هجرَ موطنه الأصلي في اليمن سيرًا على الأقدام إلى البقاع المقدّسة قبل 90 سنة، وصل القدس ثم يافا، وأخيرًا قطاع غزة الذي استقر فيه، وفي الأثناء شارك في الثورة الفلسطينية الكبرى ضد قوات الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية والمستوطنين.
المعمّر اليمني أحمد بدر حسن بدر الملقّب بـ”أبي بدر اليمني”، استقر في جباليا شمال قطاع غزة، ويأبى العودة إلى بلده الأصلي بعد أن اندمج وعائلته مع الفلسطينيين، وشاركهم حروبهم وثوراتهم ومآسيهم كأنه واحد منهم.
أبو بدر اليمني
بدأت قصة أبو بدر اليمني مع فلسطين سنة 1934 وما زالت تمتد إلى غاية هذا اليوم، ففي تلك السنة هاجر من قريته بارق في عزلة قطعة الصرابي بمديرية بني العوام التابعة لمحافظة حجة اليمنية، إلى البقاع المقدسة مشيًا على الأقدام.
أدّى مناسك الحج ثم قصد القدس لزيارة المسجد الأقصى المبارك و”تقديس الحج”، وهي عادة قديمة تعود إلى زمن الدولة العثمانية، عندما كانت زيارة الأقصى ركنًا أساسيًّا اعتاد الحجاج على القيام به قبل الحج أو خلال رحلة العودة، بهدف ربط المسجد الأقصى بشعائر ركن الإسلام الأعظم، وهو الحج.
زار أبو بدر اليمني أولى القبلتَين وثالث الحرمَين الشريفَين، ثم توجّه نحو مدينة يافا التي تبعد 60 كيلومترًا عن القدس، وهي في ذلك الوقت واحدة من أبرز مدن الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط، وأكبر مركز اقتصادي في البلاد.
تزامن قدوم الحاج اليمني إلى فلسطين مع وجود مناوشات وصدامات بين العصابات الصهيونية والفلسطينيين، فكان الرجوع إلى اليمن صعبًا عليه، وهو ما دفعه للاستقرار في مدينة يافا والعمل فيها حارسًا لإحدى البنايات.
عندما قرر أبو بدر اليمني الاستقرار في يافا، كان أكثر من 120 ألف فلسطيني يسكنون أحياء هذه المدينة، خاصة الحي القديم ومحلة العجمي ومحلة المنشية، مقابل بعض الآلاف من اليهود الفقراء المعدمين القادمين من وسط وشرق أوروبا.
كانت الأراضي الفلسطينية آنذاك تحت الانتداب البريطاني، الذي بدأ إثر الحرب العالمية الأولى وما آلت إليه، والغرض الأساسي كان تنفيذ وعد بلفور لعام 1917، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
مواجهة الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية
كان أبو بدر اليمني ينوي في البداية الاستقرار والعمل في فلسطين، لكن سرعان ما بدأت الثورة الفلسطينية الكبرى ضد قوات الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، التي نكّلت بالشعب الفلسطيني وارتكبت المجازر بحقّهم.
يعود الفضل الكبير لانطلاق هذه الثورة إلى الشيخ عز الدين القسام -القادم من جبلة السورية-، إذ قاد القسام الثورة المسلحة ضد اليهود والاستعمار البريطاني في فلسطين، وكان القسام حينها إمام جامع الاستقلال وخطيبه في مدينة حيفا الساحلية، وقد جمع بين الإمامة والعمل المسلح ضد الاحتلال البريطاني.
وعلى إثر استشهاد الشيخ عز الدين القسام في نوفمبر/ تشرين الثاني 1935، أُطلقت الدعوات لمتابعة سيره والنسج على منواله، فأُقرَّ بدايةً إضراب عام لمدة 6 أشهر تعبيرًا عن سخط الشعب الفلسطيني ومعارضته للهجرة اليهودية غير الشرعية، وشجبه للسياسة البريطانية الاستعمارية في فلسطين.
بدأ إضراب الشهور الستة من يافا، وشاركت فيه هيئات عديدة من أنحاء فلسطين، وكان أبو بدر اليمني ضمن المشاركين في هذا الإضراب، ومنذ ذلك التاريخ مثّل الإضراب بأشكاله المختلفة أداة نضال هامة للشعب الفلسطيني، تعززت في العقود الأخيرة للتعبير عن غضب سكان البلاد الأصليين، والاحتجاج على الانتهاكات الصهيونية المتكررة بحقّهم.
لم تستجب سلطات الاحتلال البريطاني لمطالب الفلسطينيين، فتطوّرت الأحداث وأصبح الكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الحقوق المسلوبة، ليتمَّ الإعلان فيما بعد عن الثورة العربية الكبرى (1936-1939) ضد الإدارة البريطانية للمطالبة بالاستقلال.
استمرت الثورة 4 سنوات، حيث انتهت في سبتمبر/ أيلول 1939، أي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة، وأسهمت الثورة الكبرى في تشكيل الوعي الوطني والتحدي للسياسات البريطانية والحركة الصهيونية.
كان أبو بدر اليمني شاهد عيان على المجازر والجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحماية القوات البريطانية ضد الفلسطينيين، والتي سبقت يوم النكبة (19 مايو/ أيار 1948)، وكانت هذه الجرائم بدعم من العالم الغربي.
التحق أبو بدر اليمني بالمتطوعين العرب والفلسطينيين المساندين لجيش الإنقاذ العربي، الذي شكّلته الجامعة العربية إثر قرار التقسيم الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، وكانت يافا التي يسكن فيها أبو بدر مسرحًا لأبرز عمليات المقاومة، خاصة مع تدفّق الهجرات اليهودية إليها.
يقول أبو بدر إنه اشترى سلاحًا من ماله الخاص، رغم أن الجامعة العربية موّلت المتطوعين ومدّتهم بالسلاح (تم رصد 10 آلاف بندقية للمتطوعين)، لكن الأموال المرصودة والمقدرة بمليون جنيه لم يصل منها إلا جزء بسيط إلى الفلسطينيين.
كان بإمكان المعمّر اليمني العودة إلى مسقط رأسه، غير أنه أبى إلا أن يشارك الفلسطينيين والعرب الدفاع عن أرض الأنبياء، فقاوم العصابات الصهيونية بسلاحه البدائي إلى جانب الجيش العربي، وتعرّض للأسر وتحرّرَ بعد توقيع اتفاقية الهدنة بين الكيان الإسرائيلي والدول العربية.
مخيمات اللاجئين
خلال الحرب استشهدت زوجة أبو بدر، وهي حامل، وأهلها (سجّلت النكبة استشهاد 10 آلاف فلسطيني وإصابة نحو 30 ألفًا آخرين)، وتمّ تدمير بيته في مدينة يافا أسوة بمئات البيوت العربية الأخرى التي نسفتها العصابات الصهيونية القادم أغلبها من أوروبا الشرقية، وكانت العصابات قد اقتلعت الفلسطينيين من 20 مدينة ونحو 400 قرية.
أفرز هذا الوضع معاناة ممتدة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، وكان منهم أبو بدر اليمني، فبعد تحريره من الأسر تسلّمته إلى جانب عشرات العرب الحكومة المصرية وأرسلته إلى قطاع غزة مع باقي المحرّرين، وهناك بقيَ في مخيم البريج يعيش مع سكانه ويقاسمهم أفراحهم وأحزانهم.
رضخ أبو بدر اليمني للأمر الواقع، واستقر في مخيم البريج وعمل في مجالات عديدة كالبناء، ثم انتقل إلى جباليا شمال غزة وتزوج مرة ثانية وأنجب 8 أبناء، 5 ذكور و3 بنات، وله الآن 51 حفيدًا يحرص على البقاء معهم أكثر ساعات يومه.
لا يملك أبو بدر اليمني أوراقًا تثبت تاريخ ميلاده، لكن عائلته تقدّر عمره حاليًّا بـ 128 سنة، قضى الجزء الأكبر منها في الدفاع عن أرض فلسطين التي سكنها وأحبّها وأهلها، وربط حياته بها، حتى أنه يرفض العودة إلى مسقط رأسه إلى أن تتحرر الأراضي الفلسطينية وترجع الحقوق المسلوبة إلى أهلها.
يعتبر المعمّر اليمني الحاج أحمد بدر بمثابة الذاكرة الحية التي توثق الرواية التاريخية لفلسطين، منذ بداية مجازر العصابات الصهيونية، انتقالًا إلى النكبة والنكسة، ثم الخذلان العربي الذي نشهده لهذه القضية المركزية.