ترجمة وتحرير: نون بوست
في أواخر الشهر الماضي، قضت محكمة العدل الدولية بأنه “من المعقول” أن ترتكب إسرائيل إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
وردًّا على الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، أمرت المحكمة إسرائيل “بمنع ارتكاب جميع الأفعال” التي تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية و”منع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة جماعية” ضد الفلسطينيين. واستشهدت محكمة العدل الدولية بالعديد من تصريحات الإبادة الجماعية واللاإنسانية التي أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين، بما في ذلك الرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء.
إن قرار محكمة العدل الدولية يضع إسرائيل بشكل مباشر في شراكة المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية البيضاء التي تقوم بالإبادة الجماعية. ونتيجة للحكم المؤقت، ستواصل المحكمة الدولية مداولاتها في الأشهر أو السنوات المقبلة بشأن ما إذا كانت إسرائيل ترتكب “إبادة جماعية”.
إنه تحقيق متأخر في الفظائع التي ارتكبتها الصهيونية والمستعمرة الاستيطانية اليهودية على الشعب الفلسطيني منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، وبشكل أكثر فظاعة، كما جادلت جنوب أفريقيا في قضيتها، منذ سنة 1948، وليس فقط منذ السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
اتهامات تاريخية
بينما يتهم الفلسطينيون إسرائيل بالتطهير العرقي منذ سنة 1948 فصاعدًا، يتهم السياسيون الإسرائيليون والباحثون الإسرائيليون والفلسطينيون إسرائيل أيضًا بارتكاب إبادة عرقية، وإبادة سياسية، و”إبادة اجتماعية” ضد الشعب الفلسطيني.
أما بالنسبة للإبادة الجماعية، فإن قضية جنوب أفريقيا الأخيرة لم تكن المرة الأولى التي يتم فيها توجيه مثل هذا الاتهام. فبعد وقت قصير من مذبحة صبرا وشاتيلا في أيلول/ سبتمبر 1982، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدين المذابح باعتبارها “عملاً من أعمال الإبادة الجماعية”، حيث أيدت القرار 123 دولة وامتنعت 22 دولة فقط عن التصويت ولم يكن هناك أي صوت معارض.
ورفضت مستعمرات المستوطنين البيض في الولايات المتحدة وكندا مصطلح “الإبادة الجماعية” وامتنعت عن التصويت. وكذلك فعلت مستعمرات المستوطنين البيض في أستراليا ونيوزيلندا والدول الاستعمارية في أوروبا الغربية، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وغيرها. وفي المقابل، أعلن الاتحاد السوفييتي أن “ما تفعله إسرائيل على الأراضي اللبنانية هو إبادة جماعية. وهدفها هو تدمير الفلسطينيين كأمة”.
كما اتهمت جمهورية ألمانيا الديمقراطية إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، كما فعلت كوبا ونيكاراغوا. وتعجب مندوب نيكاراغوا من “كيف أن الشعب الذي عانى كثيرًا من سياسة الإبادة النازية في منتصف القرن العشرين قد يستخدم نفس الحجج والأساليب الفاشية والإبادة الجماعية ضد الشعوب الأخرى”.
كما أوصت لجنة دولية مستقلة مؤلفة من حقوقيين دوليين يحققون في جرائم إسرائيل في لبنان في مطلع سنة 1983 “بتشكيل أو إنشاء هيئة دولية مختصة لتوضيح مفهوم الإبادة الجماعية فيما يتعلق بالسياسات والممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني”.
منذ بداية تحويل إسرائيل لقطاع غزة إلى معسكر اعتقال في الفترة ما بين سنتي 2005 و2006 وسجن أكثر من مليوني فلسطيني داخله، أصبحت الاتهامات الموجهة إلى إسرائيل كدولة تمارس الإبادة الجماعية منتشرة في كل مكان.
وبعيدًا عن الفلسطينيين أنفسهم، وصف الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز – مثلًا – القصف الإسرائيلي على غزة في الفترة ما بين سنتي 2008 و2009 بأنه “إبادة جماعية”. وفي أعقاب قتل إسرائيل لأكثر من 2200 فلسطيني في حربها على غزة عام 2014، اتهم الرئيس البوليفي إيفو موراليس إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، كما فعل العشرات من الناجين من المحرقة ومئات من أحفاد الناجين من المحرقة.
“في صحبة جيدة”
منذ سنة 2008 على الأقل، اتهم باحثون دوليون أيضًا إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في المجلات العلمية بسبب الفظائع التي ارتكبت في سنة 1948 وما بعدها.
ولطالما أنكرت إسرائيل والمدافعون عنها هذه الاتهامات بشدة. ومع ذلك، فإنهم بذلك يكونون في صحبة جيدة مع مستعمرات المستوطنين البيض الذين يواصلون مناقشة ما إذا كان استعمارهم بمثابة إبادة جماعية للشعوب الأصلية.
وفي الواقع، حتى العلماء الأوروبيين والأميركيين ساهموا بنشاط في إخفاء ممارسات الإبادة الجماعية للمستوطنين البيض؛ حيث أكدت الفيلسوفة الألمانية الأمريكية البارزة، هانا أرندت، في سنة 1951 أن استعمار المستوطنين الإنجليز لأمريكا وأستراليا، القارتين “بلا ثقافة أو تاريخ خاص بهما”، شهد “فترات قصيرة نسبيًا من التصفية القاسية بسبب ضعف العدد السكاني للسكان الأصليين”.
وذهبت إلى حد الزعم بأن أيًا من رجال الدولة القوميين والمستعمرين في إنجلترا “لم يكن مهتمًا جديًا بالتمييز ضد الشعوب الأخرى باعتبارها أعراقًا أدنى، ولو فقط لسبب أن الدولتين اللتين يتحدثان عنهما، كندا وأستراليا، كانتا شبه فارغتين ولا توجد لديها مشكلة سكانية خطيرة”.
غالبًا ما تصاحب الإبادة الجماعية الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الأبيض في جميع أنحاء العالم. إن تبرير إبادة السكان الأصليين بسبب جرأتهم على مقاومة سرقة المستعمرين البيض لأراضيهم يملأ أرشيفات الفكر الاستعماري الأوروبي. وهذا هو الحال بشكل خاص عندما واجه المستوطنون البيض مقاومة على “حدود” مستعمراتهم، سواء في القارتين الأمريكيتين أو أستراليا.
وتظل الحملات القاتلة التي يشنها المستعمرون ضد السكان الأصليين، والتي يشار إليها باسم “الأعمال الانتقامية” أو “الانتقام” في حالة إسرائيل والمدافعين الغربيين عنها، حجر الزاوية في الأخلاقيات الغربية، إنهم ينظرون إلى هجوم السكان الأصليين على مضطهديهم الاستعماريين على أنه بداية للعنف وليس كرد فعل دفاعي على السرقة والقمع الاستعماريين.
وقد حافظت الحكومات الغربية على هذا الموقف، كما يشهد على ذلك دعمها القوي لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل، هذا بالإضافة إلى المبررات المقدمة لإبادة الشعب الفلسطيني من قبل الصحافة الغربية السائدة والحكومات، حرفيًا ومجازيً ضد أي رأي، وخاصة الأكاديمي، يدين الفظائع الإسرائيلية كجزء من الطبيعة العنصرية والإبادة للصهيونية، وقد حكمت الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها على الصهيونية في سنة 1975 عندما عرفتها رسميًا على أنها “شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”.
“لحظة فارقة”
إن كون القرار الأخير الذي اتخذته الجمعية العامة والذي يدعو إلى وقف إطلاق النار قد حظي بتأييد 153 دولة ولم تعارضه سوى عشر دول (بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة)، وأن قرار محكمة العدل الدولية حظي بتأييد 14 من قضاتها الدائمين الخمسة عشر، ليس من قبيل الصدفة، ولم يكن هذا الإجماع الدولي سوى مواجهة بين الدول الأوروبية البيضاء ومستعمراتها الاستيطانية البيضاء من جهة، وبقية العالم من جهة أخرى.
إن الإبادة الجماعية المستمرة للفلسطينيين هي لحظة فارقة؛ حيث يدعم المتعصبون البيض الإبادة الجماعية للشعوب غير البيضاء، وشعوب بقية العالم تعارضهم لأنهم يرون إسرائيل على أنها مستعمرة استيطانية أوروبية تمارس الإبادة الجماعية، بدعم من الدول المستعمرة البيضاء الحالية والسابقة.
وبسبب فزعها من إدانة أغلب دول العالم لإسرائيل، كانت ألمانيا، صاحبة التاريخ اللامع في الإبادة الجماعية، في طليعة الدول التي تدافع عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية وأصرت على الانضمام للدفاع عن إسرائيل كطرف ثالث في محكمة العدل الدولية.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن تغضب ناميبيا، التي كان شعبها أول ضحايا الإبادة الجماعية الألمانية، من دعم ألمانيا غير النادم للإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين غير البيض: فقد أعرب رئيس ناميبيا الحاج جينجوب (الذي توفي مؤخرا) عن أسفه لـ “عجز ألمانيا عن استخلاص الدروس من الدروس المستفادة من تاريخها المروع”، وأعلن أن ناميبيا “ترفض دعم ألمانيا لنية الإبادة الجماعية للدولة الإسرائيلية العنصرية”.
ونظراً للدعم الدبلوماسي والمالي والعسكري المستمر الذي تقدمه ألمانيا الغربية لإسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي، بما في ذلك دعم الدولة الألمانية الموحدة لحرب الإبادة الجماعية الحالية التي تشنها إسرائيل ضدهم، فسيكون للشعب الفلسطيني أكثر من مبرر إذا اعتبر ألمانيا اليوم “الرايخ الرابع”.
خط طويل من التفوق الأبيض
وكجزء من هيمنتهم على السكان الأصليين الذين اغتصبوا أراضيهم، اعتمدت مستعمرات المستوطنين البيض دائمًا سياسة هجرة البيض فقط.
فقد تم تطبيق سياسة “أستراليا البيضاء” بشأن الهجرة، التي تم تقديمها في سنة 1901، بشكل صارم حتى سنة 1973، ولم يتم إلغاء سياسة هجرة البيض في نيوزيلندا منذ سنة 1947 حتى عام 1987 (على الرغم من تعديلها في عام 1974)، استمرت سياسة الهجرة العنصرية الصريحة في كندا حتى سنة 1962، واستمرت سياسة الهجرة العنصرية في جنوب أفريقيا حتى سقوط نظام الفصل العنصري في سنة 1994.
أصبح الفهم العنصري الأبيض لجمهورية الولايات المتحدة قانونًا في سنة 1790 في قانون التجنيس الأول، والذي قصر الحق في المواطنة على أي “شخص أبيض حر” مقيم في البلاد لمدة عامين وأطفاله الذين تقل أعمارهم عن 21 عامًا، من خلال سياسات الهجرة التي بلغت ذروتها في قانون استبعاد الصينيين العنصري لسنة 1882 (الذي ألغي جزئيًّا في سنة 1943)، والذي استبعد معظم الآسيويين (بما في ذلك الهنود واليابانيين) ولم يتم إلغاؤه بالكامل حتى سنة 1965.
وكان قانون العودة الذي سنته إسرائيل في سنة 1950 يتبنى نظامًا مماثلًا؛ حيث يسمح لليهود في أي مكان في العالم بالهجرة إلى إسرائيل ويصبحوا مواطنين فيها ـ وهو الحق الذي تنكره إسرائيل على السكان الفلسطينيين الأصليين الذين طردتهم والذين من المفترض أن يحل هؤلاء اليهود محلهم.
لقد قدم كل من المحافظين البيض والليبراليين البيض، بما في ذلك الصحافة الليبرالية الغربية التي يهيمن عليها البيض وإدارات الجامعات، الدعم دائمًا لهذه الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية البيضاء وسياساتها تجاه السكان الأصليين، وتضم هذه المؤسسات الآن، مثل الحكومات الغربية نفسها، أشخاصًا ملونين رمزيين يرددون الخط الليبرالي الأبيض بشأن إسرائيل.
وكلما نشأت خلافات بينهم، كان الأمر في الغالب حول أفضل السبل للقضاء على تهديد السكان الأصليين وحول مستوى القسوة التي سيتم تطبيقها عليهم.
هناك مناقشات مستمرة اليوم حول مصير الفلسطينيين وأفضل السبل للتغلب على نضالهم مع الحفاظ على التفوق العنصري اليهودي في المستعمرة الاستيطانية اليهودية، وقد صيغت هذه المناقشات بشكل مميز على أنها دعوات إلى “السلام” و”اللاعنف” وإلى إنهاء “الأزمة الإنسانية” في غزة، وتقودهم الصحافة الليبرالية البيضاء والأكاديميون الليبراليون البيض ومديرو الجامعات، إلى جانب شركائهم التابعين من غير البيض، بما في ذلك جامعة كولومبيا.
ما يثبته كل هذا بوضوح هو أن العالم اليوم منقسم بين معسكرين متعارضين: أقلية من العنصريين البيض الإمبرياليين الأقوياء، والمحافظين والليبراليين على حد سواء، بما في ذلك الليبراليون غير البيض، الذين يدعمون الإبادة الجماعية للفلسطينيين وأغلبية سكان العالم الذين لا يفعلون ذلك.
إن أنصار الإبادة الجماعية وقحون وغير نادمين، وموقف محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل ودعم جنوب إفريقيا لم يسبب لهم سوى القليل من الإحراج.
المصدر: ميدل إيست آي