في الحلقة السابقة تحدثنا عن أسباب ودوافع أشرف مروان للتعاون مع الموساد، كما ذكرها يوري بار – جوزيف، مؤلف كتاب “الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل”.
في هذه الحلقة نتحدث عن لقاءات الجاسوسية الأولى، والمعلومات التي قدمها مروان للموساد لينال ثقته.
اللقاء الأول
ينفي جوزيف الرواية الشائعة بشأن طريقة اتصال مروان بالموساد والتي تقول إنه ظهر فجأة ذات يوم في السفارة “الإسرائيلية” طالبًا التحدث مع ضابط الاستخبارات، وعوضًا عنها أكد مؤلف “الملاك” أن مروان شق طريقه إلى الموساد عبر إحدى حجرات الهاتف الحمراء بلندن.
في مكالمته الأولى، يونيو 1970، ذكر مروان اسمه وطلب التحدث مع أحد من المخابرات لعرض خدماته، طلب منه الملحق العسكري – الذي لم يستطع تمييز هويته – أن يترك رقم هاتف للاتصال به، لكن مروان رفض ذلك، وطلب منه الملحق العسكري الاتصال مرة أخرى، وانتهت المكالمة.
كرر مروان الاتصال مرة أخرى بعد 5 أشهر من هذه المحاولة، تحديدًا في ديسمبر من عام 1970، بعد وفاة عبد الناصر بشهرين، وتم تحويله للملحق العسكري، هذه المرة ترك مروان رقم هاتف للاتصال به، بعد عدة أيام عرض الملحق العسكري قصة الشاب العربي الذي يُدعى “أشرف مروان” على ريهافيا فاردي رئيس جناح الاستخبارات البشرية في الموساد، وشمويل غورين مدير عمليات الموساد في أوروبا، اللذان لم يصدقا نفسهما بمجرد سماع الاسم.
في اليوم التالي، تم الاتصال بالهاتف الذي تركه مروان ورُتب لقاء معه، واستقر رأي فاردي وغورين على أن يقابل مروان مسؤول جمع الاستخبارات في لندن واسمه “دوبي” – ويطلق عليه “أليكس” أيضًا وشخصيته لا تزال سرًا رسميًا – وكان يتكلم العربية بطلاقة.
وفي بهو أحد فنادق لندن، تم اللقاء الأول بين أشرف مروان ومندوب الموساد، اللذان صعدا إلى غرفة بمجرد التعارف، بدأ مروان بالحديث عن نفسه وطبيعة منصبه، فبادره “دوبي” بالسؤال عما يمتلكه من معلومات، هنا التقط مروان حقيبته وأخرج منها وثائق استخباراتية من الطراز الرفيع، وأخبره أنه يقدمها للموساد كـ”عربون ثقة”، كانت مذكرة في غاية السرية فيها فهرسة لمعركة تخص الجيش المصري، ظل مروان يقرأ على دوبي الوثائق وما تحتويه من أسرار مواقع عسكرية وأسماء قادة والأسلحة، وغيرها من التفاصيل العسكرية.
حينما عاد دوبي إلى مكتبه بالسفارة “الإسرائيلية” وجد فاردي وغورين في انتظاره، أعطاهما وثائق مروان، نظر إليها غورين وقال: “مادة كهذه، من مصدر كهذا! إنه أمر لا يحدث إلا مرة كل ألف عام”.
دفع استعداد مروان لتقديم معلومات في غاية الحساسية عن القدرات العسكرية المصرية، دوبي لطرح أسئلة كانت “إسرائيل” قلقة بشأنها منذ سنوات، تحديدًا بشأن المنشآت الكيميائية في أبو زعبل، وما إذا كانت مصر استطاعت تطوير أسلحة غير تقليدية.
على الفور أعطى مروان، الذي عمل كمهندس كيميائي بالجيش المصري لفترة، معلومات مهمة ودقيقة عما كان يجري في أبو زعبل، دوّن دوبي كل شيء قاله مروان، وحين انتهى سلمه مروان ظرفًا يحوي وثيقة أخيرة، يقول مؤلف الكتاب إن أحدًا لم يفصح عما كان في هذا الظرف حتى اليوم.
مرة كل ألف عام!
انتهى اللقاء الأول الذي لم يتم التطرق خلاله لمسألة الأجر الذي سيحصل عليه مروان نظير خدماته، وتركه لوقت آخر، خاصة بعد أن أسفر اللقاء عن راحة وثقة متبادلة بين الطرفين.
حينما عاد دوبي إلى مكتبه بالسفارة “الإسرائيلية”، وجد فاردي وغورين في انتظاره، أعطاهما وثائق مروان، نظر إليها غورين وقال: “مادة كهذه، من مصدر كهذا! إنه أمر لا يحدث إلا مرة كل ألف عام”.
في اليوم التالي أرسلت السفارة “الإسرائيلية” تقريرًا يتضمن ما حدث مع مروان إلى تل أبيب حيث مكتب تسفي زامير رئيس الموساد، الذي أدرك الأهمية الاستراتيجية لمروان كعميل “إسرائيلي” بمجرد انتهائه من قراءة التقرير، وترأس بنفسه قيادة المجموعة التي تولت إدارة ملف أشرف مروان.
عميل مزودج!
أثارت نقاشات تلك المجموعة عدة نقاط، أبرزها عما إذا كانت المخابرات المصرية أرسلت أشرف مروان لخداعهم، ولعدة أسباب استبعد هذا الاحتمال، أولها أن أقوى وكالات المخابرات في العالم هي وحدها التي تستطيع تشغيل عميل مزدوج طوال الوقت، في حين كان تقييم المجموعة للمخابرات المصرية في ذلك التوقيت أنها منظمة هاوية أقصى نجاحاتها كان القضاء على المعارضة داخل مصر. أمر آخر دفع “الإسرائيليين” لاستبعاد تلك الفرضية، وهو نوعية المعلومات التي سلمها مروان لدوبي، فالشائع في دور العميل المزدوج أنه يقدم معلومات حقيقية لكنها من النوع الذي يبطل مفعوله سريعًا أو يرجح الطرف الأول أن المتلقي يعلمها مسبقًا، في حالة مروان لم يكن الأمر كذلك، فالمعلومات التي قدمها للموساد لم تكن موثوقة فقط، بل بالغة القيمة.
واتفقت المجموعة على أن يستمر دوبي في التواصل مع مروان، على أن تدير أمره مراكز القيادة في تل أبيب، وعلى رأسها زامير شخصيًا، وهو ما يعكس الأهمية غير الاعتيادية للعميل الجديد الذي اختير له اسم حركي لحماية هويته، في البداية أعطيت له أسماء منها “باكتي” و”أتموس”، لكن تم الاستقرار على “الملاك the angel”، يقول جوزيف إنه بعد انتهاء حرب أكتوبر تبين تمامًا كم كان الاسم الحركي ملائمًا!
المهمة الأخطر.. والثمن
بحسب جوزيف، المهمة الاستخباراتية الرئيسية التي أوكلها الموساد لمروان كانت تستهدف معرفة النوايا المصرية بخصوص الحرب ضد “إسرائيل”.
المعلومات العسكرية التي قدمها مروان للموساد، كانت تخص أمور حساسة، مثل النقاشات داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة
في لقائه الثاني مع دوبي في بداية عام 1971، تحدث مروان عن الرئيس الجديد أنور السادات، وأكد أن أقصى ما يطمح إليه هدنة واسعة النطاق وليس اتفاقية سلام، وشرح مروان المفهوم المصري الجديد للمعركة الهجومية الذي طوره وزير الدفاع محمد فوزي، وخلاصة النقاشات مع السوفييت بشأن تزويد الجيش المصري بأسلحة الردع.
في هذا اللقاء تم التطرق للمقابل المادي، واتفقا على أن يحصل مروان على عدة دفعات مقدار الواحدة منها 10 آلاف دولار، ويعود المبلغ الكبير هذا إلى نوعية المعلومات والوثائق فائقة السرية التي تجد طريقها من مكتب السادات إلى مكاتب القادة “الإسرائيليين”، وسرعان ما وضع مروان نفسه في أعلى صفوف العملاء “الإسرائيليين” في العالم العربي.
في أبريل 1971 تقابل مجددًا مروان ودوبي، ولكن هذه المرة حضر شخص ثالث الاجتماع، المقدم مائير مائير، رئيس الفرع 6 في شعبة أبحاث الاستخبارات العسكرية، والذي أرسله زامير للاستفادة بأقصى حد ممكن من معلومات مروان العسكرية.
سؤال مائير الأول لمروان كان بشأن نوايا مصر في الحرب، وما إذا كانت تستطيع التحول من حالة حرب الاستنزاف إلى المبادرة بهجوم عدائي، والحلول المصرية المطروحة لمعالجة مشكلة التفوق “الإسرائيلي” في الجو والبر لاستعادة سيناء، لم يستطع مروان تقديم إجابات دقيقة، وفي نهاية الاجتماع حدد مائير مهمة مروان المطلوبة منه في الاجتماع المقبل، عليه أن يحضر معه خطط الجيش المصري لعبور قناة السويس، بالإضافة إلى أمر المعركة الموجه إلى كامل الجيش.
مروان الآخر
بعد شهر واحد فقط من اجتماع مروان ومائير، شهدت مصر تطورًا سياسيًا خطيرًا، السادات أطاح بخصومه، ومعظم المراكز العليا في مصر أُسندت إلى طاقم جديد من القادة، بالطبع كان أحدهم أشرف مروان الذي كافأه السادات بعد أن ساعده في التغلب على خصومه من مراكز القوى، وعينه في منصب حساس ومهم للغاية كمنصب المدير العام لمكتب الرئيس بدلًا من سامي شرف، هكذا صار مروان الذي كان مهمشًا في عهد صهره، مدير مكتب الرئيس الجديد، وبالتالي أصبحت قدرته على الوصول لأخطر أسرار الجيش المصري لا محدودة.
جعل مروان سياسة مصر الداخلية وأدق أسرارها العسكرية كتابًا مفتوحًا أمام قادة الموساد، وفعل نفس الأمر وفتح سياستها الخارجية أمام الاستخبارات “الإسرائيلية”
تعاظمت قيمة مروان كجاسوس لدى الموساد كثيرًا بعد إطاحة السادات بخصومه، وذلك على الرغم من فشله في إدارة إمبراطورية سامي شرف ليستقر عمله في النهاية كمبعوث خاص للرئيس إلى قادة العالم العربي.
يقول جوزيف إن وضع مروان الجديد أدى إلى نشوء حالة استثنائية في تاريخ الجاسوسية: مساعد مباشر لقائد دولة تستعد للهجوم على عدوها يعمل جاسوسًا لمصلحة هذا العدو.
خطة العبور في يد الموساد
في نهايات 1971 تقابل مجددًا مائير ومروان، الذي نفذ المهمة التي طلبها منه مائير بنجاح، مستغلًا موقعه الجديد الحساس، وأحضر معه وثائق شديدة الخطورة.
الأولى تخص الخطط الموضوعة لعبور قناة السويس، والنصوص الفعلية لأوامر القادة المُعدة للعبور، وكانت تتضمن كل التفاصيل بشأن الطريقة التي سيهاجم بها المصريون، وتتضمن أيضًا شرحًا يخص القوات التي ستبني الجسور والمواقع التي ستتخذها ومن سيعبر أولًا ومن الذي سيتبعه وتفصيلات عديدة أخرى.
الوثيقة الثانية التي أعطاها مروان لمائير كانت أمر المعركة لكامل قطاعات الجيش المصري، وكانت تتضمن بنية الجيش ولوائح بأسماء القادة وعدد الفرق وأسماء قادتها، والأسلحة المخزنة في المستودعات، ولوائح مفصلة عن الطائرات الحربية ومواقع أسراب طائرات القوى الجوية، وتفصيلات واسعة بشأن جميع الوحدات العاملة في الجيش المصري.
لقد سلّم مروان الموساد أسرار مصر العسكرية الأكثر حساسية، وهو ما لم تكن تحلم به الدوائر الاستخباراتية الإسرائيلية، هذه الوثائق محفوظة اليوم في 4 مجلدات ضخمة في أرشيف الموساد، وهي لا تتضمن فقط الوثائق وترجمتها العبرية، بل أيضًا توثيقًا لانطباعاته الشخصية عنها والتي تُعرف باسم “تقييم المصدر”، وتغطي موضوعات غير عسكرية مثل اجتماعات الحكومة لدراسة التحديات الاقتصادية وإعادة هيكلة قوات الشرطة، وتفصيلات أخرى عديدة ساعدت ضباط الاستخبارات الإسرائيلية على تكوين فكرة جيدة عن الحياة في الدوائر العليا للمجتمع المصري.
المعلومات التي كان يعطيها مروان للموساد كان لها أثرًا أيضًا على العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية
أما المعلومات العسكرية التي قدمها مروان للموساد، مستغلًا إنابة السادات له، فكانت تخص أمور حساسة، مثل النقاشات داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة واجتماعات قيادات الجيش، أحاديث كبار القادة ونظرائهم السوفييت واللقاءات الرسمية مع الدول العربية بما فيها لقاءات القمة ومقابلات السادات مع القادة الأجانب خلال رحلاته للخارج.
وثائق أخرى خطيرة
كما جعل مروان سياسة مصر الداخلية وأدق أسرارها العسكرية كتابًا مفتوحًا أمام قادة الموساد، فعل نفس الأمر وفتح سياستها الخارجية أمام الاستخبارات “الإسرائيلية”، على سبيل المثال قدّم مروان للموساد معلومات تفصيلية بشأن التعاون المصري السوفييتي، لم تقتصر على الحوارات بين السادات والقادة السوفييت، بل تضمنت شرحًا مفصلًا عن اللقاءات على المستوى الأدنى بين وزراء الدفاع وقادة الجيش ورؤساء الاستخبارات، من خلال هذا المعلومات عرف الموساد ما يدور في عقل المصريين وعقل الكرملين أيضًا.
أخطر مثال على حجم المساهمة التي قدمها مروان للاستخبارات “الإسرائيلية” لمساعدتهم في اختراق العلاقات المصرية السوفييتية، تسليمه الموساد وثيقة بمحضر اجتماع السادات وبريجينيف في موسكو، أكتوبر 1971، من خلال هذه الوثيقة – التي تضمنت معلومات قيمة ومتماسكة بشأن صفقات الأسلحة بين الطرفين – كون “الإسرائيليون” فكرة واسعة عن تحضيرات مصر للحرب ورأي السوفييت بها وطبيعة العلاقات بين البلدين.
المعلومات التي كان يعطيها مروان للموساد كان لها أثرًا أيضًا على العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان الموساد يرسل أحيانًا تقارير إلى CIA” “;بناء على معلومات مروان الاستخباراتية، بعد أن يتم تحريرها بعناية بحيث يصبح من المستحيل تحديد مصدرها وذلك للحفاظ على سرية هوية كنز “إسرائيل”.
***
في الحلقة القادمة سنقف على طبيعة الدور الذي قام به أشرف مروان في حرب أكتوبر، وكيف أنقذ “إسرائيل” من هزيمة ساحقة على يد الجيش المصري، كما يروي مؤلف “الملاك”.