قبل أن يأتي طوفان الأقصى، كانت القدس التي أطلقت لأجلها كتائب الشهيد عز الدين القسام عمليتها، تواجه خطة الخمسية الإسرائيلية، التي تهدف إلى تغيير معالم المدينة الدينية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والجغرافية، بهدف دمج المقدسيين مع اليهود وتذويب هويتهم المقدسية في الأحياء الاستيطانية التي ستشرع لأجلها.
ومع قدوم الطوفان في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شدد الاحتلال الإسرائيلي إجراءاته بالقدس، فأغلق المسجد الأقصى في وجه المصلين، وضيّق على المقدسيين في البلدة القديمة، وشن حملات اعتقالات واسعة، وداهم المنازل، وسرع من عمليته الاستيطانية في القدس، لتحقيق مكتسبات قبل أن يعيقها أي اتفاق وقف إطلاق نارٍ في قطاع غزة.
في أثناء ذلك، شهدت الأوضاع الاقتصادية في القدس تراجعًا كبيرًا، مع إغلاق محلات المقدسيين التجارية في البلدة القديمة، ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول ارتفعت نسبة الباحثين عن عمل في القدس المحتلة إلى 500%، بينما كان يعيش 70% من المقدسيين تحت خط الفقر قبل ذلك، وفق بيانات بلدية الاحتلال في القدس.
إغلاق المسجد الأقصى
أول ما فعله الاحتلال في مدينة القدس، هو إغلاق المسجد الأقصى أمام المقدسيين، ومنع الشبان من الدخول إليه والصلاة فيه، وفرض القيود على دخول كبار السن، ومحاولة منعهم من الوصول بحجة أن “الدخول لكبار السن من سكان البلدة القديمة فقط”، ومنع آلاف المصلين الدخول لأداء صلاة الجمعة.
واعتدت قوات الاحتلال على الشبان بالضرب، وأخضعت الجميع لتفتيش جسدي في البلدة القديمة وعند أبواب الأقصى، ما اضطر عددٌ كبير من الفلسطينيين إلى أداء صلاة الجمعة في شوارع القدس خارج أسوار الأقصى، وتراوحت أعداد المصلين في أيام الجمعة بين 3 و12 ألف مصلّ فقط، بينما كانت تصل أعداد المصلين إلى أكثر من 50 ألفًا، قبل أن تزيد الأرقام قليلًا أيام الجمع الأخيرة بسبب مشاركة فلسطينيين من الداخل المحتل في الصلاة.
تواصل سلطات الاحتلال منذ بداية حربها على غزة، فرض قيود مشددة على الصلاة بالمسجد الأقصى (وكالة الأناضول)
ولاحقت سلطات الاحتلال في مدينة القدس طلبة مدارس الأقصى، المقدر عددهم بنحو 600 طالب وطالبة يلتحقون بـ3 مدارس، وأغلقت مدارس ورياض الأقصى الإسلامية داخل الأقصى لأول مرة لمدة أسبوع، بحجة كتابة كلمة “حماس” على أحد جدرانها، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وفتشت حقائب الطلبة بحثًا عن المنهاج الفلسطيني.
مقابل ذلك، استمرت اقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى تحت حماية شرطة الاحتلال، بمعدل يومي يتراوح بين 120 إلى 160 مستوطنًا، أدوا صلوات تلمودية، وأقاموا “مباركة عروسين” فيه بإشراف المستوطن المتطرف يهودا غليك، وعثر مقدسيون على “رأس حمار” علقها أحد المستوطنين قرب أحد أسيجة مقبرة باب الرحمة الإسلامية الملاصقة للسور الشرقي للمسجد الأقصى.
التوسع الاستيطاني
كشفت صحيفة “هآرتس” العبرية أن الاحتلال يستغل الحرب على قطاع غزة، وبحسب تقرير لجمعيتي “عير عاميم” و”بمكوم” الإسرائيليتين، فإن لجان التخطيط الاستيطانية دفعت قدمًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول بـ17 خطة هيكلية لصالح اليهود، بحجم 8434 وحدة استيطانية.
مؤخرًا، وبحسب صحيفة هآرتس، فإن حكومة الاحتلال تعمل بالمشاركة مع نشطاء استيطانيين متطرفين على إقامة حي جديد لليهود يحمل “نوفيه راحيل” بالقرب من قرية أم طوبا الفلسطينية، جنوب شرق القدس، وسيشمل الحي حسب الخطة الأولية 650 وحدة استيطانية، وهو الحي الرابع الذي تعمل عليه وزارة عدل الاحتلال في السنوات الأخيرة شرقية القدس.
أما الأحياء الـ3 الأخرى، تشمل حيًا جديدًا “جفعات هشكيد” ويُخطط لإقامته في قرية إمليسون وبيت صفافا، وحي “كدمات تسيون” في المنطقة بين حي رأس العامود وجدار الفصل، وحي “ايميت همايم هتحتوناه” (قناة المياه السفلى) قرب أم طوبا، وبحسب ادعاء المنظمات التي تتابع البناء في المستوطنات، فإن جميع هذه الأحياء التي تشمل نحو 3 آلاف وحدة سكنية جديدة لليهود في شرقي القدس، يتم تسويقها بشكل استثنائي وتحصل على مصادقة سريعة من جهاز التخطيط، لا سيما منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
إضافة إلى ذلك، يعمل مدير التخطيط لدى الاحتلال بسرعة استثنائية على البناء لليهود في شرقي القدس، وفق صحيفة “هآترس”، فبعد يومين من طوفان الأقصى، في 9 أكتوبر/تشرين الأول، صادقت اللجنة اللوائية للاحتلال على إيداع إقامة حي “كدمات تسيون”، وفي شهر يناير/كانون الثاني 2024، صادق مدير التخطيط على خطة لإقامة “جفعات هشكيد”، بعد 5 أسابيع فقط من تقديم الاعتراضات ضد الخطة، وقد رفضتها جميعًا.
وخلال الحرب أيضًا، وافق الاحتلال بشكل نهائي على بناء 1738 وحدة استيطانية في مستوطنة بجنوب شرق القدس الشرقية المحتلة، وفق ما أفادت به منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية، وسيقع نصفه في شرقي القدس، وهو ما وصفه المعنيون بالاستيطان بأنه تهديد خطير لامتداد الدولة الفلسطينية على أراضي عام 1967، إذا يفصل بين جنوب الضفة الغربية وشرقي القدس.
هدم البيوت
مع مصادقة سلطات الاحتلال السريعة على الخطط الاستيطانية في القدس، فإنها ضيّقت في الوقت نفسه على الفلسطينيين في الأحياء المقدسية المخطط الاستيطان فيها، فعقّدت من إجراءات الحصول على رخص بناء وتغيير الإجراءات المتعلقة بإثبات ملكيتهم للأرض (تسوية الأراضي)، وزادت وتيرة هدم البيوت شرق القدس منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وعملية تسوية الأراضي هي إجراءات تسوية حقوق الملكية من أجل تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم من خلال عدة آليات قانونية أبرزها تطبيق قانونين تمييزيين هما: قانون “أملاك الغائبين” الذي أُقرّ عام 1950، وقانون “المسائل القانونية والإدارية” الصادر عام 1970.
وتمكنت جمعيتا “عير عاميم” و”بمكوم” من تحديد 201 كتلة (موقع أو تجمع) في شرقي القدس تم إطلاق مشروع تسوية الأراضي فيها، وأكثر من ثلث هذه الكتل تقع في بلدة بيت حنينا شمال مدينة القدس، ووجدت أن 75% منها يخدم مصالح حكومة الاحتلال أو المستوطنين بشكل مباشر، دون وجود كتلة واحدة تدل على أن بلدية الاحتلال وسلطاته تعمل فيها لصالح المقدسيين.
في الأثناء، تزايدت عمليات هدم منازل المقدسيين وإخلاء منازل من قاطنيها للسيطرة على الأراضي وتحويلها إلى ساحات عامة لصالح البؤر الاستيطانية، سواء في البلدة القديمة أم في سلوان جنوب المسجد الأقصى المبارك.
وفي هذا الإطار، تعمل سلطات الاحتلال وأذرعها التهويدية، ومنها بلدية الاحتلال بالقدس، واللجنة اللوائية للبناء والتنظيم، وما يسمى بدائرة أراضي “إسرائيل” والجمعيات الاستيطانية، على حسم موضوع القدس والسيطرة على الأراضي والممتلكات وطرد المقدسيين من المدينة المقدسة بشكل عام ومنطقة سلوان بشكل خاص، لقربها من المسجد الأقصى المبارك من جهته الجنوبية.
جرافات الاحتلال تهدم منزل فخري أبو دياب في حي البستان في سلوان جنوب المسجد الأقصى (كالة الأناضول)
في ديسمبر/كانون الأول 2023، سلمت سلطات الاحتلال ممثلة بما يسمى باللجنة اللوائية للبناء والتنظيم الإسرائيلية، بلاغات بمصادرة 8750 مترًا مربعًا، تعود لعائلات مقدسية من سلوان، حيث سيجرى مستقبلًا إجلاء 30 عائلة من هذه المنطقة الحساسة جدًا، لأنها لا تبعد إلا 50 مترًا عن باب المغاربة ولقربها من المسجد الأقصى.
وحقيقة الأمر، أنها استهدفت الأراضي والمنازل في بلدة سلوان القريبة من موقع تابع للجمعيات الاستيطانية التي ستقوم ببناء مبنى ضخم بالقرب من القصور الأموية، ويلاصق السور الجنوبي للمسجد الأقصى، وبالتالي فإنّ مصادرة هذه الأراضي وطرد السكان منها سيفضي إلى ربط تلك الأراضي التي استولت عليها جمعية إلعاد الاستيطانية، وإغلاق الطريق الموصل إلى باب المغاربة والمسجد الأقصى والبلدة لسكان جنوب الأقصى.
وحسب الأمم المتحدة فإن 218 أسرة فلسطينية تضم 970 فردًا، ومن ضمنهم 424 طفلًا، في أحياء شرقي القدس، بما فيها حيّا الشيخ جراح وسلوان، يواجهون خطر الإخلاء القسري على يد سلطات الاحتلال خلال الفترة الحاليّة.
اعتقالات المقدسيين
نوّعت سلطات الاحتلال في إجراءاتها التصعيدية ضد المقدسيين، من هدم المنازل إلى مداهمة البيوت والاعتقالات، حيث سجلت أكثر من 1300 حالة اعتقال في القدس من جميع البلدات والأحياء والشوارع، في حين اقتحمت منازل عشرات المقدسيين، منها أكثر من 87 منزلًا لأسرى مقدسيين حالين ومحررين، وصادرت أموالهم ومركباتهم.
وطالت اعتداءات الاحتلال مستشفى المقاصد، أحد أكبر مستشفيات القدس، حيث اقتحمه جنود الاحتلال خلال الأسابيع الماضية أكثر من 3 مرات منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، واعتقل 12 فلسطينيًا من قطاع غزة، معظمهم من النساء، كانوا يمكثون داخل المستشفى لتلقي العلاج، بعد أن علِقوا في المدينة بسبب إحكام الاحتلال حصاره على القطاع وبدء العدوان عليه.
وبعد أيام من بدء العدوان، ركزت حملات اعتقال المقدسيين على خلفية تعبيرهم عن آرائهم بالمنصات الاجتماعية، وإيقاف المقدسيين والتفتيش بهواتفهم، وقد سجلت المدينة المقدسة حوادث ضرب لشبانٍ مقدسيين، منها شاب من بلدة الطور في القدس المحتلة، حيث احتجزه الاحتلال على أحد الحواجز في المدينة، ثم فتحوا هاتفه عنوة، وحين عثروا على صور تتعلق بمعركة “طوفان الأقصى”، ضربوه بأعقاب البنادق وأسلحة أخرى على رأسه وأنحاء جسده، ثم صوروه بعد تغطيته بالعَلم الإسرائيلي، وأجبروه على شتم المقاومة الفلسطينية وتمجيد الاحتلال، ثم ألقوه أرضًا في غرفة للنفايات بعيدًا عن كاميرات المراقبة، وواصلوا ضربه لمدة ساعة ونصف الساعة، ثم أخلوا سبيله بعد تهديده بالقتل.
عرض هذا المنشور على Instagram
ومنذ بدء العدوان على غزة، هاجم الاحتلال الصحفيين في القدس، وأصبحت قوات الاحتلال تتعمد الاعتداء عليهم في أي حدث تشهده المدينة ثم تشرع بعملية قمع للمقدسيين، ووثقت نقابة الصحفيين الفلسطينيين استهداف 20 صحفيًا في القدس المحتلة منذ 7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى نهاية 2023، تضمنت اعتداءات جسدية ولفظية ومنعًا من التغطية، والتعرض للدفع والإهانة من عناصر الشرطة والمستوطنين.
وسجلت اعتداءات على الصحفيين على مدار أيام الجمعة، التي أُقيمت فيها الصلاة في حي وادي الجوز بسبب منع الوصول إلى الأقصى المبارك، وكان الضُّباط يأمرون مطلقي قنابل الغاز والقنابل الصوتية والمياه العادمة بالاعتداء على الصحفيين.
وفي أثناء ذلك، شهدت القدس خلال طوفان الأقصى استشهاد 34 فلسطينيًا برصاص الاحتلال، منهم من نفذ عمليات ضد قوات الاحتلال، مثل الشقيقين الشهيدين إبراهيم ومراد نمر من بلدة صور باهر في المدينة، اللذين نفذا عملية إطلاق نار في القدس أسفرت عن مقتل 3 إسرائيليين، وعملية الشهيد فادي جمجوم منفذ عملية “كريات ملاخي” التي أسفرت عن مقتل إسرائيليين على الأقل.
والطوفان ذاته، حرر 79 مقدسيًا في صفقة تبادل بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، بينهم 24 امرأة و55 طفلًا، وبينهم الأسيرة الجريحة إسراء جعابيص، والأعلى حكمًا شروق دويات، ونفوذ حماد التي حُكِمت بالسجن 12 عامًا.
ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، الذي تعدّ القدس عنوانه كل عام من هبة باب الأسباط، إلى هبة باب العامود، فمعركة سيف القدس، تكشف القناة 12 العبرية عن خلافات بين قيادات الاحتلال بشأن وضع القدس خلال الفترة الراهنة، والسياسة الإسرائيلية الأمنية هناك، مع مطالبة وزير أمن الاحتلال إيتمار بن غفير بمنع إدخال المصلين الفلسطينيين من الضفة الغربية خلال الشهر.