منذ سبعة سنوات، والأزمة السورية تتلخص في الصراع على سُلطة ملقاة بقارعة الطريق، تنتظر الأقوى والأكثر ثباتًا وفهمًا في كيفيات التعامل مع القوى الدولية، والأعلى احترافية وإجادة للغة المتعارف عليها في تحييد الأقطاب الكبري ليتلقفها.
ورغم الاستقرار النسبي على هذه المعادلة فإن المنغصات الإقليمية القديمة عادت من جديد، وظهرت “إسرائيل” قبل أسبوع وهي تعربد في الفضاء السوري عبر غارة كبرى على مركز للأبحاث في ظاهر مصياف، ولا يعرف إن كانت مصادفة أو قصد أن تأتي هذه الضربة في ذكرى مرور عشر سنوات على هجوم “إسرائيل” الذي استهدف المفاعل النووي السوري عام 2007.
الكلمة لـ”إسرائيل” وحدها
فور وقوع الضربة، لم يهتم عاموس يدلين الرئيس الأسبق للاستخبارات الإسرائيلية بردود الفعل العربية والإقليمية القلقة، وخرج متحديًا موجهًا الرسائل ومحذرًا الجميع على موقع تويتر، حيث قال نصًا: “الضربة ليست روتينية وفي تنفيذها وجهت “إسرائيل” ثلاث رسائل مهمة، الأولى أنها لن تسمح بإنتاج أسلحة استراتيجية في سوريا وستفرض خطوطها الحمراء إذا أهملتها القوى الكبرى، والثانية أن حضور الدفاعات الجوية الروسية لن يعيق توجيه الضربات لأي هدف تراه “إسرائيل” يعيق أمنها، والثالثة طالب فيها المجتمع الدولي بالتضامن مع بلاده وتهنئتها على استهدافها لمصنع مصياف أهم مُنتج للبراميل المتفجرة التي قتلت آلاف المدنيين السوريين”.
تروج “إسرائيل” دائمًا أن ضرباتها العسكرية لا تستهدف إلا منع وصول قوافل الأسلحة الإيرانية والسورية إلى حزب الله
الغارة الإسرائيلية الأخيرة هي الأعنف منذ بدء عمليات قصف الأراضي السورية التي اتبعتها قوات الجيش الإسرائيلي فور اندلاع الحرب منذ سبع سنوات، وكان ذلك ظاهرًا في تغطية قناة RT الروسية الرسمية التي حذرت “إسرائيل” من التضارب في مسرح الأحداث العسكرية، حتى لا يتسبب ذلك في مواجهة فعلية مع روسيا، واعتبرت أن ما يقوم به عسكريو “إسرائيل” في سوريا ينذر بالخطر.
تروج “إسرائيل” دائمًا أن ضرباتها العسكرية لا تستهدف إلا منع وصول قوافل الأسلحة الإيرانية والسورية إلى حزب الله، وسبق لها تأكيد ذلك على لسان أمير إيشل قائد سلاح الجو السابق، الذي أفصح على تويتر عن تنفيذ الكيان الصهيوني لأكثر من مئة هجمة على سوريا في السنوات الأخيرة، واستهدفت العمليات جميعها منع نقل أسلحة إلى حزب الله، قال عنها إنها متطورة وخطيرة.
الغارة التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي والشرح الذي أعقبها من عاموس يدلين وأمير إيشل بتصريحات تفصيلية، يبرز التزام “إسرائيل” بفرض التصور الذي وضعه خبراؤها العسكريون حتى يجعل الكيان الصهيوني لأمنه الشخصي موطئ قدم حال الاتفاق على أي تسوية مستقبلية قادمة لا محالة بين الأطراف المتصارعة، فضلاً عن توجيه رسالة من نوع خاص إلى روسيا ردًا على ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي أصدر تصريحًا تحذيريًا أواخر أغسطس الماضي، وقال فيه نصًا: “إذ كان أي طرف في الشرق الأوسط أو سواه يخطط لانتهاك القانون الدولي عن طريق نسف سيادة ووحدة أراضي أي دولة، بما في ذلك الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن هذا مدعاة إدانة”.
تصريح لافروف كان ردًا على استفسارات صحفية عن موقف روسيا من تهديدات نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بقصف أي موقع داخل الأراضي السورية إذا ما تم استخدامها لنقل الأسلحة إلى حزب الله، وما أكد التحدي الروسي لـ”إسرائيل”، إفصاح بشار الجعفري ممثل النظام السوري في الأمم المتحدة مارس الماضي عن إبلاغ روسيا لـ”إسرائيل” بتغيير قواعد اللعبة في سوريا، مما يترتب عليه إنهاء الليونة التي كان يعمل بها الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية.
وروى الجعفري ما حدث بين فلاديمير بوتين الرئيس الروسي، وسفير “إسرائيل” لدى بلاده، بعدما أبلغه الأول بهذا المعنى في أعقاب التوتر القائم بين النظام السوري و”إسرائيل”، بسبب تصدي قوات الدفاع الجوي التابعة لبشار الأسد لعمليات التحليق التي يقوم بها الطيران الإسرائيلي فوق الأراضي السورية.
هل تهدد روسيا “إسرائيل” حقًا؟
التجاذب الدبلوماسي السوري والروسي، لم يكن تعبيرًا حقيقيًا عما يجرى على أرض الواقع، فالقوات الروسية لم تتحرك للتصدي للضربة الجوية التي نفذتها “إسرائيل” واستهدفت فيها معسكر الطلائع، الذي يضم مصنعًا للأسلحة الكيميائية والصاروخية، وهو يتبع مركز البحوث في ظاهر مصياف، ويقع على بُعد كيلومترات قليلة من المنشآت العسكرية الروسية.
يتفق الطرفان على ضرورة عدم استهداف “إسرائيل” أو حتى مجرد إقدام قواتها على استفزاز أو الاحتكاك بالحرس الجمهوري التابع للنظام السوري، غير ذلك لا يوجد أدني مشكلة لدى موسكو في استهداف أي قوات سورية
التحذير الروسي المبطن الذي وُجهّ للسفير الإسرائيلي وأعلنه الجعفري، جعل البعض يتخيل أن هناك مواجهة قريبة تلوح في الأفق بين الدب الروسي و”إسرائيل”، وهو طرح ساذج في ظل وجود اتفاق مشترك بين الطرفين مفاده أن التفاهم بشأن ضرورة إبقاء نظام بشار الأسد باعتباره مصلحة مشتركة لهما، لا يعني في نفس الوقت ترك الحبل على الغارب لإيران للتمدد في سوريا.
كما يتفق الطرفان أيضًا على ضرورة عدم استهداف “إسرائيل” أو حتى مجرد إقدام قواتها على استفزاز أو الاحتكاك بالحرس الجمهوري التابع للنظام السوري، غير ذلك لا يوجد أدنى مشكلة لدى موسكو في استهداف أي قوات سورية، فما يجمع روسيا ورئيسها الذي يتقارب نفسيًا ووجدانيًا مع “إسرائيل”، أكبر بكثير من تفاهماته وتحالفاته في المنطقة كافة، خاصة أن فلاديمير لا ينسى ورجاله من خلفه، الفضل الإسرائيلي على الروس بسبب دعم شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق العمليات العنيفة للجيش الروسي في الشيشان، كما كانت موسكو أول من منح القدس الغربية لـ”إسرائيل” وأيدت اعتبارها عاصمة لها، حتى من قبل أن تعترف بذلك الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأول للكيان الصهيوني بالعالم.
تطويق إيران.. الهدف الرئيسي من قصف سوريا
تعمل “إسرائيل” بأقصى طاقتها لتطويق النفوذ الإيراني في المنطقة بأسرها، وهي المحرك الأساسي لجهود ترامب لإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، والذي يمارس ضغوطًا هائلة بدوره على مراكز صنع القرار الأمريكي لبحث تداعياته كافة قبل 15 من أكتوبر المقبل، موعد طرح ترامب أدلته الدامغة على الكونجرس لتأكيد التزام أو خرق إيران لبنود التفاهم معها، تمهيدًا لانسحاب أمريكا من الاتفاق الذي وقع عليه أيضًا، روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، مما يمهد الطريق لإعادة فرض العقوبات على المشروع النووي الإيراني، وهو الهدف النهائي الذي تسعى إليه “إسرائيل”.
التحرش الإسرائيلي بسوريا في مراحل ماضية كان يهدف إلى السيطرة على مدينتي إدلب ودير الزور والذي كان يتمدد فيهما تنظيم داعش، قبل أن يسبق “إسرائيل” إلى مخططها النظام السوري، والذي سيطر نهاية الأسبوع الماضي على دير الزور، واستطاع تطويقها عبر نشر وحدات عسكرية مدعومة بسلاح الجو والقوات البحرية والشرطة العسكرية، ووحدات مكافحة الألغام والقوات الخاصة، بمساعدة من الوحدات البرية الروسية.
بدأت “إسرائيل” أكبر تدريب عسكري لها منذ عام 1998، وسيستمر نحو 10 أيام، ويشارك فيه ما يقرب من 10 آلاف جندي إسرائيلي، وما يلفت الانتباه بحسب الموقع الأمريكي، أن التدريبات العسكرية الإسرائيلية الأكبر منذ 20 عامًا، لم تكن دفاعية بالصورة الكلية بل كانت تدريبات هجومية أيضًا
التعاون العسكري بين نظام بشار الأسد وروسيا يزعج “إسرائيل”، لذا تحاول دائمًا إيجاد نوع من التوازن بين الوجود الأمريكي في مقابل الروسي، وهو ما عبر عنه صراحة يسرائيل كاتس وزير النقل الإسرائيلي، الذي طالب البيت الأبيض بعدم ترك الأزمة السورية حتى تتلاعب بها روسيا كما تشاء، كما حذر من خطورة التفاهمات العسكرية بين سوريا وإيران الرامية إلى إقامة قاعدة عسكرية إيرانية على غرار روسيا، مما يعني أن ترسانة نظام الخميني ستكون حاضرة بقوة على الحدود الإسرائيلية، وبمنتهى الأريحية ستتمكن من تنفيذ تهديداتها ضد “إسرائيل”، وهو ما دفع الكيان الصهيوني إلى الاستعداد جيدًا لخوض حرب جديدة ضد حزب الله اللبناني، ذراع إيران في المنطقة، بحسب موقع “ستراتفور” الاستخباراتي الأمريكي.
بدأت “إسرائيل” أكبر تدريب عسكري لها منذ عام 1998، وسيستمر نحو 10 أيام، ويشارك فيه ما يقرب من 10 آلاف جندي إسرائيلي، وما يلفت الانتباه بحسب الموقع الأمريكي، أن التدريبات العسكرية الإسرائيلية الأكبر منذ 20 عامًا، لم تكن دفاعية بالصورة الكلية بل كانت تدريبات هجومية أيضًا، وانصب تركيز التدريب الإسرائيلي، على الاستعداد لحرب جديدة على طول الحدود الشمالية لـ”إسرائيل”، بعدما شارفت الحرب السورية على نهايتها، مما يعني أن القوات الموالية لحزب الله في سوريا لن تكون منخرطة في أي معارك، ولن يكون أمامها إلا النظر إلى عدوها الأصلي “إسرائيل”.