عادة ما تُوصف “المركبات النظيفة”، أي التي لا ينبعث منها ثاني أكسيد الكربون، بأنها غير مُلوثة للبيئة. وفي الوقت الراهن، أصبحت هذه العبارة تُستخدم عند الإشارة إلى السيارات الكهربائية. ولكن عندما نمعن النظر في هذه المسألة، يتضح أن هذه السيارات ليست صديقة للبيئة بالشكل الذي يتم الترويج له.
على غرار شركة “تيسلا”، التي تتموقع في كاليفورنيا والتي افتكت مكانة لها في صلب سوق صناعة السيارات الكهربائية منذ 10 سنوات، لم يتوان مصنعو السيارات الآخرين، من قبيل “بي إم دبليو” “وفولكس فاجن”، “وجنرال موتورز”، وآخرهم شركة “فولفو”، في اللحاق بركب مصنعي السيارات “النظيفة”. والجدير بالذكر أن الضرائب التي يتم فرضها على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، فضلا عن المحفزات المالية (المكافآت، والدعم المادي) المُقدمة لصالح مختلف المنتجات الكهربائية من قبل العديد من الدول، قد ساهمت بشكل كبير في التوجه نحو هذه الصناعة.
مؤخرا، أقدمت كل من فرنسا والمملكة المتحدة باتخاذ قرار يقضي بحظر بيع السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل ابتداءً من سنة 2040. وفي سبيل التنافس مع الدول الغربية، تخطط الصين، التي تمثل أكبر سوق للسيارات في العالم، لاقتحام هذا المجال وتبني هذا المسار. وبالعودة إلى فرنسا، عمدت المجتمعات المحلية أيضا إلى الاستثمار في هذا المجال. وفي هذا الصدد، تفاخر رئيس إقليم أوفرن-رون-ألب، لوران ووكييز، يوم الخميس الماضي، بإطلاق مكافأة إقليمية تحت شعار، “سيارة نظيفة”.
ومع ذلك، خلُص القائم على مراقبة السلوكات الدعائية، ضمن الهيئة الفرنسية المعنية بالتنظيم المهني للإعلانات، خلال حزيران/يونيو سنة 2014، إلى أن السيارة الكهربائية لا يمكن اعتبارها “صديقة للبيئة” أو “نظيفة”. من جانبه، ندّد “المرصد النووي الفرنسي”، الذي يعد بمثابة جمعية مناهضة للطاقة النووية، بالدعايات المخادعة فيما يتعلق بالمركبات آلية القيادة التابعة لمجموعة “بولوري” الفرنسية.
لا يمكن وصف السيارة الكهربائية بأنها نظيفة، بيد أنه يمكن اعتبارها أداة من شأنها أن تساهم في التنمية المستدامة أو أن حجم تأثيرها السلبي على البيئة محدود مقارنة بالسيارات التي تعمل بالطاقة الحرارية
في هذا الصدد، سبق للقائم على مراقبة السلوكات الدعائية أن سلط الضوء على إعلانات خاصة بشركات “سيتروين” “وأوبل” “ونيسان” لأسباب مشابهة. وعلى الرغم من أن هذا المسؤول غالبا ما يقدم آراءه فقط، أي أنه لا يتمتع بحرية تسليط العقوبات، إلا أن مختلف العلامات التجارية لا تتوان في تغيير محتوى إعلاناتها حتى تنقذ صورتها في نظر المستهلكين.
من جانبه، صرح المدير العام للهيئة الفرنسية المعنية بالتنظيم المهني للإعلانات، ستيفن مارتن، لصالح صحيفة “لوموند” الفرنسية، أن “كل مركبة لها تأثير على البيئة، سواء أثناء تصنيعها أو خلال “دورة حياتها”. وفي الحقيقة، لا يمكن وصف السيارة الكهربائية بأنها نظيفة، بيد أنه يمكن اعتبارها أداة من شأنها أن تساهم في التنمية المستدامة أو أن حجم تأثيرها السلبي على البيئة محدود مقارنة بالسيارات التي تعمل بالطاقة الحرارية، شريطة أن يتم إثبات ذلك”.
الانخفاض في استهلاك الطاقة أمر قابل للنقاش
ضمن تقريرها الصادر خلال شهر نيسان/أبريل سنة 2016، أكدت الوكالة الفرنسية للبيئة والتحكم في الطاقة أن “تطوير السيارات الكهربائية من شأنه أن يحد من حجم الاعتماد على النفط المستورد”. وبفضل “مردود طاقي ممتاز”، تستهلك السيارة الكهربائية طاقة أقل مقارنة بالسيارات التي تعمل بالطاقة الحرارية أثناء التنقل.
في المقابل، توجد مشكلة أساسية فيما يتعلق بهذه السيارات، حيث يبدو “استهلاك المركبات الكهربائية للطاقة، على مدار دورة حياتها، قريبا بشكل عام من استهلاك سيارة ديزل للطاقة”. ويُفسر ذلك من منطلق أن الطاقة اللازمة لتصنيع السيارة الكهربائية تعتبر ضعف الطاقة اللازمة لتصنيع السيارة التي تعمل بالطاقة الحرارية. وفي الأثناء، تعتبر مرحلة تجميع البطاريات أكثر المراحل استهلاكا للطاقة.
من جهته، أوضح الأستاذ في “كوليج دو فرانس”، والباحث في تخزين الطاقة الكهروكيميائية، جان ماري تاراسكون، أن “مواد السيارات غالبا ما يتم إعدادها في أفران تصل درجة حرارتها إلى 400 درجة مئوية، وهو ما ينتج عنه استهلاك عال نسبيا للطاقة. ولكن من المتوقع إحداث تحسينات خلال السنوات القادمة، حيث يعكف الباحثون على تطوير أساليب التجميع في درجة حرارة تبلغ 150 درجة مئوية، وهو ما يتطلب طاقة أقل”.
لا تنبعث من السيارات الكهربائية ملوثات من قبيل المركبات العضوية المتطايرة وأكسيد النيتروجين، التي تعزز تشكل غاز الأوزون المسؤول عن تردّي نوعية الهواء
في شأن ذي صلة، أفادت الوكالة الفرنسية للبيئة والتحكم في الطاقة، أنه “وعلى عكس السيارات التي تعمل بالطاقة الحرارية، تتجلى معظم الآثار البيئية السلبية للسيارات الكهربائية خلال مرحلة تصنيعها، في حين تبرز المكاسب البيئية للسيارة الكهربائية عند استخدامها”.
عدم استهلاك البنزين لا يعني انعدام التلوث
أصبحت الحجة القائلة: “سيارة كهربائية تعادل صفر من الانبعاثات”، بمثابة شعار للترويج لهذه المركبات. خلافا لذلك، يصدر عن السيارات الكهربائية، أثناء قيادتها، ثاني أكسيد الكربون، علما وأن هذه الانبعاثات أقل بكثير من تلك المرتبطة بالديزل أو البنزين. ووفقا لما ورد عن الوكالة الفرنسية للبيئة والتحكم في الطاقة، ينبعث عن السيارة الكهربائية حوالي تسعة أطنان من ثاني أكسيد الكربون، مقابل 22 طن تصدر عن السيارة التقليدية في فرنسا على مدار دورة حياة السيارة.
في هذا الإطار، لسائل أن يسأل: كيف لسيارة تعمل من دون وقود أحفوري أن تصدر ثاني أكسيد الكربون؟ في الواقع، وفيما يتعلق بالسيارات الكهربائية، يصدر التلوث بطريقة غير مباشرة، حيث ينجم تحديدا عن إنتاج الكهرباء المستخدمة لإعادة شحن المركبات. ففي الصين، على سبيل المثال، تتأتّى الكهرباء من المحطات التي تعمل بالفحم، وبالتالي يكون الأثر على البيئة أكبر بكثير.
من جهته، قال مدير المرصد النووي الفرنسي، الجمعية المناهضة للطاقة النووية، ستيفان لوم، إن “الكهرباء المستخدمة في فرنسا ينبعث منها قدر ضئيل من ثاني أكسيد الكربون بفضل الطاقة النووية، التي لا تعتبر طاقة نظيفة نظرا لأنها تنتج مخلفات إشعاعية. فضلا عن ذلك، نحن نستورد الكهرباء من ألمانيا، حيث يقع إنتاجها أساسا في محطات تعمل بالفحم”. في سياق متصل، أقر جان ماري تاراسكون بأنه “في حال تم توظيف الطاقة المتجددة، سواء كانت متأتية من الرياح أو من الشمس، فسيكون لذلك ميزة مهمة في حين سيتقلص التلوث بشكل ملحوظ”.
على عكس البنزين والديزل، لا تنبعث من السيارات الكهربائية ملوثات من قبيل المركبات العضوية المتطايرة وأكسيد النيتروجين، التي تعزز تشكل غاز الأوزون المسؤول عن تردّي نوعية الهواء. في المقابل، تتسبب السيارات الكهربائية التي لا تستلزم وجود العادم في السيارة في انبعاث الجسيمات الدقيقة.
خيار إعادة تدوير البطارية بالكامل أمر ممكن، بيد أن ذلك سيكون له تكلفة باهظة قد لا ترغب الشركات المصنعة في تحملها بالضرورة
في هذا السياق، أثبتت دراسة أجرتها مرصد نوعية الهواء في منطقة “إيل دو فرانس” الفرنسية، أن 41 بالمائة من الجسيمات الدقيقة المُعلقة في الهواء التي صدرت في سنة 2012، جراء حركة المرور على الطرق في منطقة باريس، يعود سببها إلى تآكل الإطارات وتغطية الطرقات واستخدام المكابح.
التحدي المتعلق بالبطاريات
وفقا لما أكدته الوكالة الفرنسية للبيئة والتحكم في الطاقة، يعتبر احتمال استنزاف الموارد الأحفورية من أجل تصنيع مركبة كهربائية واردا بدرجة أكبر مقارنة بالمركبات التي تعمل بالطاقة الحرارية. ويعود السبب في ذلك إلى أنه في الغالب يقع استخراج المواد النادرة على غرار الكوبالت والليثيوم والغرافيت، ليتم تصنيع “بطاريات ليثيوم-أيون” المستخدمة في الأسواق.
في هذا الصدد، أورد ستيفان لوم أن “المسار الضروري لصناعة مثل هذه البطاريات لا يخلو من آثار خطيرة. وقد وقع إثبات ذلك بشكل مثير للاهتمام من خلال اثنين من الأفلام الوثائقية. وقد تم عرض أحد هذين الفيلمين على قناة “فرنسا 5” في أمريكا الجنوبية، فيما يتعلق باحتياطيات الليثيوم، في حين تم بث الفيلم الآخر ضمن البرنامج الفرنسي، “مبعوث خاص” حول مادة الغرافيت في الصين”.
في السياق ذاته، أورد الباحث جان ماري تاراسكون أن “مادة الكوبالت تتأتى بالأساس من جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث يقع استغلالها بشكل غير طبيعي ومناف لجميع الأخلاقيات في هذا المجال. ومن هذا المنطلق، نسعى للتخلص من أي روابط تجمعنا بهذه التجارة. أما في الوقت الراهن، تحاول العديد من الشركات إعادة تدوير هذه المواد انطلاقا من البطاريات المستخدمة بغية اعتمادها في تصنيع البطاريات الجديدة. ففي الحقيقة، تعد تكلفة ذلك أقل بكثير من استخراج كمية جديدة من الكوبالت”.
في المستقبل القريب، قد تصبح السيارات الكهربائية “نظيفة” أكثر
في الواقع، يعد خيار إعادة تدوير البطارية بالكامل أمرا ممكنا، بيد أن ذلك سيكون له تكلفة باهظة قد لا ترغب الشركات المصنعة في تحملها بالضرورة. ومنذ سنة 2011، أجبر الاتحاد الأوروبي المنخرطين في هذا المجال على إعادة تدوير ما لا يقل عن 50 بالمائة من وزن البطاريات. وفي حين أن الليثيوم يعتبر مادة خفيفة، فغالبا ما لا يعد من بين الأولويات ضمن عملية إعادة التدوير البطاريات.
في المستقبل القريب، قد تصبح السيارات الكهربائية “نظيفة” أكثر، وهو ما أكده الباحث جان ماري تاراسكون، حيث صرح أن “الباحثين أصبحوا على وعي بهذه المشاكل البيئية، وبالتالي، فهم يسعون إلى التقليص منها. وفي سبيل الحد من التكلفة المرتبطة بالطاقة، نحن نركز اهتمامنا على مسألة البطاريات، حيث تعمل مختلف الأبحاث على تطوير تكنولوجيات تستخدم الصوديوم، بشكل أوفر من الليثيوم. ومما لا شك فيه أن المستقبل سيشهد تصنيع السيارات الكهربائية التي لها تأثير سلبي محدود على البيئة”.
المصدر: ليبراسيون