تشتهر كل دولة في العالم بتميز أطباقها التقليدية وتنوع المكونات التي تستخدمها في إعداد هذه الوجبات، وهناك بعض الدول التي تحولت أكلاتها الشعبية إلى أطباق عالمية بسبب التوابل التي تستخدمها وتعطيها نكهة خاصة بها.
وقد يتغير جزء من ثقافة هذه البلدان وعاداتها، إذا ما فقد المطبخ أحد عناصره التي تعتبر رمزًا من الرموز التعريفية بهذا البلد، ليس فقط لأهميتها الغذائية والثقافية وإنما بسبب التاريخ التجاري للتوابل والذي جمع بين ثقافات مختلفة من شرق وغرب العالم وفرق بين أخرى، إضافة إلى التأثير الاقتصادي الذي شهدته دول العالم التي سعت للحصول على هذه المطيبات.
التوابل قبل القرن الخامس عشر
منذ بداية اكتشاف التوابل ظهر تأثيرها الواضح على الأحداث في العالم، فلقد كانت سببًا في التقاء ثقافات مختلفة ومنافسة لحضارات أخرى، كما أنها أحدثت تغييرات واضحة على عادات الشعوب ووضعهم الاقتصادي.
قبل القرن الخامس عشر، كان العالم يملك موارد محدودة من التوابل وتقتصر على مناطق معينة من العالم مثل جنوب آسيا وشرقها وشمال إفريقيا والشرق الأوسط، وكانت تُعرف هذه الدول بأغنى الأماكن بالبهارات الملونة والمنوعة والتي لم يكن يقتصر استخدامها على الطعام فقط، بل كانت تستخدم لصناعة العطور وتحنيط الموتى والحفاظ على اللحوم، كما أنها كانت ضرورية في بعض الوصفات والعلاجات الطبية.
من أشهر التوابل التي تم اكتشافها قبل أكثر من خمسة قرون القرفة والقرنفل وجوزة الطيب والفلفل وكانت تعتبر هذه البهارات الأكثر أهمية في ذاك الوقت، فلقد كانت بعض الدول تقطع محيطات وتبحر لأسابيع طويلة بحثًا عنها، مع العلم أن هذه التوابل حققت أسعارها ثروات طائلة وكانت يُدفع بقيمتها الإيجار كما تقول بعض الروايات.
أكثر التوابل تأثيرًا على العالم
تعتبر القرفة والقرنفل وجوزة الطيب والفلفل الأسود والفلفل الحار المعيار الذهبي للبهارات في قديم الزمن في التجارة. إذ يذكر التاريخ أن القرفة كلمة يونانية الأصل وتعني التابل والتي حصلوا عليها من الفينيقيين الذين كانوا يعملون في التجارة البحرية عبر طرق القوافل الشرقية التي كانت خاضعة لسيطرة العرب.
تعد القرفة من أكثر التوابل المرغوبة في العالم القديم، فلقد استخدمها الرومان كنوع من أنواع العطور وكانت تدخل في صناعة المراهم
موطنها الأول جزيرة سريلانكا (سيلان) والتي تقع على السهول الساحلية إلى الجنوب من العاصمة كولومبو، وسيطرت الصين على تجارتها رغم أنها لم تكن تزرع هناك ومن ثم أدخلت إلى مصر عام 1500. بعد وصول الأوروبيين من البرتغاليين والهولنديين ومن ثم البريطانيين إلى تجارة التوابل زاد الطلب على هذه السلع، الأمر الذي أدى إلى زرعها في مناطق مختلفة من العالم مثل شمال الهند وجزر سيشيل الواقعة على المحيط الهندي شرقي زنجبار في القرن الثامن عشر.
وتعد القرفة من أكثر التوابل المرغوبة في العالم القديم، فلقد استخدمها الرومان كنوع من أنواع العطور وكانت تدخل في صناعة المراهم، وأكبر مستهلكيها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا.
أما القرنفل، فالموطن الرئيسي لهذا التابل هو جزر مولوكاس التي تعتبر جزءًا من إندونيسيا، ويزرع اليوم في مدغشقر وزنجبار وجزء من تنزانيا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط، تستخدمه الهند في أطباقها الرئيسية كمكون أساسي فيها، مع العلم أن القرنفل استخدم كمعطر للنفس في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
وبالنسبة للفلفل الحار، فهو من أقدم البهارات في العالم، فتعود جذوره إلى الأمريكيتين الوسطى والجنوبية والكاريبي، والإسبان أول من جلبوه إلى أوروبا، والبرتغاليون أول من ساعدوا على انتشاره في جنوب آسيا وشرقها وأصبح يستخدم هناك أكثر من أي مكان آخر في العالم.
انتجت مدينة غرناطة ثلث محصول العالم، لكن في عام 2004 دمر إعصار إيفان صناعة جوزة الطيب بالكامل
وتعد الهند من أكثر الدول استهلاكًا لهذا التابل في أطباقها التقليدية، بجانب كل من هنغاريا وإسبانيا والصين وكوريا والكاريبي، وبدأ انتشاره في المكسيك منذ عام 7000 قبل الميلاد، واشتهرت استخداماته في الطب كدواء محفز للهضم ومساعد على تخفيف آلام المغص.
وأخيرًا جوزة الطيب التي تعود جذورها إلى جزيرة باندا الإندونيسية وتنمو في جزر الهند الغربية وسومطرة وسيرلانكا، وفي وقت من الأوقات انتجت مدينة غرناطة ثلث محصول العالم لكن عام 2004 دمر إعصار إيفان صناعة جوزة الطيب بالكامل.
سوق “برانيكة” في مصر
يوجد في أقصى جنوب صحراء مصر الشرقية الواقعة على البحر الأحمر موقع اسمه “برانيكة”، وفي الفترة الرومانية كان هذا المكان سوقًا تجارية للبهارات الآتية من الجنوب وكانت برانيكة تبعد 500 ميل عن السويس ولهذا كانت تعتبر مركزًا رئيسيًا للتجارة مع الإمبراطورية الرومانية وهذا ما كشفته التنقيبات في موقع برانيكة عن وجود الكثير من حبات الفلفل، وعثر أيضًا على نفس قدم الحبات في ألمانيا مما يشير إلى أن تجارة البهار وسعت مجالها الجغرافي ووصلت إلى أوروبا في القرن الأول الميلادي.
انتشار التوابل في دول العالم
لم تعرف أوروبا الكثير عن هذه التوابل المطيبة رغم امتداد هذه الثروة من الصين إلى شرق جنوب آسيا والهند والجزيرة العربية، لكن مع بدء الحروب الصليبية في سوريا وفلسطين عام 1099، أخذت عادات الأكل لدى الأوربيين بالتغير ببطء ودخلت جوزة الطيب والقرنفل إلى المطابخ الأوروبية.
كما يقال إن الأوربيين استخدموا هذه التوابل أيضًا لحفظ اللحوم، لكن هذه الرواية ليست حقيقة تمامًا وهذا لوفرة اللحوم في ذاك الوقت، فالحيوان كان يقتل ويطبخ ويؤكل فورًا، لهذا السبب لم يكن هناك حاجة لحفظ اللحوم، خاصة لصعوبة استخدام التوابل كمادة حافظة، لا سيما في وجود الملح، هذا بحسب كتاب التوابل التاريخ الكوني للكاتب فريد كزارا.
إضافة إلى استيراد الصليبيين للطباخين العرب من القدس وعكا إلى مطابخ الفرنجة والذين اعتادوا الإكثار من استخدام التوابل في الولائم والمناسبات ليستعرضوا غناهم الفاحش، حيث كانت تنقل التوابل حول الطاولات على أطباق فضية وذهبية، كما استخدمت في بعض الأحيان في الشعائر الدينية وتقديم الهدايا.
اشتدت المنافسة التجارية بين دول العالم حتى القرن التاسع عشر عندما أخذ الفرنسيون نبتة من التوابل وزرعوها في الجانب الآخر من المحيط الهندي
في ذاك الوقت، كانت أوروبا تزدهر اقتصاديًا بامتلاكها الأقمشة والمعادن وتقايض هذه البضائع مع الشرق بالتوابل، فلقد شهدت السوق الواقعة تحت جسر ريالتو بالبندقية في إيطاليا على المقايضات التجارية بين العرب والألمان الذين كانوا يقايضون الفضة بالبهارات.
وبعد هذه التبادلات التجارية التي غيرت الأحوال الاقتصادية في كل من الغرب والشرق، اشتدت المنافسة التجارية بين دول العالم حتى القرن التاسع عشر عندما أخذ الفرنسيون نبتة من التوابل وزرعوها في الجانب الآخر من المحيط الهندي وبهذه الخطوة قلبت فرنسا عالم تجارة التوابل وأحضرت نموذج مبكر للعولمة الاقتصادية.
ساعدت هذه الخطوة على انتشار فكرة البحث عن مواقع جديدة لزرع بذور التوابل فيها ومن ثم احتكارها والسيطرة عليها كما فعلت فرنسا وبريطانيا وهولندا، وبعدها هيمنت إسبانيا والبرتغال على القرنفل في أمريكا الجنوبية والوسطى، وإنجلترا وهولندا على جوزة الطيب في إندونيسيا حتى قسمت المواطن الأصلية للبهارات إلى مستعمرات تزهر توابل وثروات هائلة.
زراعة التوابل في مناطق خارج عن أرضها الأصلية ساعد على تقلص الاحتكارات وخفض قيمتها حتى أصبحت التوابل اليوم دون جنسية معينة وحجرًا أساسيًا في تاريخ التجارة
وبعد السيطرة المشتركة لكل دولة من دول العالم على قسم من هذه التوابل، شهد القرن التاسع عشر تطورًا عظيمًا في وسائل النقل البرية والبحرية، فلم تجعل هذه الوسائل مسألة نقل البضائع أمرًا سهلًا فقط، بل ساعدت أصحاب الأموال والشركات على الحركة بنفسهم ليسافروا ويبحثوا عن أنواع جديدة من التوابل ويختبروا هذه النكهات المغايرة في المطابخ المختلفة بالعالم.
ومع نشوء السكك الحديدية والقطارات البخارية لم تعد التوابل حكرًا على دولة أو طبقة معينة من المجتمع، فلقد أصبحت منتجًا سهل الحصول عليه، بجانب الانتشار الواسع لها خاصة بعدما تم زراعتها في مناطق خارج عن أرضها الأصلية مما ساعد على تقلص الاحتكارات وخفض قيمتها حتى أصبحت التوابل اليوم دون جنسية معينة وحجرًا أساسيًا في تاريخ التجارة وفي أفضل المأكولات في العالم.
اقتصاد التوابل في القرن الواحد والعشرين
يزداد سوق التوابل العالمي بمعدل نمو سنوي يبلغ حوالي 5٪ (حسب القيمة) ويتوقع أن يتجاوز 10 مليارات دولار بحلول عام 2020. وقد نمت الواردات الأوروبية من التوابل والأعشاب من البلدان النامية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، والتي كانت 97% من إجمالي حجم الواردات.
وبالنسبة إلى الهند، فلقد تجاوزت المنافسة الشديدة في الأسواق العالمية في تجارة التوابل، فلقد بلغت قيمة التوابل الهندية 2633.30 مليون دولار وهذا يعني زيادة بنسبة 6% عن العام الماضي، وحجمها 947.790 طن في الفترة بين عامي 2016 و2017.
ويعتبر الفلفل أكثر التوابل طلبًا في العالم، فلقد تم تصدير 4.00.250 طن بقيمة 5.070.75 كرور روبية. بزيادة قدرت ب 15% من حيث الحجم و27% من حيث القيمة.
من المتوقع أن ينمو سوق التوابل والبهارات الأوروبية في عام 2019 إلى 5723.3 مليون دولار في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية إسبانيا، والتي تشهد ارتفاع في نصيب الفرد من الاستهلاك
ومن أكثر ثاني التوابل المصدرة في العالم فهو الكمون، فلقد سجل زيادة بنسبة 22% من حيث الحجم و28% من حيث القيمة، وبلغت الصادرات الإجمالية لهذا التابل بقيمة 1.19.000 كرور روبية.
كما يأتي الكركم في المرتبة الثانية من جانب الطلب العالمي وخاصة أنه يستخدم في العقاقير الطبية والتي ساعدت صادراته على تحقيق أرقام بلغت 1.16.500 كرور روبية من ناحية الحجم و1.241 كرور روبية من جانب القيمة.
ومن المتوقع أن ينمو سوق التوابل والبهارات الأوروبية في عام 2019 إلى 5723.3 مليون دولار في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية إسبانيا، والتي تشهد ارتفاع في نصيب الفرد من الاستهلاك، مما يشير إلى بدء اهتمام المستهلكين في التوابل بشكل أكبر في السنوات القليلة الماضية. فبلدان مثل الهند والصين لديها نصيب أكبر من الاستهلاك خاصة أن معدل النمو المرتفع فيها يساعد على زيادة الطلب على المنتجات التقليدية.