أثار وصول ترامب إلى البيت الأبيض تساؤلات كبيرة بشأن نية الولايات المتحدة العدول عن نهجها الليبرالي في إدارة الاقتصاد إلى نهج أكثر انعزالية وقومية، إذ طرح ترامب سياسات “حمائية” فيما يخص عمل الشركات الأمريكية والتبادلات التجارية من وإلى الولايات المتحدة، أرعب بها دول العالم التي عرفت أمريكا خلال العقود الماضية بأنها قلعة الرأسمالية العالمية والسوق الحرة ومصدرة مبادئ الليبرالية للعالم.
كما رأى ترامب أن أمريكا في عهده غير ملزمة بأي اتفاقية لا تحقق مصالحها كأولوية، وأن الوقت حان لتبني سياسات أكثر تشددًا مع الاتفاقيات الدولية.
البعض أشار أن ترامب يريد التحول إلى “الرأسمالية غير الليبرالية” عبر سياساته تلك، وهو الذي تكلم بخطابات شعبوية ويسير على مبدأ “أمريكا أولًا” ورؤية تقوم على إعادة العظمة لأمريكا والتخلص من مؤسسة “الإستبليشمنت” وإعادة السلطة للشعب.
رأسمالية ولكن غير ليبرالية
تُعرف الرأسمالية بأنها نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية يقوم على مبادئ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والمبادرة الفردية والمنافسة الحرة وتقسيم العمل وتخصيص الموارد عبر آلية السوق دون الحاجة إلى تدخل مركزي من الدولة.
كما يؤمن النظام الاقتصادي الرأسمالي بالربح المادي محفزًا للأفراد على المبادرة والمخاطرة واستثمار رؤوس الأموال، لكسب المزيد من الأرباح ومضاعفة الثروات، ويعتقد أنصار هذا النظام أن قوة تراكم رأس المال هي السبيل إلى النمو والتنمية الاقتصادية، من خلال تمويل الاستثمارات الضخمة والمشاريع الكبرى.
لا يمكن أن يتحول ترامب إلى شخص بوتين ونظامه الاقتصادي المتبع في روسيا، حتى لو قام بدعم تدابير الحمائية التجارية وسياسات انعزالية
أما مفهوم الليبرالية فهي تعني تحرير الإنسان كفرد وجماعة من القيود السلطوية الثلاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي مذهب سياسي واقتصادي معًا، ففي السياسة تعني تلك الفلسفة التي تقوم على استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية.
وتقوم الليبرالية على الإيمان بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه بالحياة وحرية الاعتقاد والضمير وحرية التعبير والمساواة أمام القانون، ولا يكون هناك دور للدولة في العلاقات الاجتماعية، فالدولة الليبرالية تقف على الحياد أمام جميع أطياف الشعب ولا تتدخل فيها أو في الأنشطة الاقتصادية إلا في حالة الإخلال بمصالح الفرد.
لذا سيكون المجتمع غير ليبرالي من هذا المنطلق هو ذاك المجتمع المنغلق الذي لا يعنى بتحرير الفرد من القيود الثلاث ويتدخل بالأنشطة الاقتصادية وفق سياسات منهجية، أما من الناحية السياسية فلا تلتزم الدولة بحرية الفرد ولا تلتزم بالحريات الشخصية والسياسية والمدنية، فجميع هذه الأمور ستخضع للتدقيق في ظل هذا النظام لخدمة أجندة معينة.
أن يكون الاقتصاد رأسماليًا ولكنه غير ليبرالي، يعني أن النظام السياسي سيكون ذا نزعة قومية، وينظر النظام السياسي إلى الازدهار والنمو الاقتصادي والتنمية والحرية الفردية كأساس لتعزيز وجوده في السلطة أكثر من أي شيء آخر.
دول ناجحة دون ليبرالية
هناك عدة دول تحولت إلى الرأسمالية خلال السنوات القليلة الماضية وتخلت عن إدارة الاقتصاد المركزية، ولكنها حافظت على نفوذ للدولة في الأنشطة السياسية والاقتصادية بشكل ما، كما حصل مع تركيا منذ استلام العدالة والتنمية دفة السلطة في 2003 إذ عمل على اتباع سياسات السوق الحر وتحرير الاقتصاد والعملة ودعم المؤسسات الديمقراطية ولكنه حافظ على ألا يكون نظامًا ليبراليًا بشكل مطلق لتنفيذ سياسات تخدم مصلحة الدولة بشكل أساسي.
يجب أن يكون جميع الأفراد في خدمة الدولة، فحتى الأفراد الذين تملكوا وأصبح لديهم ثروات طائلة يجب أن يكونوا خدامًا أو “أقنانًا” عند الدولة الروسية تنفذ مصالحها بالدرجة الأولى.
وينطبق أيضًا على روسيا ورئيسها، فروسيا سعت خلال السنوات الماضية بتطبيق مبادئ الراسمالية ولكنها بقيت غير ليبرالية للحفاظ على السلطة بيد قلة من الأشخاص النافذين في الدولة، فتطبيق القيم الليبرالية سيؤدي إلى مجتمع ديمقراطي يتناقض والقبضة الأمنية التي يملكها بوتين والتي يجعلها أولوية في روسيا وقد تخرجه من الكرملين.
ورغم هذا فقد نجحت الحكومة الروسية في تحقيق معدلات نمو مرتفعة خلال السنوات الفائتة استطاعت رفع الناتج المحلي الإجمالي لتحتل المرتبة الـ12 عالميًا والسادسة من حيث القوة الشرائية، وأن تكون أكبر مصدر للغاز في العالم.
ولكن يشير البعض أن روسيا تمكنت من تحقيق هذه النتائج بفضل ارتفاع أسعار النفط العالمية كونها تعتمد على إيرادات النفط بشكل كبير في تمويل ميزانيتها وقد واجهت مشاكل مالية بعد هبوط أسعار النفط، كما بقيت معدلات البطالة والفقر مرتفعة إضافة إلى تركز الثروة بيد فئة قليلة من الأشخاص المقربين من الكرملين.
ينظر بوتين إلى أحد مسببات انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه فشل اقتصادي أكثر من الأسباب السياسية والعسكرية، يُشار أن تحليلات أشارت إلى أن أحد أسباب انهيار الاتحاد هو التعديلات التي أجريت على الاقتصاد بإدخال عناصر اقتصاد السوق الحرة (نظام يقوم على تحرير الاقتصاد وخصخصة الشركات واعتماد سياسات ليبرالية) على منظومة مركزية للغاية مثل الاقتصاد الروسي، تقوم على السيطرة على مفاصل الاقتصاد وتفرض خططًا خمسية تضع أهدافًا لجميع أشكال الإنتاج، وتؤدي لفرض سيطرة سياسية كاملة على البلاد.
بوتين الضابط الاستخباراتي السابق، يرى أن حقوق الملكية التي تتيح للأفراد تأسيس الشركات وامتلاك ثروة، وتسجيل براءات اختراع باسم أصحابها، يجب أن تكون “مشروطة دائمًا” لأنه ينظر إلى توفر طبقة ثرية كبيرة في المجتمع ووجود حقوق ملكية وانفتاح شامل وتطبيق لليبرالية، بأنه تهديد لبوتين في السلطة.
فبنظره يجب أن يكون جميع الأفراد في خدمة الدولة، فحتى الأفراد الذين تملكوا وأصبح لديهم ثروات طائلة يجب أن يكونوا خدامًا أو “أقنانًا” عند الدولة الروسية تنفذ مصالحها بالدرجة الأولى.
أتاحت محدودية الملكية الخاصة المشروطة لبوتين، سيطرة الكرملين على الثروة وبالتالي السيطرة السياسية على البلاد، إذ سينشأ لديها قلة من الملاك الرأسماليين والأثرياء تتزاوج مع السلطة وتساعدها على دعم النظام السياسي وتعزيزه.
أن يكون الاقتصاد رأسماليًا ولكنه غير ليبرالي، يعني أن النظام السياسي سيحرر الاقتصاد دون الالتزام بمبادئ الليبرالية وسيكون ذا نزعة قومية، وينظر النظام السياسي إلى الازدهار والنمو الاقتصادي والتنمية والحرية الفردية كأساس لتعزيز وجوده في السلطة أكثر من أي شيء آخر.
ويُذكر في هذا المقام، أن تطبيق سياسات اقتصادية ليبرالية تقود لأسوق حرة لا تكبلها أي قيود وتمنع من تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، ستقود في نهاية المطاف إلى دولة أقوى يكون فيها البقاء للأصلح كما رأى اجتماعيون واقتصاديون خلال أوائل القرن العشرين.
لا يمكن أن يقوم ترامب بالتحول إلى شخص بوتين، حتى لو دعم تدابير الحمائية التجارية التي أثارت لغطًا كبيرًا مع الصين وألمانيا عبر فرض رسوم وتعريفات جمركية على وارداتها للولايات المتحدة، فهو لا يزال يدعم سياسات السوق الحرة بشكل أو بآخر، كما أن هيكلية المؤسسات السياسية والاقتصادية غير الاستحواذية في أمريكا تحد من ذهاب ترامب بهذا الخيار، على عكس المؤسسات الموجودة في روسيا وبلدان أخرى التي تدعم بشكل كبير من تطبيق رأسمالية غير ليبرالية بدرجة كبيرة.