رفح، المدينة الأخيرة في قطاع غزة جنوبًا، والمدينة الفلسطينية الحدودية مع مصر، كانت الوجهة الأخيرة التي استطاع محمد صالح ووالدته وشقيقاته من الوصول إليها، بعد رحلة نزوح من أقصى شمال قطاع غزة في مخيم جباليا، خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة التي يواصل الاحتلال شنها منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
هذه الوجهة الأخيرة التي تضم حاليًّا أكثر من مليون و300 ألف نازح من مختلف قطاع غزة، تجد نفسها أمام نية الاحتلال ارتكاب “مجزرة عالمية”، فأي استهداف على المنطقة ذات كثافة سكانية هي الأعلى في العالم، يهدد 27 ألفًا و300 شخص تقريبًا موجودين في كل كيلومتر مربع، أي أن أي استهداف ينذر بمئات الضحايا من المدنيين، وهو ما تحقق في الأحزمة النارية المكثفة التي تلقتها المدينة يوم مساء 11 فبراير/ شباط 2024، والتي أسفرت عن استشهاد أكثر من 100 فلسطيني.
ويواجه النازحون في مدينة رفح خيارات أحسنها مُرّ، كل قطاع غزة تحت القصف، وهم في مكان النزوح الأخير، الاتجاه شمالًا يعني موتًا من الجوع، حيث لا مساعدات تصل شمال قطاع غزة، وممرات نزوح وصفوها في رحلة نزوحهم الأولى بممرات الموت.
في الاتجاه جنوبًا يجدون معبرًا حدوديًّا عربيًّا فلسطينيًّا مصريًّا دون أي وجود إسرائيلي، بجيش مصري بنى جدارًا مزدوجًا لمنع أي فلسطيني يطلب النجاة، وبتنسيق للدخول قد يكلّف أكثر من 7 آلاف دولار رشوة للجندي خلف مكتبه في معبر رفح، والبقاء في رفح تحت القصف المدفعي وجرائم الجنود المتوغّلين بريًّا يعني الموت المحقق.
الوجهة الأخيرة
العائلة التي تكونت من محمد صالح وشقيقاته، إحداهن حامل، ووالدته التي تجاوزت الـ 60 من عمرها وتعاني من أمراض مزمنة، وأطفال يتراوح أعمارهم بين 4 و6 سنوات، قررت النزوح بعد استهداف الاحتلال لمخيم جباليا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، والأحزمة النارية المكثفة التي شنّها الاحتلال على المنطقة، وفق ما أخبرت به العائلة “نون بوست”.
نزحت العائلة إلى مدينة خانيونس، تحديدًا منطقة المواصي، وهي المنطقة التي أعلنها الاحتلال الإسرائيلي “منطقة آمنة” في جنوب قطاع غزة، ووجّه الفلسطينيين في شمال القطاع إليها من خلال ممرات النزوح “ممرات الموت”، وهناك ولدت شقيقة محمد في مجمع ناصر الطبي في خانيونس -الذي يحاصره الاحتلال الآن- دون رعاية طبية، بسبب استهداف الاحتلال الكوادر والمرافق الصحية ومنع دخول المساعدات.
لكن “المنطقة الآمنة” التي لجأ إليها محمد وعائلته تحولت إلى كابوس ومنطقة موت، بعد استهداف الاحتلال مراكز إيواء المواصي حيث يوجد 30 ألف نازح، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 70 فلسطينيًّا جُلّهم من النساء والأطفال، وبدأت ويلة النزوح تحوم مرة أخرى حول عائلة محمد.
استطاعت العائلة أن تنزح تحت كثافة الرصاص والحواجز التي نصبها الاحتلال خلال عدوانه البرّي على مدينة خانيونس نحو رفح، آخر ملجأ للنازحين، ونصبوا خيمتهم بعد جهد مضنٍ من الحصول عليها وبأموال لا تقل عن 300-500 دولار أمريكي للخيمة الواحدة في رفح قرب شاطئ البحر، وأمام ريح الشتاء البارد والمنخفض الجوي، وجدت العائلة نفسها أمام مياه أمطار تتسلّل عليهم، وثياب مبللة، ورضيع بعمر أسبوعَين يرتعد من البرد.
تقول العائلة إنها ما زالت تنزح في رفح، وما زالت تنتظر فكّ الخيمة، ليس بسبب أمل عودتها إلى شمال غزة حيث بيتها، بل خوفًا من أي دخول برّي إسرائيلي على المدينة، دون معرفة أين الوجهة القادمة، بل “نترقب خائفين فقط”.
ممرات الموت
في حديثه عن العملية البرية التي يخطط لها الاحتلال في مدينة رفح، يقول رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، إنه سيتم توفير “ممر آمن” لمئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين الموجودين بمدينة رفح بقطاع غزة، موضحًا في حديث لشبكة “إيه بي سي نيوز” الأمريكية، أنه ومجلس حرب الاحتلال يعملان على “خطة تفصيلية” بشأن إجلاء أكثر من مليون من النازحين.
هذه الممرات التي يتحدث عنها نتنياهو يعرفها النازحون جيدًا، وقد رأوا فيها الموت المحقق، حيث وثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إعدام قوات الاحتلال عشرات الفلسطينيين، خلال نزوحهم من مدينة غزة وشمالها إلى مناطق وسط وجنوب قطاع غزة، رغم عدم تشكيلهم أي خطورة.
وقال المرصد الأورومتوسطي إن هؤلاء جرى استهدافهم بإطلاق الرصاص الحي، وفي بعض الأحيان بقذائف مدفعية بغرض القتل العمد، خلال محاولتهم النزوح بطلب من جيش الاحتلال إلى منطقة جنوب وادي غزة، موثّقًا إفادات نازحين تفيد بعمليات قتل على الحواجز العسكرية التي أقامها الجيش في إطار تخصيصه “ممرًّا” على طول شريان المرور الرئيسي، طريق صلاح الدين “طريق البحر” بين الساعة 9:00 والساعة 16:00 من ساعات النهار.
في إحدى شهادات ممرات الموت، يقول أحد النازحين من مستشفى القدس في مدينة غزة شمال وادي غزة نحو خانيونس جنوبًا، إن “الصليب الأحمر قد نسّق ممرًّا آمنًا للخروج باتجاه الجنوب، وبالفعل خرجنا رافعين الرايات البيضاء، وعلى بُعد نحو 50 مترًا من المستشفى قام الاحتلال باستهدافنا بشكل مباشر بالرصاص الحي، فعدنا أدراجنا إلى المستشفى، في وقت لاحق أخبرونا أنه جرى تنسيق خروجنا بالتوجه هذه المرة من خلف أبراج تل الهوى إلى شارع دولة، ثم إلى شارع صلاح الدين سيرًا على الأقدام، وكان برفقتنا مصابون وكبار السن والأطفال”.
ويتابع: “قطعنا مسافة ساعتين، ثم بدأت القناصة باستهداف النازحين، وبعد أن تمكّنا من الوصول إلى شارع صلاح الدين، وتحديدًا في محيط الدبابات المتمركزة على جوانب الطرق، عشنا أقصى مراحل الذل، إذ بدأت الدبابات والآليات العسكرية بنثر التراب علينا، وطلبوا منا رفع هوياتنا، ومن ثم بدأوا بمناداة البعض منا، وطلبوا من عدد من الشباب خلع جميع ملابسهم بالكامل أمامنا”.
“طلبوا مني وبعض النازحين النزول في حفرة، وجرى التحقيق معنا من جنود الاحتلال، وتمّ فصلي عن أهلي، وجرى التحقيق أيضًا مع الأطباء وموظفي الهلال الأحمر، وكانوا ينادون علينا بمكبرات الصوت، ويستدعون بعضًا منا للتقدم فوق الكثبان الرملية، وشاهدناهم يطلقون النار على شابّ لم نعرف مصيره حتى الآن، كما أجبروا 6 شبان أن يركعوا لعلم دولة الاحتلال تحت تهديد السلاح”.
الشمال: أسباب الموت تتضاعف
يواجه أهل غزة -جنوبًا وشمالًا- تحديات جسيمة في تلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والمياه النظيفة، ما يعزز خطر المجاعة، وتواجه النساء الحوامل نقصًا في التغذية والرعاية الصحية، وتزداد هذه المخاطر كلّما اتجهنا نحو شمال غزة المحاصر.
وأظهرت البيانات في التقارير الأخيرة أن قوات الاحتلال جرفت ما يقارب 22% من الأراضي الزراعية في قطاع غزة منذ بدء العدوان البري في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتتضمن هذه المساحة البساتين والدفيئات الزراعية والأراضي الزراعية شمال القطاع، كما دمّر الاحتلال ما يقارب 70% من أسطول الصيد في غزة.
وفي الوقت ذاته، انخفضت إمكانية الوصول إلى المياه النقية، فيما انهار القطاع الصحي بسبب الدمار واسع النطاق الذي لحق بالمستشفيات، وبدأت العائلات الفلسطينية في طحن الحبوب المخصّصة لعلف الحيوانات للحصول على الخبز، بسبب نفاد مخزون القمح والأرزّ من الأسواق شمال قطاع غزة.
وفي حين يتم توزيع المساعدات في جنوب القطاع، إلا أنه منذ 1 يناير/ كانون الثاني الجاري لم يصل إلا 21% فقط من إجمالي المساعدات إلى شمال وادي غزة، وفق المؤسسات الإغاثية، في حين لا تتجاوز نسبة مجمل المساعدات الداخلة 10% من احتياجات الفلسطينيين في قطاع غزة للمواد الأساسية.
في أثناء ذلك، يستمر مستوطنون، بينهم عدد من عائلات الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، بإغلاق معبر كرم أبو سالم أمام شاحنات المساعدات الإنسانية التي كانت في طريقها إلى غزة، مطالبين بعدم دخول أي شاحنة حتى إعادة جميع الأسرى الإسرائيليين، وهو ما حذّرت منه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، من مجاعة في شمال غزة الذي تقلصت فرص دخول المساعدات إليه بعد إغلاق معبر كرم أبو سالم.
الجنوب حيث مصر “تبيع النجاة بالدولار”
جنوبًا نحو مصر، لا يبدو الأمر أحسن حالًا، حيث يفرض ضباط المعبر المصريون دفع رشاوى على الفلسطينيين الراغبين في مغادرة قطاع غزة من ويلة حرب الإبادة الجماعية، وتتراوح ما بين 5 آلاف و7 آلاف دولار أمريكي، وتنخفض في حالات وترتفع في حالات أخرى وفقًا لطبيعة المكاتب التي يتم من خلالها التنسيق من أجل السفر عبر معبر رفح.
وبحسب تحقيق لصحيفة “الغارديان”، توجد شبكة من الوسطاء مقرها في القاهرة، تساعد الفلسطينيين على مغادرة غزة وتمارس نشاطها قرب رفح منذ سنوات، لكن الأسعار ارتفعت منذ بداية الحرب من 500 دولار للشخص الواحد إلى آلاف الدولارات.
وتحدثت الصحيفة إلى عدد من الفلسطينيين الذين قيل لهم إنه سيتعيّن عليهم دفع ما بين 5 آلاف و10 آلاف دولار لكل منهم لمغادرة القطاع، وأطلق البعض حملات تمويل جماعي لجمع الأموال، وقيل لآخرين إن بإمكانهم المغادرة عاجلًا إذا دفعوا أكثر.
ومع الأحزمة النارية التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على مدينة رفح مساء 11 فبراير/ شباط 2024، بدأت جهات إعلامية مصرية وحسابات وهمية مصرية بترديد ما يظهر أنها “تعميمات مصرية”، تردد فيها رواية الاحتلال الإسرائيلي عن استخدام حركة حماس النازحين في رفح كدروع بشرية لإخفاء الأسرى الإسرائيليين لديها، متبوعة بسياق أن مصر لن تسمح بأي توجه لها ولن تدخل في أي هجوم على رفح.
بحسب إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن المسؤولين المصريين أبلغوا الجانب الإسرائيلي أنهم لن يعملوا على منع أي عملية عسكرية في رفح، طالما جرت دون المسّ بالمدنيين الفلسطينيين هناك، وأن مصر تخشى تهجير الغزيين إلى أراضيها في حال إقدام جيش الاحتلال على عملية عسكرية في رفح.
في المقابل، قالت الصحيفة إن التهديد بتجميد اتفاقية السلام يأتي في إطار الاستهلاك الإعلامي والرسائل الموجّهة إلى الجمهور المصري، مشيرةً إلى أن القاهرة لم ترسل إلى حكومة الاحتلال رسائل في ظل التقارير التي تتحدث عن تصريحات مسؤولين مصريين، حول نية القاهرة تجميد اتفاقية السلام مع الاحتلال إن اضطر الفلسطينيون الهروب إلى أراضيها، مؤكدة أن الاتصالات بين الطرفَين لا تحصل بهذه اللغة، بل بلغة “أكثر تهذيبًا”.
وبينما تظهر الخيارات صعبة على الفلسطينيين، أصدرت عائلات رفح والنازحون فيها بيانًا قالوا فيه إنهم لن يغادروا رفح تحت أي ظرف كان، واتخذوا القرار بالموت هنا أو العودة لديارهم منتصرين وقد توقفت الحرب، وأضافوا: “لن نقبل بالعودة وترك أهل رفح الذين استقبلونا وفتحوا لنا قلوبهم قبل بيوتهم وقاسمونا لقمتهم وملبسهم وشربهم.. لن نتركهم وحدهم”.
ويقول المسن رائد الشرفا (62 عامًا): “بموت هان في رفح ولا بطلع على سيناء، بالقوة وبالقصف لما طلعنا ونزحنا من دارنا، قصفوا مدرسة أبو بكر الصديق، وابني استشهد”، مضيفًا: “أنا نزحت من غزة إلى رفح رغم أنني كنت أرفض الخروج، لكنني أجبرت من أجل أولاد ابني كانوا عندي، وابني اعتقله الجيش الإسرائيلي”.
ويستكمل حديثه: “لو قتلوني هان مش طالع من رفح، مستحيل ومن سابع المستحيلات، وهاد حال الشعب كله مش بس أنا”، متسائلًا باستهجان: “كيف بدنا نطلع على سيناء ونسيب أرضنا؟”.
وتتفق أزهار حمدي النازحة من غزة مع سابقها، حول رفض فكرة التهجير إلى سيناء، وتقول: “أموت على أرض قطاع غزة العزة ولا أفكر بالخروج.. ألا يكفي أنه تم تهجيرنا داخل أراضينا؟ لا ولن نقبل التهجير إلى سيناء، هم يرتكبون جرائم بحقنا أينما كنا أو ذهبنا ولا يهمهم شيئًا”.
يحوم الموت حول كل القطاع، قصف إسرائيلي لا يتوقف، وجوع وبرد وعطش، وسط انعدام المرافق الصحية والمياه النظيفة ومراكز الإيواء والعناية الطبية، والحال في رفح كالحال في غيرها، فيما تبدو خيارات “منطقة آمنة” وهم من احتلال كذب طوال هذا الحرب؛ قال هنا الأمن ثم قتل النازحين.