدو من الصعب الحكم ما إذا كان إحياء التراث العثماني جزء من سياسة “الأسلمة” السلبية التي يتبعها حزب العدالة والتنمية، أو احتفالا حقيقيا بالتاريخ التركي.
لكن، إذا ما سمحت الحكومة بأن يتم تذكير الجماهير باستمرار بمجدهم وانجازاتهم التاريخية، فقد يتوق الكثيرون إلى أن تتكرر التجربة العثمانية، وهو ما يحدث في العالم الغربي طيلة الوقت. ففي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، كثيرا ما يتم تذكير الجماهير من قبل وسائل الإعلام الرئيسية بمدى “عظمة” أجدادهم الاستعماريين في تشكيل العالم الحديث، وتعزيز شعور السكان بالأهمية العالمية والسياسة التدخلية.
في هذا السياق، تمثل الموضوعات الثابتة من قبيل؛ الفتوحات العسكرية، والوحدة الإسلامية، ومفهوم الجهاد كآلية لتحرير الأراضي المحتلة، جزءً لا يتجزأ من المسلسلات التلفزيونية على غرار قيامة أرطغرل والسلطان عبد الحميد. وقد يؤدي ذلك إلى أمرين اثنين ألا وهما الرغبة اللاواعية للعودة إلى مجد مماثل والمقارنة الواعية بين السلاطين العثمانيين المشهورين في الماضي والزعماء المعاصرين في تركيا. وقد يتجلى ذلك أيضا في كون الجمهور التركي يبدو أكثر تقبلا ودعما للتدخل العسكري في المنطقة، وحتى توسيع الدولة التركية لحدودها.
مؤيد لحزب العدالة والتنمية يرتدي قميصا يحمل صورة الرئيس رجب طيب أردوغان خلال احتفال بذكرى غزو الأتراك العثمانيين لمدينة إسطنبول في أيار/ مايو سنة 2015.
مع ذلك، من المهم أن نلاحظ أنه في الوقت الذي يرى فيه البعض أن الإحياء الثقافي للعثمانية فيه اكتساب تركيا لصبغة أكثر إسلامية وتعزيز لتطلعاتها لتصبح ذات خلافة توسعية، يرى البعض الآخر أن ذلك مجرد احتفال بتراثها العثماني. فعلى سبيل المثال، استغلت الجماعات العلمانية الجو الحالي للدفع بأجنداتها على غرار القوميين الأتراك الذين يتاجرون بالعثمانية لتبرير الوحدة التركية.
وبغض النظر عن الطريقة التي يُقرأ بها هذا الإحياء، يمكن أن يؤدي الحنين الحالي للعصر العثماني إلى قبول ودعم واسع النطاق لتركيا كي تُشرك نفسها في الشؤون السياسية والاقتصادية داخل الأراضي العثمانية التركية سابقا القائمة على الوحدة التركية. وقد يأتي ذلك في مقابل الشرق الأوسط القائم على الفرضية السياسية “للوحدة الإسلامية”.
وبالتالي، نظرا لأنني أمثل أحد المعجبين بالتاريخ العثماني، فأنا أعتبر الانبعاث الحالي للعثمانية بمثابة تغيير إيجابي ومنعش بالنسبة للشعب التركي ليخرجهم من الأيام الحالكة للاستبداد الكمالي. لكن، سيكون من المؤسف أن يتم قمع هذا الإرث من قبل العلمانيين أو التلاعب به من قبل الإسلاميين الانتهازيين في حين أن هناك ثروة من الدروس التي بإمكان تركيا تعلمها من الحقبة العثمانية حول كيفية التقدم كقوة ناشئة في المنطقة.
المصدر: ميدل إيست آي