طرحت مدرسة كوبنهاجن للأمن أشكالاً جديدة من الأخطار والتهديدات التي قد تواجه الدول، فدراسات الأمن النقدي وسعت مفهومها للأمن، ومن أبرز التحولات ضمن هذا المنظور الانتقال من أمن الدولة إلى بقاء الأفراد والشعوب بسبب تراجع قدرة الدولة على مواجهة تحديات العولمة المخترقة للأمن القومي، والتي تمس الأمن الهوياتي خاصة في المجتمعات التعددية، فيصبح التهديد الأخطر للأمن المجتمعي ما تقوم بـه بعـض المجتمعات التقليدية مـن صدامات إثنية يصبح فيها الأفراد الهدف الرئيسي للعنف الطائفي في إطار سعيهم للتنافس على الموارد.
وكذا وجود صعوبات اقتصادية وإخفاق الدولة في أن تكون بمثابة إطار الانتماء الإثني، فالأمن القومي مرتبط بالسيادة وبقاء النظام، أما الأمن الاجتماعي يخص البقاء الهوياتي والترابط الاجتماعي. واعتبرت المدرسة أن التهديدات العالمية الأخطر هي تلك التهديدات التي تعدّ عابرة للحدود، والتي لا تحمل طابعًا عسكريًّا مباشرًا، ويكون وراؤها فواعل غير رسمية.
“المجتمع” الموضوع المرجعي للأمن
ظهرت أبرز التحديات التي تهدد الأمن المجتمعي بفعل جملة من الظواهر السياسية كالعولمة والتهديدات الاتماثلية العابرة للقوميات وتصاعد النزاعات الداخلية المسلحة بين الجماعات الإثنية، فترى المجتمعات هوياتها مهددة من طرف هذه الظواهر ومنه أضحى المجتمع “الموضوع المرجعي للأمن” والآداة الأساسية لتحليله وما الدولة إلا وسيلة لتحقيق وتوفير الأمن، فلم تعد الطرف الوحيد المهدد، ولكن أيضًا في بعض الأحيان مصدر التهديد، خاصة مع التغير الحاصل في طبيعة الحروب، من حروب خارجية إلى حروب داخلية تقع داخل الدولة.
المأزق الأمني المجتمعي وهاجس الاحتواء الاستباقي
الأمن المجتمعي مرادف للبقاء الهوياتي، فهو قدرة المجتمع على الاستمرار في الظروف المتغيرة والتهديدات المحتملة أو الفعلية وحماية كيان الدولة من الانقسامات الإثنية والطائفية وغيرها بفعل أزمة الهوية، وفي غياب الأمن الاجتماعي يحصل ما يسمى”بوزان Buzan المأزق الأمني المجتمعي Societal Security Dlilemma “، والذي يرتبط بدوره بقدرة المجموعة على الاستمرار مع المحافظة على خصوصيتها دون المساس بمكونات هويتها كاللغة والثقافة والدين وما يمكن المجموعة من الإشارة إلى نفسها بضمير” نحن “، كالأكراد في تركيا والآشوريين والتركمان في العراق والطوارق في جمهورية مالي والتوتسي في بوروندي، فالتفاعل بين مختلف المجموعات الإثنية يؤدي إلى إعادة صياغة مفهوم الهوية بشكل يضفي الطابع الأمني على العلاقات مع الآخر.
الصراعات الإثنية والعرقية والقبلية بين مختلف أطياف المجتمع أساس الحروب الأهلية، فيبدأ أطراف الصراع بتداول خطابات الخطر وزيادة مستويات الاستقطاب، مما يفتح المجال أمـام تفجـر العنف، فالفوضى تعني بالأساس غياب المأسسة
إن دوافع هذا السلوك النزاعي والتصعيد الإثني للجماعات والتنظيمات الداخلية عديدة وهي تتراوح بين الأسباب السياسية والثقافية والقيمية كما نجد أنها في معظم الأحيان نتيجة لفشل وتفكك القيمة المركزية للدولة خاصة مع ظهور ما يسمى بالدول الفاشلة (حالة سوريا والعراق وليبيا). فعندما تخفق الدولة في أن تكون بمثابة إطار القرابة والانتماء الإثني الواسع والتحكم في التفاعل بين مختلف المجموعات الإثنية التي تشاركها نفس الإقليم تحس المجموعات باللاّأمن وتؤدي إلى تصاعد حدة المعضلة الأمنية المجتمعية، حيث تعبر عن وجودها بالخط الذي يفصلها عن الجماعات الأخرى ويزيد سلوكها النزاعي كلما زاد انتماؤها إلى الجماعة العرقية وتمتد إلى لعبة صفرية أي السعي لإزالة الطرف الآخر من الوجود عبر التصفية الإثنية كما حدث في كل من الصومال وروندا وليبيريا.
الصراعات الإثنية والعرقية والقبلية بين مختلف أطياف المجتمع أساس الحروب الأهلية، فيبدأ أطراف الصراع بتداول خطابات الخطر وزيادة مستويات الاستقطاب، مما يفتح المجال أمـام تفجـر العنف، فالفوضى تعني بالأساس غياب المأسسة، حيث يتمتع كل فاعل بحق الاعتراض ويسعى لتنفيذ خياراته بشكل منفرد، وهنا يضطر المواطنون الساعون للحفاظ على ممتلكاتهم وأمنهم للجوء إلى شكل تنظيمي آخر وهو المجموعة الإثنية وفواعل ما دون الدولة كالمنظمات الإجرامية والجماعات الإرهابية والمافيا وتجار الأسلحة والتهريب والهجرة غير الشرعية والمرتزقة والاستخبارات الأجنبية وغيرها. والتي تؤجج الصراع لاعتبارات قبلية وعشائرية، فتصبح المجموعات الإجرامية طرفًا فاعلاً في النزاع بفعل تحالفها مع الإثنيات كتحالف تنظيم القاعدة مع بعض الحركات الانفصالية في إقليم أزواد.
النزاع الهوياتي المجتمعي كآلية لتشكيل ترتيبات قومية ودولية
نهاية الحرب الباردة لم تلغ مصادر النزاعات ومحركاتها، بقدر ما أدت إلى تحول في شكلها واتجاهاتها ببروز أنماط جديدة من النزاعات ليست بالضرورة بين الدول كما كان حاصلاً لعقود طويلة، وغلبة نمط الصراعات داخل الدولة الواحدة، على الصراعات الدولية وهي غالبا نزاعات من أجل الدول كأن تتصارع جماعة داخلية معينة مع السلطة المركزية القائمة أو جماعات داخلية أخرى من أجل السعي الى إقامة دولة مستقلة، فهي تعتمد على أسلوب العنف فيما بين الجماعات ويظهر ذلك في استهداف المدنيين والإبادات الجماعية.
ترى المقاربة الافتعالية بأن الجماعات العرقية ليست فواعل مستقلة بل امتداد لسياسات الدول، ووسائل في يد القوى السياسية الداخلية كالأحزاب والنخب السياسية أو القوى الخارجية بمعنى تحويل النزاع الإثني إلى أداة استراتيجية تستخدمها الدول لتمرير سياستها وتصوراتها الاستراتيجية، ورغم كونها حركات داخلية فإنها كثيرًا ما تتمخض عن آثار دولية أو تكون السبب في التدهور الأمني بين الدول التي يدور فيها الصراع والدول المجاورة بسبب دعم الحركات الانفصالية والتدخل العسكري والهجرة أو الفرار من مناطق الحروب أو عن طريق دعم الدول لإحدى الجماعات العرقية المتنازعة التي تملك علاقة معها سواء كانت علاقة ولاء أو مصالح وتوازنات إقليمية.
فهي تستغل النزاع الإثني للسيطرة على مناطق الاستقطاب والموارد في الدولة خاصة إذا كان النزاع في دولة معادية لها، أو عبر التدخل العسكري الإنساني وهو الأسلوب الذي طبق به الأمن الإنساني متخذًا بعده السياسي أو كما يسميه روبرت جاكسون حرب إنسانية أي التدخل الدولي الإنساني لحماية الأقليات المضطهدة وإيقاف التطهير العرقي كما حصل مع النظام الصربي بقيادة ميلوسوفيتش ضد ألبان كوسوفو وتدخل حلف الشمال الأطلسي لحامية ألبان كوسوفو.
التحول في هوية المجتمع بسبب الاستقطاب الثقافي واللغوي للدول (أهم استراتيجات القوة الناعمة) والذي يتسبب في تغيير أساليب عيش المجتمع
في إطار هذا العجز الداخلي تتخذ قضية المهاجرين والنازحين واللاجئين أبعادًا جديدة لم تعد مقتصرة على الدائرة الإقليمية ودول الجوار فحسب، بل أصبحت تتجاوزها إلى أوروبا والعالم عن طريق التسلل عبر الحدود والذي يعد إحدى المعضلات الأمنية التي تثير مخاوف الدول. فتقوم بتقديم المهاجرين بوصفهم تهديد للأمن المجتمعي (أمننة الهجرة) داخل دولهم، انطلاقًا من الربط بين الهجرة والمخاطر الأخرى العابرة للحدود كالإرهاب (تسلل إرهابيين مع المهاجرين واللاجئين الفارين من النزاعات المسلحة) والجريمة المنظمة (الاتجار بالبشر) والتعامل معها من منظار أمني قائم على الخوف من الآخر، نظرًا لتهديدها الهوية الحضارية وإحداثها تغيير في التكوين الإثني وإثارة فجوة ثقافية واجتماعية وإخلال بالتوازن الطائفي لبعض الدول.
التحول في هوية المجتمع بسبب الاستقطاب الثقافي واللغوي للدول (أهم استراتيجات القوة الناعمة) والذي يتسبب في تغيير أساليب عيش المجتمع وتغلغل أفكار دخيلة، تتنافر مع الجينات القاعدية للمجتمع. وهو ما أثار نقاش حاد في ألمانيا بعد تصريح هاجم فيه نائب وزير المالية الألماني ينس سبان، من خطر تآكل الهوية القومية الألمانية الذي يشكله شباب الهيبستر (دعاة الليبرالية المفرطة) الذين يتحدثون الإنجليزية في برلين، إلى ظهور مجتمع مواز تضيع فيه الاختلافات الثقافية وتُدمر فيه الثقافة القومية الألمانية.