حالة غير مسبوقة لارتفاع أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية في السوق المصري، تبارى المحللون في تفسير أسبابها، ولعلّ السبب الرئيسي المعلن هو ارتفاع غير مسبوق لسعر صرف الدولار الأمريكي أمام الجنيه، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار عالميًّا، لكن المثير للجدل أن أسعار السلع ترتفع في مصر حتى لو انخفضت في دول العالم الأخرى، وحتى لو هبطت قيمة صرف الدولار أمام الجنيه، ما جعل البعض يرى أن هناك أيادي خفية لها مصلحة في ارتفاع الأسعار، سمّاها الإعلامي الشهير عمرو أديب “مشمش وشركاه”.
وكانت الأجهزة الأمنية قد ألقت القبض على مستشار وزير التموين “أحمد. م”، حسبما أعلنت اسمه وسائل إعلام مقرّبة من الحكومة المصرية، فيما أعلنت وسائل إعلام مستقلة أن اسمه أحمد مهدي.
واتُّهم مستشار الوزير المعيَّن في منصبه منذ 7 سنوات بحجب السلع الغذائية، والاحتكار، واستغلال النفوذ، والرشوة، بالتعاون مع 8 آخرين، منهم مسؤولين في الدولة ورجال أعمال، وهو الرجل الذي يفترض أن مهمته تخفيف العبء عن المواطن وضبط الأسعار والرقابة عليها، بحكم موقعه في وزارة مهمتها الأساسية دعم المواطن البسيط للوقوف أمام أعباء المعيشة.
فيما يعيد إلى الأذهان الصورة السينمائية التي عرضتها أفلام مصرية في أزمنة مختلفة، عن المسؤول الحكومي أو رجل الدولة الفاسد الذي يحمي رجال الأعمال الفاسدين بنفوذه، ليحتكروا السلع ويرفعوا أسعارها ويتحكموا في السوق، سواء كانوا يعملون بأمواله وبالشراكة المباشرة معه، أو يعملون بأموالهم لكنه شريكهم بتوفير الحماية أو المعلومات لهم، ومساعدتهم بقرارات الحكومة على التحكم والتلاعب بالسوق.
لا نعلم شيئًا عن كواليس قضية أحمد المهدي، وأغلب القضايا من هذا النوع ما يتاح منها في مصر للإعلام هو لائحة الاتهامات، ونصوص الأحكام، وبيانات مقتضبة ليس فيها تفاصيل.
كما لا نعلم الصيغ الإنسانية التي تعامل المهدي من خلالها مع رجال الأعمال، كيف حصل منهم على أموال إن صحَّ ذلك؟ هل هو نفسه رجل أعمال؟ أم يحصل على نسبة من أرباح رجال الأعمال مقابل حمايتهم أو الإتيان بممارسات تفيدهم؟ هل هو بريء؟…
أسئلة كثيرة لا توجد إجابات كافية عنها، لكن ربما تلهمنا السينما، من واقع الأفلام التي عالجت مثل هذه القضية، فكيف عالجت السينما المصرية هذه القضية من واقع أفلام مختلفة في أزمنة سابقة؟ ولماذا لا نشاهد أفلامًا أو أعمالًا درامية من هذا النوع الآن؟
“الفتوة”: النظام الملكي لا يحارب المحتكرين طالما يدفعون الرشوة
فيلم “الفتوة” من إنتاج عام 1957 في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، يعبّر عن أحداث افتراضية تعود إلى الحقبة الملكية في مصر قبل ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، حيث كان المعلم أبو زيد (الفنان زكي رستم) يتحكم في سوق الخضروات والفواكه، باعتباره التاجر الكبير الذي يشتري المحاصيل الزراعية الخاصة بأراضي العائلة الملكية في مصر حصريًّا.
كان يحصل على تلك المحاصيل من خلال علاقته بثريا هانم (الفنانة ميمي شكيب)، السيدة الأرستقراطية التي تتعامل معه نيابة عن “الباشا” الذي يدير هذه الأملاك، في مقابل حصول ثريا على رشاوى من المعلم هريدي.
لم يكن أبو زيد هنا وكيلًا عن العائلة الملكية، إنما كان يسترضي المسؤولين عن أملاك العائلة بالرشاوى، في مقابل أن يحتكر السوق ويبيع بالأسعار التي يحددها والتي ترضي جشعه.
وحين استطاع منافسه هريدي (الفنان فريد شوقي) أن يتغلب عليه بدفع الرشاوى لثريا هانم، استطاع أن يحصل على لقب الباكوية من الملك، وصار هو المتحكم في منتجات أراضي العائلة الملكية، وبالتالي أصبح هو محتكر السوق الجديد.
والمتأمّل يجد أن الفساد ليس في هريدي أو أبو زيد، بقدر ما هو في ثريا هانم والباشا الذي يدير أملاك العائلة الملكية، وفي فساد النظام الحاكم نفسه، الذي يقبل بوجود أمثال أبو زيد أو هريدي، ويرضى باحتكار السوق والتلاعب بالأسعار وبما يأكله الشعب، مقابل دفع رشاوى لمسؤولي هذا النظام.
قد يُفهم أن الفيلم مجرد دعاية ناصرية ضد النظام الملكي، لكن المدقق يجد أن العهد الملكي نفسه شهد معالجة للقضية نفسها في فيلم “السوق السوداء” المنتج عام 1945، لكنه لم يتطرق أو يشير إلى علاقة نظام الحكم بالاحتكار أو جشع التجار.
“شادر السمك”: زواج السلطة بالمال على جثة السوق
في فيلم “شادر السمك” من إنتاج عام 1986، احتكر المعلم أحمد أبو كامل (الفنان أحمد زكي) سوق السمك وتحكم في سعره، وتسبّب في موجة غلاء طالت كل شيء في مصر، بحماية منصور بيه حامد (الفنان كمال الزيني)، المسؤول الكبير في الدولة، الذي استرضاه أبو كامل بالهدايا، وبزواج ابنته سوزي (الفنانة خلود).
هنا كان الفساد من رجل الأعمال، وكان منصور حامد المسؤول الكبير مجرد حامٍ له، وليس شريكه، وذلك في مقابل الهدايا (الرشاوى المقنَّعة) ومقابل زواجه من ابنته، التي تستنزف أموال أحمد أبو كامل، وفي كل الأحوال ستكون ثروته من نصيبها، في تعبير عن فكرة “زواج السلطة برأس المال”، بشكل أكثر وضوحًا من المعنى الرمزي للفكرة.
“طيور الظلام”: الإتجار بالسلطة
فيلم “طيور الظلام” الذي يعبّر عن الصراع بين الجماعات الإسلامية والنظام الحاكم في مصر، خلال التسعينيات في عصر الرئيس حسني مبارك، ويعبّر عن الفساد الموجود بين الطرفَين، تناول بوضوح تأثُّر الاقتصاد بالفساد الحكومي.
الفيلم يوضّح كيف يستطيع من في السلطة الإتجار بما لديه من معلومات سرّية، لخدمة من يدفع من أباطرة السوق، في سلوك وضيع لا يعبأ بضمير ولا مصلحة عامة، ولا شرف للمنصب.
في الفيلم المنتج عام 1995، والذي كتبه السيناريست وحيد حامد، كان فتحي نوفل (الفنان عادل إمام) الذراع اليمنى للوزير رشدي الخيال (الفنان جميل راتب)، يبيع المعلومات لرجال الأعمال مقابل الحصول على أموال، عن طريق الداعرة التائبة سميرة (الفنانة يسرا) التي زوَّجها فتحي للوزير سرًّا، وصارت سيدة أعمال.
كان فتحي باعتباره ذراعًا في الحكومة، يعرف أن هناك قرارات اقتصادية ستصدر برفع الرسوم الجمركية على استيراد بعض السلع، فكان يبيع تفاصيل هذه المعلومة لرجال الأعمال عن طريق سميرة، لاستيراد تلك السلع قبل صدور القرارات وتخزينها بسعر رخيص، ثم إعادة بيعها بعد ارتفاع سعرها نتيجة فرض الجمارك عليها.
لماذا لا نرى أفلامًا مثلها الآن؟
ربما تكون الإجابة المباشرة عن هذا السؤال هي أن السلطة في مصر لا تسمح بذلك، باعتبارها المهيمن على الإنتاج الفني عن طريق ذراعها “الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية“، وعن طريق أجهزتها الرقابية التي تراجع الأعمال قبل عرضها.
وقد يردّ البعض بأن رقابة الدولة على المصنّفات الفنية موجودة منذ العهد الملكي، ومنذ دولة يوليو/ تموز 1952، وهو ردّ منطقي، ويمكن مراجعة ذلك من خلال قائمة طويلة من الأبحاث التي أعدّت عن ذلك، ومنها مثلًا كتاب “الرقابة والإبداع في ظل ثلاث أنظمة مختلفة” الصادر عن مؤسسة حرية الفكر والإبداع، وكتاب “تاريخ الرقابة على السينما في مصر” للناقد الشهير سمير فريد، إلا أن الدولة كانت في كل العهود تسمح بمناقشة تلك الظواهر السلبية، وفق هامش حرية متفق عليه ضمنًا، يزيد وينقص وفقًا للظروف.
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، أنتجت مؤسسة السينما، وهي جهة مملوكة للدولة، أفلامًا ناقشت ظواهر سلبية، طالت نظام يوليو نفسه، منها فيلم “ميرامار” من إنتاج عام 1969، واتّسع هذا الهامش تدريجيًّا، خاصة في ظل حكم الرئيس حسني مبارك، حيث رأينا أفلامًا مثل التي ذكرناها وغيرها، مثل “هي فوضى” من إخراج يوسف شاهين وخالد يوسف، و”ضد الحكومة” لعاطف الطيب، وغيرهما.
لكن في عصر الرئيس عبد الفتاح السيسي، صعدت أصوات ترى أن هناك تضييقًا على حرية الفن، وصدرت تقارير مختلفة تناولت ذلك عن جهات حقوقية، منها مؤسسة حرية الفكر والتعبير.
يؤكد ذلك المنتج محمد العدل، الذي يرى أن هناك تضييقًا على حرية التفكير والإبداع، وأصبح كتّاب السيناريو يتجنّبون المواضيع التي يظنون أنها تُغضب رقيب الدولة، وبالتالي تراجعت جودة الإنتاج الفني في مصر، حيث يقول: “إذا كان السيناريو جبان وخايف ومرعوش هيطلع فيلم زيه”.
أدّى الأمر إلى تراجع السينما المصرية، بحسب الناقد طارق الشناوي، الذي يطالب إدارة الرقابة الفنية بفتح الأبواب لمناقشة قضايا تهم المجتمع في السينما، قائلًا إنه يحضر أهم المهرجانات في العالم، وقلّما يتواجد الفيلم المصري الطويل في المسابقات الرسمية، وإن وُجد لا يحصل على جوائز، في الوقت الذي بدأت تتفوق فيه أفلام لدول أقلّ تاريخًا من مصر في السينما، كالسودان واليمن وتونس.
لكن المنتج جابي خوري يرى أن المشكلة ليست في إدارة الرقابة على المصنّفات الفنية التي تتبع وزارة الثقافة المصرية كجهة إدارية، إنما في جهات غير معروفة تتحكم بها، وفي مدى قبولها للأعمال الفنية أو رفضها، وهو أمر يجعل المبدع في حيرة، ويمارس رقابة ذاتية على نفسه، كي لا يتم إيقاف عرض عمله الفني.
وحديث جابي خوري قد يفسّر لنا لماذا تظهر أفلام جريئة تناقش مواضيع شائكة دينيًّا واجتماعيًّا، مثل “صاحب المقام” و”مولانا“، أو حتى سياسيًّا مثل “اشتباك“؛ فالمتأمّل في هذه الأفلام لا يجد منها هجومًا على جهاز الحكم القائم، إنما تمسّ جهاز الحكم السابق في عهد جماعة الإخوان المسلمين، أو تمسّ قضايا اجتماعية لا تتعارض مع رؤية النظام الحاكم.