انضم المغرب إلى قطار التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2020، ولحق على عجل بركب الإمارات والبحرين والسودان، ولم تكن هذه الخطوة في ذلك الوقت مستغربة أو مفاجئة، إذ يسيطر اللوبي اليهودي على المخزن منذ عقود، بدليل أن أكبر مستشاري الملك محمد السادس وقبله والده الحسن الثاني هو يهودي.
شمل التطبيع كلّ المجالات، بما فيها الثقافية والرياضية، وهو ما يفسّر صمت رئيس لجنة القدس التي تشكّلت سنة 1975 (الملك محمد السادس) تجاه الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة ضدّ الفلسطينيين ومقدساتهم، وآخرها الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة المتواصلة منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
رغم صمت الملك المعهود، إلا أن الشارع المغربي كان دومًا في صف الشعب الفلسطيني ومقاومته، حتى أن البعض منهم توجّهوا إلى الأرض المقدسة خلال السنوات الأولى من النكبة، ومنهم شقيقتان هما نادية وريتا برادلي، قادتا أول محاولة للتفجير في “إسرائيل” ينفذها أجانب غير فلسطينيين.
الشقيقتان برادلي .. بيئة ثورية
ترعرعت الشقيقتان نادية وريتا في عائلة برادلي العريقة في الدار البيضاء المغربية، حيث كان والدهما يمتلك شركة نقل وشركة سياحة خارجية إلى إسبانيا وفرنسا، مع ذلك سكن قلبَيهما حبّ المقاومة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ذلك أن أباهما بشير بن عمار الشادمي (لُقّب ببرادلي لإعجابه بالقائد العسكري الأمريكي في الحرب العالمية الثانية عُمر برادلي) كان مقاومًا للاستعمار الفرنسي.
تقول ريتا في حوار مع قناة “الجزيرة“، إن والدها قُبض عليه في أكثر من مرة بسبب انتمائه إلى المقاومة، كما أُصيب ذات مرة بـ 17 رصاصة، فيما كانت أمها (فرنسية من أصل إسباني) مطارَدة من قبل الفرنسيين.
نشأت الفتاتان المغربيتان على حبّ المقاومة ونصرة المستضعفين، وآمنتا بالثورة طريقًا لذلك، وفي ذلك الوقت كانتا تسمعان بمعاناة الفلسطينيين والاعتداءات الصهيونية المتكررة بحقهم وسط صمت المجتمع الدولي، وفي خضمّ أحداث النكسة عام 1967 ومصادرة الاحتلال لأراضٍ جديدة في فلسطين ومصر وسوريا، قررتا المقاومة في سبيل فلسطين وقضيتها العادلة.
حينئذ، كانت نادية برادلي تدرس العلوم السياسية والاقتصادية في جامعة السوربون بباريس، وتدرس المسرح أيضًا، وهو ما مكّنها من التعرُّف إلى المسرحي والثوري محمد بوديا المعروف باسم “محمد بو ضياء”.
تأثرت نادية ومن ثم ريتا بفكر بوديا وزاد تعلقهما بالقضية الفلسطينية، وتعرّفتا أكثر إلى ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ما زاد من تمسّك الشقيقتَين بالقضية الفلسطينية بشكل كبير، خاصة في أيلول/ سبتمبر 1970، عندما هاجم الجيش الأردني الفصائل الفلسطينية المسلحة في عدة مدن أردنية.
الوجهة نحو تل أبيب
أدارتا الأختان برادلي ظهرَيهما لزينة الحياة الدنيا، واختارتا النضال والجهاد من أجل القضية الفلسطينية العادلة، والانضمام إلى صفوف الفدائيين العرب باسم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، علّهما تستطيعان تقديم القليل لهذه القضية التي تجاهلها القادة العرب والمجتمع الدولي.
في ذلك الوقت كانت أغلب العمليات الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي تجري في أوروبا، لكن نادية وريتا قرّرتا القيام بعملية فدائية نوعية، فانضمّتا سنة 1971 إلى ما عُرف آنذاك بـ”كوماندوز الفصح”، وكانت النية القيام بعملية فدائية داخل الكيان الإسرائيلي بمعية مقاومين آخرين، بهدف تفجير 9 فنادق في وقت متزامن.
كان عمر نادية آنذاك 25 سنة، أما أختها الصغرى ريتا فلم يتعدَّ عمرها 19 سنة، وتم تنظيم العملية والاستعداد لها في باريس طيلة 3 أسابيع، وخلال هذه المدة تمّ تغيير مقرّ الإقامة أكثر من مرة، حتى لا يتم تعقّب المجموعة التي تضمّ في صفوفها 3 فرنسيين آخرين.
وضعت المتفجرات التي تم تحضيرها بمساعدة بعض المسؤولين في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الملابس وداخل كعوب الأحذية، وتحديدًا تم غسل الملابس بالمتفجرات المصنوعة من مادة بلاستيكية، أي أن الملابس أصبحت مشبعة بالمتفجرات.
يوم 11 أبريل/ نيسان 1971، وصلت المجموعة إلى مطار اللد (مطار بن غوريون الدولي حاليًّا)، واستعملت الأختان برادلي جوازَي سفر فرنسيَّين، باعتبارهما سائحتَين فرنسيتَين تودّان قضاء عطلة في الأراضي المقدسة.
وكان كلّ شيء على ما يرام إلى أن اُكتشف أمر الأختَين برادلي وباقي عناصر المجموعة الفدائية، وأُلقي القبض عليهم بعد العثور بين أمتعتهم على بودرة متفجرات شديدة الانفجار، وبطاريات لأجهزة التفجير (أُلقي القبض على نادية قرب فندق هيلتون بعد خروجها من المطار وتجاوز الحواجز الأمنية).
وما ساهم أيضًا في كشف العملية هو ضمّ الشابة الفرنسية إيفلين بارج إلى العملية، فقد كانت ملاحَقة من قبل الاستخبارات الفرنسية لعملها سابقًا في صفوف المقاومة الفلسطينية.
مثّلت تلك العملية صدمة بالنسبة إلى الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يكن يتوقع أن تأتي فتيات أجانب إلى الداخل لتنفيذ عمليات فدائية ضدّه، وتعليقًا على هذا الجانب بالتحديد، قالت ريتا برادلي في حوار لها مع قناة “الجزيرة” إن “تلك العملية كانت موجّهة لجعل المسألة الفلسطينية مطروحة على الساحة الدولية، لأن القضية الفلسطينية كانت معروفة على المستوى المحلي والفلسطينيين يتعذبون كثيرًا بعد “أيلول الأسود”، وهذا لم يكن معروفًا على المستوى الدولي”.
تعرضت الأختان برادلي للتعذيب خلال مرحلة التحقيق، ووضعتهما السلطات الإسرائيلية داخل غرف انفرادية مظلمة، وأُجبرتا على الجلوس على الكراسي لمدة طويلة، ومُنعتا من النوم والراحة، كما تم حقنهما بمادة مخدرة لإجبارهما على الاعتراف بتفاصيل العملية المخطّط لها.
بعد 4 أشهر من التحقيق المتواصل، عرضت السلطات الأختَين برادلي أمام محكمة عسكرية واستغرقت المحاكمة شهرَين، وحُكم بالسجن 10 سنوات لريتا و12 سنة لنادية.
ورغم صدور الحكم، استمرت التحقيقات بالوتيرة ذاتها، فمرضت نادية وظهرت في يدها وأصابعها حالات الالتهاب والغرغرينة الحادة وتورُّم شديد في أصابع اليدَين، نتيجة للحقن المخدرة التي حُقنت بها أثناء التحقيق معها، وبعد تدهور وضعها الصحي واجهت “إسرائيل” ضغوطًا خارجية من المغرب وفرنسا للإفراج عنها، وهو ما تحقق بعد 3 سنوات من سجنها وأُبعدت إلى فرنسا، وبعد أشهر قليلة تم الإفراج عن ريتا أيضًا.
مخيمات التدريب في لبنان
غادرت ريتا ونادية السجون الإسرائيلية وهما أكثر تمسّكًا بعمل المقاومة، رغم ما تعرّضتا له من تعذيب ومعاناة، وفور وصولهما إلى باريس بدأتا بالفعل بالتفكير في الانتقال إلى لبنان، مهد الفصائل الفلسطينية آنذاك.
إثر وصولهما إلى لبنان مباشرة، تم الترحيب بالأختَين برادلي كبطلتَين، وبعد رحلة طويلة مع العلاج تلقتا تدريبًا مكثّفًا على حمل الأسلحة واستعمالها، منها سلاح الكلاشينكوف وأغلب البنادق، إلا أن ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، عهد إليهما بمهمة مختلفة تمامًا.
عرض على الأختَين فرصة استضافة برنامج على إذاعة “صوت فلسطين” باللغة العبرية موجّه إلى الإسرائيليين، وكانت نادية تهتم بالشؤون السياسية الأيديولوجية وبتعليم الفلسطينيين، بينما اهتمت ريتا بالقضايا الأمنية مع نايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين آنذاك.
واجهت الأختان برادلي الموت في لبنان أيضًا، فقد عايشتا غزو لبنان سنة 1982، ففي 6 يونيو/حزيران من تلك السنة اجتاح الجيش الإسرائيلي حدود لبنان، وبلغ تعداد القوات الإسرائيلية 60 ألفًا تعززها المدفعية والسلاح البحري، وبسرعة وصلوا بيروت واحتلوا قصر بعبدا يوم 13 من الشهر نفس.
لأسابيع طويلة، كانت الأختان تحت القصف الإسرائيلي بالقنابل العنقودية والقنابل الفوسفورية وقنابل النابالم، والذي تسبّب في استشهاد وإصابة أكثر من 26 ألفًا، من بينهم 11 ألفًا و840 طفلًا و868 امرأة و1100 مقاتل.
انتهت المأساة بتدمير بيروت وخروج مقاتلي الفصائل الفلسطينية من لبنان، وانتقال منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس تحت غطاء دولي (فرنسي-إيطالي-أميركي)، فيما خيّرت الأختان برادلي الرجوع إلى المغرب والاجتماع مجددًا مع عائلتهما التي تنتظرهما منذ سنوات.
اختارت الأختان برادلي العودة إلى حياتهما الطبيعية في المغرب، بعد سنوات طويلة من العمل من أجل القضية الفلسطينية العادلة التي آمتنا بها مند صغرهما، وفي 10 أغسطس/ آب 1995 توفيت نادية نتيجة المرض الذي أُصيبت به أثناء اعتقالها في سجون الاحتلال الإسرائيلي عن عمر يناهز الـ 50.
رغم ما قدّمته نادية وريتا للمقاومة الفلسطينية، إلا أنهما لم تحظيا باهتمام إعلام العالم العربي، إذ فشل العرب في إعطائهما المساحة التي يستحقانها، والكثير من الفلسطينيين والمغاربة يجهلون قصتهما، ولا يعرفون أن مواطنتَين مغربيتَين أدارتا ظهرهما لمتع الدنيا واختارتا النضال من أجل فلسطين.