أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، قرارًا يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتَين، عربية ويهودية ونظام دولي خاص لمدينة القدس، وبعد ذلك مباشرة شكّلت الجامعة العربية جيش الإنقاذ العربي بقيادة الضابط السوري فوزي القاوقجي، لمساعدة الفلسطينيين في التصدي للعصابات اليهودية المسلّحة.
رغم فشل ذلك الجيش بسبب الخيانات وسوء التقدير والمؤامرات الخارجية، إلا أن بعض المقاتلين العرب في جيش الإنقاذ العربي سطروا بطولات مشرّفة، مثل العقيد الركن عمر علي البيرقدار، الذي سيكون محور هذا التقرير ضمن ملف “جنود فلسطين”، الذي يتتبّع سير العرب الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي برفقة الفلسطينيين بالسلاح.
عمر علي البيرقدار ..نشأة عسكرية
كبرت أسرة البيرقدار التركمانية عام 1910 بقدوم مولود جديد سُمّي عمر علي، وتعدّ عشيرة البيرقدار من أبرز عشائر التركمان المعروفة في العراق، إلى جانب البيات والونداوية والدركزلية.
عندما أنهى عمر علي البيرقدار دراسته الثانوية سنة 1928، التحق بالكلية العسكرية الملكية في بغداد (الكرادة الشرقية)، وكان التعليم العسكري آنذاك يمثّل الطريق الوحيد للارتقاء اجتماعيًّا في العراق في تلك الفترة، رغم أن منتسبي الجيش كانوا يواجهون عداء بعض فئات المجتمع، التي ترى في الجيش كيانًا طائفيًّا يخضع لمصالح أجنبية.
تخرّج البيرقدار ملازمًا ثانيًا في أيلول/ سبتمبر 1931، وكان الجيش العراقي حينها حديث التأسيس إذ تأسّس سنة 1921، ثم انتمى إلى سلك التعليم العسكري، وبعد ذلك إلى كلية الأركان، وتدرّج في مراتب الجيش حتى أصبح عقيد ركن سنة 1946، وشغل منصب قائد فرقة عسكرية.
شارك لاحقًا عام 1941 في الحرب العراقية الإنجليزية (تسمّى أيضًا ثورة مايس)، التي تعدّ من أبرز مراحل التاريخ العراقي المعاصر، فمن نتائجها وقوع بلاد الرافدين تحت الاحتلال البريطاني مرة ثانية، واستمر هذا الاحتلال حتى سقوط النظام الملكي الهاشمي في يوليو/ تموز 1985.
لاحقًا، قاد عمر علي سنة 1943 قطعات من الجيش العراقي، لإنهاء انتفاضة مصطفى البارزاني (ثورة بارزان الثانية) في شمال البلاد ضد الحكومة العراقية للحصول على حكم ذاتي للأكراد، وكانت قد سبقتها حركة بارزان الأولى في سنتَي 1931-1932، وحركات محمود البرزنجي في السليمانية فترة 1919-1931.
وفيما كان عمر علي يتدرّج في الرتب العسكرية داخل الجيش العراقي، كانت ميليشيات “هاجاناه” و”إرجون” و”بيتار” و”شتيرن” و”بلماح” الصهيونية تروّع الفلسطينيين، وترتكب بحقّهم مجازر راح ضحيتها آلاف المدنيين العُزّل في مختلف القرى والمدن.
تحرير جنين
عقب قرار تقسيم فلسطين عام 1947 خرجت مظاهرات شعبية وطلابية إلى شوارع العراق، ونُظّمت الاعتصامات في المدارس لمطالبة الحكومة بإرسال جيش إلى فلسطين، وخوض الحرب ضدّ العصابات الصهيونية التي تستعد للانقضاض على الأراضي الفلسطينية.
لم يمرَّ على إنشاء الجيش العراقي حينها سوى 27 عامًا، وكان يتشكل من 35 ألف مقاتل موزعين على 3 فرق، أغلبهم من الطبقة الوسطى العربية السنّية، ومن الأكراد بدرجة أقل، ويمتلك الجيش 100 طائرة بالإضافة إلى بعض الأسلحة التقليدية من صنع بريطاني، لكنه قرّر خوض الحرب في فلسطين، فأرسل المئات من الجنود والضباط، ومعه مجموعات من المتطوعين العرب.
خاض الجيش العراقي بقيادة اللواء الركن نور الدين محمود معارك شرسة للدفاع عن فلسطين ومنع تهجير أهلها، وضمن صفوف الجيش برز عمر علي الذي قاد الفوج الثاني من اللواء الخامس في الجيش العراقي، فحين هاجمت العصابات الصهيونية جنين والقرى المحيطة بها، كان البيرقدار يتهيَّأ للاتجاه غربًا نحو قضاء طولكرم، إلا أنه سمع ما يحصل في جنين التي تعدّ من أهم المدن الفلسطينية، فغيّر الخطة بسرعة وقرر التوجّه شمالًا لتحرير المدينة.
اندفعت قوات البيرقدار التي لا تتعدى 800 فرد (تتشكّل من الجيش العراقي ومتطوعين فلسطينيين وعرب) إلى جنين، وأسّست نقطة عسكرية في سهل قباطية في منطقة بئر جنزور، ومن هناك بدأت جهود استعادة المدينة.
اعتمد العقيد الركن عمر علي البيرقدار مبدأ المناورة، إذ سلك المرتفعات المشرفة على مدينة جنين، وتمكّن من الالتفاف على العصابات الصهيونية فشنّ هجومًا عليها يوم 3 حزيران/ يونيو 1948، وضربها من الخلف دون أن يترك لها الحيز الزمني الكافي لإعادة التمركز والدفاع، إلى أن تمكّن من تحرير جنين وطرد العصابات الصهيونية منها، وعلى رأسها الهاغاناه، من التلال الجنوبية للمدينة، بعد أن قتل وجرح منهم المئات.
تشير بعض التقارير المتداولة إلى أن قوات عمر علي البيرقدار غنمت من العصابات الصهيونية المنسحبة من المدينة 10 مدافع هاون و20 رشاشًا و4 أجهزة لا سلكية و300 بندقية من طرازات مختلفة، وتم استغلال هذا العتاد في معارك الجيش العراقي.
لم يكتفِ عمر علي بتحرير جنين، إنما واصل المعارك في محاور أخرى بمعية الجنود العراقيين والمتطوعين العرب، محققين انتصارات كبيرة في طولكرم وأم الفحم ومنطقة المثلث، وكانت القوات على شفا تحرير حيفا، لكنها عادت إلى العراق بعد قرار الحكومة سحب الجيش من المناطق الفلسطينية في شهر مايو/ أيار عام 1949، باتفاق مع قيادات الأردن الذي تسلّم هذه المناطق.
بفضل استبسال عمر علي والقوات النظامية والمتطوعين الذين معه، حافظ عشرات آلاف الفلسطينيين على أرواحهم، وسلمت جنين والقرى المحيطة بها من العصابات الصهيونية، وبقيَ الأهالي في أرضهم ولم يضطروا للنزوح والهجرة كما اضطر غيرهم للخروج من بيوتهم.
مصير البيرقدار داخل الجمهورية الوليدة
نادى الفلسطينيون والعراقيون باسم القائد عمر علي البيرقدار، لما قدمه من بطولات كثيرة في معارك الدفاع عن الأراضي الفلسطينية، وإثر عودته مباشرة من فلسطين عُيّن في منصب آمر اللواء الخامس وآمرًا لموقع الموصل في الوقت نفسه، ثم تمّت ترقيته ليصبح آمرًا للكلية العسكرية ثم رفّع إلى رتبة عميد ركن، وهي من أهم الرتب العسكرية في الجيش العراقي في تلك الفترة.
اللواء عمر علي البيرقدار قائد القوات العراقية في حرب فلسطين عام 1948 pic.twitter.com/DmyBXigC7I
— Baghdad Dar Al Salam (@baghdad_salam) May 20, 2016
فضلًا عن ترقيته، عُهد إلى عمر علي منصب متصرف لواء السليمانية بالوكالة حتى سنة 1954، ثم رفّع إلى رتبة لواء ركن ليكون قائدًا للفرقة العسكرية الأولى التي تأسّست عام 1942، وكان مقرّها في محافظة الديوانية (القادسية) حتى قيام حركة تموز/ يوليو 1958.
يوم 14 يوليو/ تموز 1958 أعلنت حركة الضباط الأحرار، بقيادة عبد الكريم قاسم، الإطاحة بالعهد الملكي في العراق وإرساء الجمهورية العراقية، لم يكن عمر علي يعلم بهذه التحركات وسمع عنها من “إذاعة بغداد”، فأمرَ بعض قطعات الفرقة الأولى المنتشرة في بغداد بالتحرك لإسقاطها وحماية الحكومة والعائلة المالكة وحفظ النظام.
أعرب عبد الكريم قاسم، زعيم الانقلاب، عن استعداده لملاقاة عمر علي في وزارة الدفاع ببغداد لشرح الظروف التي دعت إلى القيام بهذه الخطوة، فتوجّه قائد معركة جنين على الفور للوزارة، لكن ما أن وصل هناك حتى تم إلقاء القبض عليه وإيداعه في السجن العام، بأمر مباشر من العقيد الركن عبد السلام محمد عارف بتهمة “التآمر ضد الثورة”، وحُكم عليه بالإعدام وتجريده من رتبه العسكرية، لكن في مارس/ آذار 1960 أصدر عبد الكريم قاسم (أول حاكم عراقي بعد الحكم الملكي) قرارًا بتخفيف عقوبة الإعدام إلى السجن لمدة 7 سنوات، ثم خُفّفت عقوبة السجن إلى 5 سنوات.
صدر قرار بالإفراج عن عمر علي بعد إنهائه العقوبة سنة 1964، لكنه عاد إلى مسقط رأسه مدينة كركوك بعيدًا عن ثكنات الجيش، وبعدها بـ 10 سنوات توفي إثر تعرض السيارة التي كانت تقلّه لحادث سير بمنطقة قريبة من مدينة الرطبة في الأنبار.
بقيَ اسم البيرقدار خالدًا في وجدان وذاكرة كل عربي آمن بعدالة القضية الفلسطينية، وبحقّ الفلسطينيين في العيش الكريم في أرضهم، حتى أن السلطة الفلسطينية قدمت عام 2019 “وسام فلسطين العسكري” لعائلته تقديرًا لبطولاته من أجل فلسطين.