بعد حركة “تكريز” (الغضب العارم) سنة 1998 وحركة زواولة (الفقراء) سنة 2012 و”وينو البترول؟” (أين البترول؟) عام 2015، وغيرها من الحركات الشبابية الأخرى التي عرفتها تونس قبل الثورة وبعدها، يأتي الدور إلى حركة “مانيش مسامح” (لن أسامح) التي سطع نجمها وسرقت الأضواء في تونس من أحزاب وتشكيلات سياسية ونقابية عريقة، بنَفَسها الشبابي الثوري وتمسكها برفض العفو عن فاسدي نظام بن علي، في الوقت الذي يئس فيه عدد كبير من الشباب التونسي من إمكانية تغيير الواقع واقتنع بفشل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
بداية النشاط
مباشرة إثر ذكر رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي مشروع قانون للمصالحة الاقتصادية والمالية في خطابه يوم 20 من آذار/مارس 2015 بمناسبة عيد الاستقلال، بدأ بعض النشطاء في المشهد التونسي، الذين اختاروا مواصلة النضال وظلوا مؤمنين أن المسار الثوري ما زال متواصلًا وتحقيق أهداف الثورة ليس مستحيلًا، التنسيق والتباحث في الأمر عبر مواقع التواصل الاجتماعي أولًا، ثم كان أول تحرك ميداني لهم في 28 من أغسطس/آب 2015، في بطحاء محمد علي الحامي.
خلال نشاطها لم يحتل شباب الحملة المنابر الإعلامية، وإنما توجهوا للرأي العام في الشوارع لتحسيسهم بخطورة قانون المصالحة
في تلك الفترة انطلقت حملة “مانيش مسامح” التي تعرف نفسها كونها “مبادرة مواطنية مستقلة مفتوحة أمام كل من يريد الانضمام (…) تسعى إلى تجميع كل المواطنين وكل المكونات السياسية والحقوقية والفكرية حول مهمة سحب قانون المصالحة، الذي يبيض الفساد ويبرئ رؤوس الأموال الناهبة لأموال الشعب”، و”مانيش مسامح” عنوان بالعامية التونسية يعني “لن أسامح”، ويوجه الكلام هنا إلى رئاسة الدولة والحكومة ونواب البرلمان وكل الداعين لتمرير قانون المصالحة، التي ترى الحملة أنه يتعارض مع العدالة الانتقالية المشروطة بكشف الحقيقة والمحاسبة والاعتذار.
وتشكلت الحملة بموجب هدف معلن وهو “سحب مشروع قانون تبييض الفساد ورفض الانقلاب على مسار العدالة الانتقالية الذي يقوم على الكشف عن الحقيقة وحفظ الذاكرة، المساءلة والمحاسبة، جبر الضرر ورد الاعتبار، إصلاح المؤسسات، المصالحة”، خلال نشاطها لم يحتل شباب الحملة، الذي أخذ بزمام المبادرة بأشكال تعبيرية مبدعة لحماية الثورة، المنابر الإعلامية وإنما توجهوا للرأي العام في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل ووسائل النقل لتحسيسهم بخطورة قانون المصالحة.
وهج ثوري متواصل
رغم مضي أكثر من عامين على انطلاق أول تحرك احتجاجي في العاصمة تونس تحت شعار “مانيش مسامح”، فإن الوهج الثوري لنشطاء هذه الحملة، التي استطاعت توحيد صفوف شباب ينتمون لمدارس فكرية مختلفة ضد عدو واحد هو محاربة الفساد، ما زال متدفقًا حيث نجحوا في تنظيم العديد من الاحتجاجات مؤخرًا تزامنًا مع مصادقة البرلمان على مشروع قانون المصالحة، التحق به مواطنون وسياسيون بمختلف توجهاتهم للتعبير عن رفضهم للقانون.
تصدر شباب الحملة المسيرات المناهضة لقانون المصالحة
وتحت الضغط الذي كانت حملة “مانيش مسامح” أبرز المساهمين فيه، تنازل معدو قانون المصالحة عن الجزء المخصص بالعفو عن رجال الأعمال، واكتفوا بجزء مخصص للمصالحة مع موظفين عموميين ثبت فسادهم، بهدف إيجاد حل لمشاكل الإدارة المعطلة، لكن حتى هذا الجزء المتبقي رفضته المعارضة، وطالبت بإلغاء القانون رغم المصادقة عليه، ولم تثن المحاولات المتكررة لاستهداف ناشطيها، إما بتكرار الهجمات عبر الفضاء الافتراضي ضد نشطائها أو رفع دعاوى قضائية ضدهم أو إيقاف بعضهم، من مواصلة الحملة لنشاطها بكثافة أكبر ووصلت للعديد من المدن داخل البلاد وخارجها أيضًا، فكثيرًا ما نشاهد تظاهرات للحملة في الأرياف والمدن الداخلية لتونس.
توعية الشباب
منذ بداية نشأتها استطاعت هذه الحملة التي تتكون من فئة شبابية تتبنى المقاومة المواطنية المجتمعية المنحازة للثورة ولمبادئها ولا تقدم نفسها كمكون سياسي وإن كان لفعلها ونشاطها أثر سياسي جلي، أن تضم إلى صفوفها مئات الشباب الذي كان في وقت قريب بعيدًا عن العمل السياسي بعد أن استوعب خطورة الوضع واللحظة المفصلية التي تعيشها البلاد.
في هذا الشأن تقول يسر العجيمي طالبة تونسية: “ما شدني في حملة مانيش مسامح أن أغلبها شبابية، وهذا ما يدل على أن الشباب على دراية بوضع البلاد على عكس ما يروج له على أن الشباب عازف عن الحياة السياسية”، وتابعت يسر في حديثها لنون بوست “بالنسبة لي هذه الحركة تعتبر أول تحرك من نوعه في تاريخ السياسة التونسية كأول تنظيم أفقي شبابي بعيدًا عن المناصب والأحزاب، وهو ما يعني أن الشباب قادر على كسر الصورة النمطية للتابع والقائد”.
قاد شباب حملة “مانيش مسامح” على مدى السنتين الماضيتين جملة من التحركات الاحتجاجية ضد قانون المصالحة في كامل جهات الجمهورية
وتقاسم الصحفية مريم الناصري، يسر في هذا الرأي، وتقول مريم لنون بوست “رغم وجود فئة شبابية في تونس قررت الابتعاد عن الحياة العامة ومقاطعة المشاركة السياسية بعد فقدان الأمل في كل الوجوه السياسية، سواء التي تقلدت مناصب في الحكومات المتعاقبة بعد الثورة أو التي بقيت تلعب دور المعارضة، هناك فئة أخرى من الشباب بقيت تؤمن باستمرار مسار العدالة الانتقالية وروح الثورة، من ذلك شباب حملة “مانيش مسامح” الذي قاد على مدى السنتين الماضيتين جملة من التحركات الاحتجاجية ضد قانون المصالحة في كامل جهات الجمهورية”.
وتضيف مريم “نجحت هذه الفئة في إسقاط العديد من الفصول وتغير صيغة القانون أكثر من مرة بفضل تلك التحركات المستمرة، كما نجح هؤلاء في توعية مجموعة كبيرة من الشباب ممن سئم المشاركة الحياة السياسية ولم يفهم فحوى قانون المصالحة، وبدليل أن عدد المحتجين على القانون يرتفع من وقفة إلى أخرى رغم الحملات التشويهية التي باتت تسلط على هذا الشباب”.
حماية المسار الديمقراطي
يرى العديد من المراقبين أن لمثل هذه الحركات الشبابية دورًا كبيرًا في حماية المسار الديمقراطي في البلاد الذي ما فتئ يشهد العديد من العثرات والانتكاسات، في هذا الشأن تقول الطالبة التونسية في كلية الصحافة والمتابعة لتحركات الحملة منذ بدايتها سناء عادوني لـ”نون بوست”: “حملة مانيش مسامح مهمة جدًا في المسار الديمقراطي الذي تمر بيه البلاد، وهي وجه من وجوه الديموقراطية التي تثبت قوة المجتمع المدني في تونس بما أنها تخلق رأي مخالف لبعض سياسات الدولة”. وأضافت سناء في حديثها لنون بوست: “العمل المدني والحملات الي يتزعمها الشباب مثل “مانيش نسامح” تمثل مصدر وعي للشباب خاصة في استقطابها لهذه الفئة وقدرتها على إيصال المعلومة بأبسط الطرق، لو تواصل استقلاليتها وتكون بعيدة عن التجاذبات السياسية فستنجح في عملها المدني الذي هو أساس الديمقراطية في المجتمعات الرائدة”.
قمصانهم تميزهم
خلال احتجاجاتهم وتحركاتهم اليومية، يفضل شباب “مانيش مسامح” ارتداء قمصان رسم عليها شعار مطرقة العدالة والتي ترمز للحملة وكتب فوقها “مانيش” وتحتها “مسامح” لتكون العبارة “مانيش مسامح”، حتى أصبح ارتداء هذه القمصان وسيلة ترى فئة كبيرة من الشباب أنها أكثر فاعلية لنشر الوعي لدى فئة أكبر من الناس، والتأكيد على تمسكهم بتحقيق مطالبهم.
قمصان شباب الحملة
وتسببت هذه القمصان لبعض نشطاء الحملة في ملاحقات من طرف أعوان الأمن الذي قاموا في العديد من المرات بتوقيف مجموعة من ناشطي الحملة، من ذلك ما حصل خلال حفلة فنية بمناسبة الاحتفال بعيد الجمهورية في الـ25 من الشهر، وإرغامهم على تبديل قمصانهم المطبوع عليها شعار حملة “مانيش مسامح“، ويقول نشطاء الحملة إن هذه الممارسات غير قانونية خاصة أنها تعارض الدستور الذي ينص في فصله الـ31 على أن حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، وأنه لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات.
وتنوعت أشكال التحركات الاحتجاجية للشباب التونسي بعد الثورة ومكانها، حيث شملت النزول إلى الشارع في مظاهرات ووقفات احتجاجية لنشر أفكاره والدفاع عن قضاياه في العديد من الأحيان، والغناء في مرات أخرى للتعبير عن قضية أو نقد الحكومات والواقع المعيشي والرسم على الجدران، كما كانت مواقع التواصل الاجتماعي مسرحًا لبعض هذه التحركات، ففيها يحاول الشباب توعية أكبر عدد من التونسيين لتبني قضاياهم على غرار الشغل والحرية والكرامة الوطنية.