تدخل العلاقات المصرية التركية منعطفًا جديدًا من التقارب على هامش الزيارة التي يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للقاهرة الأربعاء 14 فبراير/شباط الحاليّ، وهي الأولى له منذ أكثر من 12 عامًا في إطار جولة خارجية تشمل كل من الإمارات ومصر.
الزيارة التي تأتي بعد سنوات من القطيعة السياسية تمثل محطة محورية في مسار العلاقات بين البلدين، وتحولًا كبيرًا في سياسة كليهما الخارجية، في ظل المستجدات الإقليمية التي فرضت حزمة من التحديات دفعت الجميع لإعادة تقييم المشهد ومختلف المواقف بشأن كل الملفات والقضايا والتوجهات.
أردوغان: أتجه إلى مصر غداً بدعوة من الرئيس السيسي لمناقشة مواضيع من ضمنها المجازر الإسرائيلية التي تُرتكب ضد المدنيين في غزة pic.twitter.com/utssuwPIC8
— TRT عربي (@TRTArabi) February 12, 2024
وتتزامن الزيارة مع اشتعال حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال ضد قطاع غزة المحاصر منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وأسفرت عن أكثر من 28 ألف شهيد، وسط مخاوف من توسيع دائرة الصراع بما يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، وهو ما سيلقي بظلاله على الجميع دون استثناء.
وبعيدًا عن انعكاس تلك الزيارة على منسوب ومستوى العلاقات بين البلدين، فإن البعض يعول عليها في الخروج بنتائج ومواقف ربما تغير الصورة نسبيًا في المشهد الغزي الملتهب، خاصة بعد تهديد الاحتلال بشن عملية عسكرية في منطقة رفح الحدودية مع مصر، وذلك في ضوء ما يمتلكه البلدان من أوراق ضغط يمكنها إحداث الفارق إذا تم استخدامها وتوافرت الإرادة لذلك.
ظرف استثنائي وتوقيت حساس
تأتي زياردة أردوغان – استجابة لدعوة السيسي – في ظرف استثنائي وتوقيت حساس للغاية، حيث حالة الغليان التي تشهدها المنطقة، الأمر الذي يتطلب رؤى مشتركة ومواقف موحدة لتهدئة الأجواء قبل تجاوزها للخطوط الحمراء، خاصة أن رقعة التوتر تزداد يومًا تلو الآخر.
وبجانب المصالح المشتركة، فإن استشعار القلق من تفاقم الأوضاع الإقليمية والتحديات التي فرضها المشهد الفلسطيني، ومن خلفه اللبناني واليمني والسوداني والليبي والسوري، دفع الجانبين إلى تجاوز النقاط الخلافية بينهما – ولو مؤقتًا – التي أعاقت تطبيع العلاقات خلال السنوات الماضية.
ومن ثم يتوقع أن تحتل القضايا الإقليمية، وفي المقدمة منها حرب غزة، صدارة جدول أعمال الرئيسين، فهي الملف الأبرز الذي من المرجح أن يستحوذ على اهتمام أردوغان والسيسي على وجه التحديد، كون أن توتر الأجواء في المنطقة من شأنه الإضرار بمصالح الدولتين، داخليًا وخارجيًا، فضلًا عن الضغوط التي يواجهها كلا النظامين من شعبيهما بشأن ضرورة اتخاذ مواقف أكثر حزمًا وجدية من أجل دعم الفلسطينيين، والتحرك العملي لإنقاذ سكان غزة من إجرام الاحتلال الذي لا يتوقف على مدار أكثر من 4 أشهر وسط خذلان وانبطاح الجميع.
عزت إبراهيم: زيارة أردوغان لمصر في هذا التوقيت مهمة.. وتركيا لديها موقف واضح ضد العدوان على غزة وعلاقتها متوترة مع الكيان الصهيوني#في_المساء_مع_قصواء #قصواء_الخلالي@kaswaelkhelaly pic.twitter.com/N6q4E6qWmN
— CBC Egypt (@CBCEgypt) February 12, 2024
وقبيل الزيارة بيومين كشف وزير الخارجية التركي عن موافقة بلاده على تزويد مصر بطائراتها المسيرة الشهيرة (طائرة بيرقدار TB2)، قائلًا: “تطبيع علاقاتنا مهم بالنسبة لمصر لكي تكون لديها تقنيات معينة، لدينا اتفاق لتزويد مصر بطائرات مسيرة وتقنيات أخرى”، حسبما نقلت “رويترز”.
يذكر أن آخر زيارة للرئيس التركي للقاهرة كانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، حيث التقى الرئيس المصري السابق، محمد مرسي، ومن قبلها زيارة في سبتمبر/أيلول 2011 التقى خلالها رئيس المجلس العسكري الحاكم، المشير محمد حسين طنطاوي، وفي الزيارتين كان آنذاك رئيسًا للوزراء.
ومنذ توليه السلطة في 2014 لم يلتق السيسي بأردوغان إلا مرتين، الأولى في أثناء حضور افتتاح كأس العالم بقطر 2022 ولم تستغرق إلا دقائق بوساطة أمير قطر، تميم بن حمد، والثانية على هامش اجتماع مجموعة العشرين في العاصمة الهندية، نيودلهي، في سبتمبر/أيلول الماضي، ومنذ ذلك الوقت ترددت الأنباء عن ترتيب لقاء مشترك يجمعهما إما في أنقرة وإما القاهرة.
حرب غزة.. الملف الأبرز
تواجه كل من القاهرة وأنقرة مأزقًا فيما يتعلق بالوضع في غزة، هذا المأزق الذي ربما يكون دافعًا قويًا لتبني البلدين موقفًا موحدًا للتأثير في المشهد وفرض إعادة تموضع يتناسب وحجم الدولتين وثقلهما الإقليمي.
فعلى المستوى المصري يواجه نظام السيسي حرجًا كبيرًا بسبب الاتهامات المتكررة من الإسرائيليين والأمريكان بشأن مسؤوليته عن تشديد الحصار على سكان غزة من خلال غلق معبر رفح، وهي التصريحات التي أثارت – رغم نفي الجانب المصري لها – جدلًا كبيرًا ووضعت القاهرة في مأزق أخلاقي وسياسي أمام الداخل والخارج على حد سواء.
ومما يزيد من هذا التأزم تجاهل حكومة نتنياهو للمقاربات المصرية بشأن سير الحرب في القطاع خاصة في مدينة رفح الحدودية، إذ شنت قوات الاحتلال ضربة عسكرية عنيفة على الحدود المصرية أسقطت العشرات من الشهداء والجرحى رغم التحذيرات المصرية، بجانب الحديث عن السيطرة على محور فيلادلفيا، وهي التطورات التي تضع القاهرة في أزمة دبلوماسية مع تل أبيب وتهدد مستقبل اتفاقية السلام المبرمة بين الجانبين، وهو ما يحاول النظام المصري تجنبه رغم المناوشات والتحرشات والاستفزازت الإسرائيلية بين الحين والآخر.
#عاجل | الرئيس أردوغان: لن ندع أبدا إخواننا الفلسطينيين وحدهم ومن دون حماية
— Anadolu العربية (@aa_arabic) February 13, 2024
أما على المستوى التركي فرغم الدور الذي لعبته أنقرة في الملف الروسي الأوكراني والأذربيجاني وعلاقتها الجيدة بكل من المقاومة ودولة الاحتلال، فإنها استُبعدت تمامًا من القيام بدور الوساطة في الحرب الأخيرة، الأمر الذي ربما يؤثر على حضور تركيا الإقليمي ومن ثم مصالحها ونفوذها.
ويعود هذا الاستبعاد لأسباب عدة أبرزها: الخطاب السياسي التصعيدي التركي ضد دولة الاحتلال حيث وصفها أردوغان بـ”الدولة الإرهابية”، وأنها “ترتكب جرائم حرب في قطاع غزة”، كذلك الهجوم على المعسكر الغربي واتهامه بالازدواجية وغض الطرف عن الانتهاكات التي تمارسها دولة الاحتلال، بجانب دعم حركة حماس وأنها “ليست منظمة إرهابية”، وإنما حركة مقاومة تشن معركة لتحرير أرضها وحماية شعبها، فيما تطور الأمر إلى استدعاء السفير التركي الموفد لدى تل أبيب.
وأسفر هذا الموقف بطبيعة الحال عن توتير الأجواء مع الولايات المتحدة بسبب دعمها المطلق لدولة الاحتلال وتزويدها بالعتاد العسكري ضد سكان غزة، الأمر ذاته مع الاتحاد الأوروبي الذي امتعض كثيرًا من دعم تركيا لحماس، إذ يرى في ذلك تغريدًا خارج السرب الفكري الأيديولوجي للاتحاد الذي يرى في الحركة كيانًا إرهابيًا لا يجب دعمه، وذلك عكس السردية التركية تمامًا.
أوراق ضغط ينقصها الإرادة
السؤال الأبرز هنا: هل تملك كل من مصر وتركيا أوراق الضغط الكافية لتحريك المياه الراكدة في الملف الغزي؟ وما المعضلة في عدم استخدام تلك الأوراق؟ علمًا بأن كلا البلدين يواجه اتهامات عدة بشأن ضعف موقفهما إزاء ما يحدث في غزة، وأن الدولتين لم يقوما بما يفترض القيام به في ضوء ثقلهما الإقليمي ومسؤوليتهما المشتركة تجاه القضية الفلسطينية التي تُعتبر القضية الأم للعرب والمسلمين ودول الشرق الأوسط
عسكريًا.. تمتلك تركيا ومصر أقوى جيشين في المنطقة، وكلتاهما مصنفة ضمن الجيوش الـ15 الأقوى عالميًا، هذا بجانب القدرات التسليحية الكبيرة للجيشين، والطفرة الهائلة لتركيا في الصناعات الدفاعية، فهي ثالث أكثر دولة على مستوى العالم – بعد أمريكا والصين – حيازة للطائرات المسيرة بحصة تزيد عن 900 طائرة.
لوجستيًا.. يتحكم البلدان في عدد من الممرات الملاحية المهمة التي تسيطر على الجزء الأكبر من حركة التجارة في العالم، قناة السويس في مصر، ومضيق البوسفور والدردنيل في تركيا، هذا بخلاف موقعهما الجغرافي الإستراتيجي، حيث يطلان على أهم البحار في العالم، الأحمر والأبيض المتوسط بالنسبة لمصر، ومرمرة والأسود بالنسبة لتركيا.
سياسيًا.. يتمتع كلا البلدين بثقل سياسي إقليمي كبير، يمتد على مدار عقود طويلة، بخلاف أن كلا منهما يمتلك نفوذًا داخل عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، فمصر عضو مؤثر في الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، كذلك تركيا في منظمة الدول التركية وحلف الناتو.
اقتصاديًا.. رغم الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها البلدان لكنهما يملكان من المؤهلات في هذا الملف ما يمكن أن يُحدث الفارق، كونهما من أكبر الأسواق في الشرق الأوسط، وإحدى أبرز الجهات التي تمتلك علاقات جيدة مع دولة الاحتلال اقتصاديًا، إذ تعتمد على المنتجات التركية والمصرية بشكل كبير، وعليه يعد هذا الملف ورقة مهمة في مسار الضغط على الكيان المحتل.
الجيش المصري يتراجع للمركز الثاني في ترتيب أقوى جيوش الشرق الأوسط حسب تقرير جلوبال فاير باور pic.twitter.com/23bgYsQ30g
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) January 7, 2023
ومن هنا فإن التعاون بين البلدين إذا ما تم سيكون مؤهلًا شكلًا ومضمونًا لإنهاء تلك الحرب ووقف فوري لإطلاق النار في القطاع، بل ربما يتجاوز ذلك إلى فرض شروط المقاومة بالكيفية الواردة في رد حماس على إطار اتفاق صفقة باريس، لكن هذا الأمر يحتاج قبل أي شيء إلى الإرادة.
وهنا التساؤل الأكثر حرجًا: هل تملك أنقرة والقاهرة الإرادة السياسية الكافية لتحقيق هذا التعاون بما ينعكس على الوضع في غزة؟ هل من الممكن استخدام كل أوراق الضغط التي بحوزتهما لإنهاء الحرب اليوم قبل الغد؟ وتبقى الإجابة عن تلك الأسئلة أسيرة مقاربات كل دولة في التعاطي مع هذا الملف بما يحقق مصالحها الخاصة.
الملف الاقتصادي… على نفس الدرجة من الاهتمام
يمثل الملف الاقتصادي أحد أبرز الدوافع والأهداف لتعميق العلاقات بين البلدين الذين يشتركان في المعاناة الاقتصادية وتأزم الحالة المعيشية، وإن كانت أكثر تطرفًا بالنسبة للحالة المصرية، حيث ارتفاع معدلات الديون والبطالة والتضخم وما نجم عن ذلك من تزايد الاحتقان الشعبي والمطالبة بتحسين الأوضاع قدر الإمكان وفي أسرع وقت.
وظل التعاون الاقتصادي بين البلدين حاضرًا بقوة رغم توتر الأجواء السياسية طيلة السنوات الـ10 الماضية، إذ نمت التجارة البينية لمستويات كبيرة خلال الأعوام الأخيرة التي شهدت تبادل زيارات عدة على المستوى الاقتصادي أسفرت عن إبرام العديد من العقود.
ويأمل الطرفان أن تسفر تلك الزيارة، وما تدشنه من مرحلة جديدة من التعاون الوثيق، عن زيادة حجم التجارة البينية إلى 15 مليار دولار خلال السنوات الـ5 المقبلة، مع الوضع في الاعتبار وجود قرابة 700 شركة تركية في السوق المصري بحجم استثمارات وصل إلى 2.5 مليار دولار، كما يمتلك البلدان ميزات تنافسية تسمح بتعميق التعاون في العديد من المجالات كالطاقة والصناعات الدفاعية الغذائية والمنسوجات وغيرها.
الملفات الإقليمية… تقاطع المصالح والأجندات
تتقاطع المصالح المصرية التركية في العديد من الملفات الإقليمية التي شهدت حراكًا سريعًا خلال الآونة الأخيرة وتتطلب تبادلًا في وجهات النظر بشأنها، في محاولة لفرض الاستقرار وتجنيب المزيد من الصدامات، في إطار تبريد الملفات الساخنة بين البلدين.
ويأتي على رأسها الملف الليبي حيث يرغب النظامان في تهدئة الأجواء المتوترة هناك، وإنهاء حالة الانقسام بين المعسكرين الشرقي والغربي، والوصول إلى انتخابات رئاسية موحدة، بعد شوط كبير قطعه البلدان لتقريب وجهات النظر إزاء هذا الملف بعد سنوات من التباين الحاد بينهما.
كذلك الملف الصومالي الذي يشهد هو الآخر أجواءً ساخنة إثر توقيع “أرض الصومال” مذكرة تفاهم لإنشاء قاعدة عسكرية إثيوبية، وتأجير ميناء بربرة على البحر الأحمر لأديس أبابا لمدة 50 عامًا، وهي الاتفاقية التي أثارت حفيظة الجانب المصري الذي بدوره أعلن دعمه للصومال ورفضه لتلك الاتفاقية.
وفي الوقت ذاته تمتلك أنقرة نفوذًا وحضورًا قويًا لدى طرفي هذا النزاع، ففي الصومال لها أكبر قاعدة عسكرية خارج البلاد هناك، كما تربطها معه علاقات اقتصادية كبيرة، الأمر ذاته مع إثيوبيا التي تستحوذ على نصف الاستثمارات التركية في إفريقيا، فضلًا عن اتفاقية الدفاع المشترك المبرمة بين الدولتين، ومن ثم يمكنها القيام بدور محوري في تهدئة هذا الملف بالتعاون مع القاهرة.
ومن الملفات التي يتوقع أن تكون حاضرة على جدول أعمال هذا اللقاء الوضع في السودان الذي يسير بخطوات تصاعدية نحو الانفجار، حيث يتفق الطرفان، المصري والتركي، على وجوب فرض التهدئة في تلك المنطقة خشية التصعيد الذي ربما يشعل أجواء الإقليم برمته في ظل تباين الأجندات التي تعبث بالمشهد السوداني، الأمر ينسحب على بقية بلدان القرن الإفريقي التي تشهد هي الأخرى أجواء لا تقل سخونة عن تلك التي تشهدها ولايات الجار السوداني.
آمال عدة يعقدها البعض على مسار القاهرة – أنقرة في الوصول إلى موقف إقليمي موحد قادر على تغيير المشهد، ليس في غزة وحدها، لا سيما أن حالة الفوضى التي يعاني منها الشرق الأوسط على مدار سنوات، والعربدة الإسرائيلية اللامتناهية، ترجع بنسبة كبيرة إلى غياب التعاون بين البلدين وتعميق حالة القطيعة والشتات التي هيمنت على العلاقات بينهما، كونهما الأكبر في المنطقة والأكثر تأثيرًا في ضوء أوراق الضغط والنفوذ التي بحوزتهما.
لكن تبقى إرادة البلدين في إحداث هذا الفارق واستعادة ثقلهما حلمًا، كثيرًا ما يصطدم بمقاربات البلدين التي في الغالب تسير عكس المزاج الشعبي العربي والإسلامي، فهل آن الأوان للقفز على الخلافات البينية ولو مؤقتًا لبناء موقف موحد لإنقاذ الوضع في غزة – رمانة ميزان الإقليم – قبل فوات الأوان؟