في واقع الأمر الشخص الذي نتحدث عنه ببساطة هو الرجل الذي استغل عقول الناس اللاوعية وحولها إلى صناعة مزدهرة تدر ملايين الدولارات من الأرباح في جيوب شركات الرأسمالية، ليس في الولايات المتحدة فقط، بل في العالم كله، ذلك الرجل هو الأب الروحي للعلاقات العامة “إدوارد بيرنيز”.
ربما اخترع “فرويد”، عالم النفس وصاحب النظريات النفسية الأساسية، نظريات تُفسر النفس الإنسانية ورغباتها واحتياجاتها وحتى أحلامها، إلا أن ابن أخته “إدوارد بيرنيز” هو من جمّع كل ما سبق، ووضعه في سلسلة من العمليات التجارية في السوق العالمي، وتلاعب بعقول البشر وعواطفهم من خلال نتائج التحاليل النفسية الخاصة بفرويد، وأقنع المستهلكين بأنهم يحتاجون شراء ذلك، البعض أراد أن يُتم عملية الشراء في هدوء، ولكن البعض الآخر لم يستطع، ومن هنا خرج الوجه الآخر للعلاقات العامة، أو بمعنى أدق الوجه الحقيقي، وهو ما يُسمى بالبروباجندا.
ما الذي يجمع النازي “جوزيف غوبلز”، وزير الدعاية السياسية في عهد “هتلر” بالرئيس الأمريكي الثلاثين للولايات المتحدة “كالفين كولدج” و الشركة العالمية “بروكتر وغامبل” و محطة سي بس إس التلفزيونية، وشركات التبغ والسيارات الأمريكية، يجمعهم “إدوارد بيرنيز” نفسه.
مشاعل الحرية
بيرنيز كسر “التابو” أو استهجان تدخين المرأة في الأماكن العامة وحوله إلى ظاهرة اجتماعية مقبولة ليخدم مصالح شركات التبغ
لعل مثال “مشاعل الحرية” هو المثال الأبرز، في العقد الثاني من القرن العشرين، كان التدخين حكراً على الرجال، فيما ينظر المجتمع بريبة إلى المرأة المدخنة، جورج واشنطن هيل، رئيس الشركة الأمريكية للتبغ، كان يعرف الربح الذي ينتظره إذا وسع سوقه ليشمل الجنس الآخر أيضاً، لذا، استعان بخدمات المستشار في مجال البروباغاندا، ادوارد بيرنيز.
أطلق الأخير حملة “مشاعل الحرية”، إذ استأجر عارضات أزياء، وسار بهنّ في مكان عام وهنّ يدخنّ واتصل بالصحافة وقال لهم أن هناك تحرك نسوي حقوقي، وفعلاً، انتشرت صور التحرك على أنه “تحرر نسوي” من القمع الذكوري لحق المرأة في التدخين، وسمّى السجائر في فم النساء المشاركات باسم مشاعل الحرية، فانتشرت الكلمة على أنها رمز “الثورة”، وفي نفس العام الذي نجحت فيه حملته، ارتفعت نسبة استهلاك النساء للسجائر من خمسة بالمئة، إلى إثني عشر بالمئة، وربما تضاعفت تلك النسبة لمئات الأضعاف مقارنة بعدد سكان العالم من النساء المستهلكات للتبغ الآن.
خرج “بيرنيز” بمفاهيم عالمية بخصوص علم العلاقات العامة أو في سياق آخر “البروباجندا”، مثل هندسة الإجماع، أو هندسة الموافقة، كلمات خرج بها بيرنيز، من أفكار فرويد، تحولت فيما بعد إلى ركن من أركان العمل السياسي البروباغاندي حول العالم، فإذا كان النازيون قد شرحوا علناً كم تأثروا بـ “بيرنيز”، فإن الشركات الأمريكية، وإمبراطوريات الإعلام التي تصنع الخبر الذي نهتم به ونستهلكه دون غيره، تحب بيرنيز حبًا جمًا أيضًآ.
ربما لن تتخيل أن يكون “بيرنيز” له دخل في وجبة فطورك، إلا أنه له أثر بكل تأكيد، “بيرنيز” عمل في الكثير من الشركات المختلفة التي تنتج مختلف المنتجات، من السيارات إلى التبغ إلى المنتجات الغذائية إلخ، إذ تنافست الشركات على تعينه مستشارًا لهم في العلاقات العامة
والآن، لنفكر جيدًا في الإعلانات والصور والمقاطع والرسائل التي نقرأها يوميًا، ونرى كيف يعيش إدوارد بيرنيز بالفعل تحت جلودنا، على الرغم من من اختراعه لعلم العلاقات العامة منذ ما يقرب من قرن مضى.
هدف البروباجندا هو اكتساب المؤيدين، وهدف المنظمات هو اكتساب مزيد من الأعضاء المنتمين لها، وإذا اجتمعت المنظمة أو المؤسسة مع الميكانيكية الدعائية أو البروباجندا، فهذا يعني انتصارًا للأفكار التي تود تلك المؤسسات أو الشركات تسويقها وإقناع العامة بها، هكذا عملت الشركات في وقت “إدوارد بيرنيز” وهكذا استمرت إلى اليوم على الرغم من وفاته في منتصف التسعينات من القرن الماضي بعد تاريخ طويل من العمل في البروباجندا السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
الفطور أهم وجبة في اليوم
إذا عدنا بالزمن للوراء، سنجد أن البشر قبل الثورة الصناعية كانوا يأكلون أي شيء يجدونه أمامهم بالنسبة لوجبة الفطور، وهو ما يكون في الأغلب ما تبقى من وجبات اليوم الذي سبقه، وبمرور الزمن وبعد الثورة الصناعية وزيادة وعي الناس بأمورهم الصحية، تحول البشر من آكلي أي شيء في الصباح إلى من يتناولون بعض الوجبات الخفيفة، ومن ثم بدأ الأغلبية في الانخراط في ساعات العمل الطويلة التي تبدأ في الساعات الأولى من الصباح الباكر، وعليه يجب أن تكون وجبة الفطار سريعة، فاتجه الناس إلى أسرع مكونات الطعام تحضيرًا بالنسبة لوجبة الفطور، ومن هنا كانت وجبة البيض المقلي أو المسلوق أكثر الوجبات الشائعة بالنسبة للفطور.
قام بيرنيز بنشر الدراسة علنًا، و أضاف إليها أن الفطور هو أهم وجبة يتناولها الإنسان يوميًا، وهو المفهوم الذي لم يتواجد قط قبل بيرنيز
ربما لن تتخيل أن يكون “بيرنيز” له دخل في وجبة فطورك، إلا أنه له أثر بكل تأكيد، “بيرنيز” عمل في الكثير من الشركات المختلفة التي تنتج مختلف المنتجات، من السيارات إلى التبغ إلى المنتجات الغذائية إلخ، إذ تنافست الشركات على تعينه مستشارًا لهم في العلاقات العامة أو الدعاية بعد تحقيقه نسبة أرباح خيالية لكل شركة عمل بها، وكانت إحدى تلك الشركات هي الشركة التي تبيع اللحم المقدد.
البيض مع اللحم المقدد، هو الفطور الذي يتناوله كل أمريكي في الولايات المتحدة تقريبًا وصولًا إلى كونه الفطور الشائع في البلاد الأوروبية وأستراليا، حينها تعاون “بيرنيز” مع مجموعة من الأطباء على إثبات دراسة علمية تشير إلى أهمية تناول كمية كافية من البروتين في الصباح من كل يوم، وهو ما يتمثل في البيض جنبًا إلى جنب مع اللحم المقدد وهو في حالة البلاد الغربية يكون لحم الخنزير.
قام بيرنيز بنشر الدراسة علنًا، و أضاف إليها أن الفطور هو أهم وجبة يتناولها الإنسان يوميًا، وهو المفهوم الذي لم يتواجد قط قبل بيرنيز، حينها استطاعت شركة اللحم المقدد رفع نسبة أرباحها من بيع اللحم المقدد عالميًا، لنراه إلى يومنا هذا على طاولة الفطور في كثير من البلاد، فلا تخلو طاولة فطور منه فستلاحظ ذلك إن قمت بالانتباه إلى طاولة الفطور في أفلام هوليود أو الأفلام الغربية بشكل عام.
النحيفة والبدينة كلهن جميلات
الهدف الأساسي من حملات كتلك لا تنتهي بالحد من التمييز العنصري أو التنمر على النساء البدينات في العالم، بل تنتهي بمزيد من الأرباح والمكاسب في جيب الشركة
هذه العبارة طالما تستخدمها محلات عرض ملابس النساء الداخلية، في إشارة منهم للدفاع عن جسد المرأة ضد التمييز العنصري تجاهها، خصوصًا النساء البدينات منهن، ولهذا تخرج العديد من شركات بيع الملابس الداخلية والمنزلية للنساء ومنها “فيكتوريا سيكريت” بالعديد من العروض تستخدم فيها عارضات أزياء بدينات بعض الشيء تحت شعار “لا يهم أن يكون جسد المرأة بدينًا أو نحيفًا فكل النساء جميلات في كل الأحوال”، إلا أن الهدف الأساسي من حملات كتلك لا تنتهي بالحد من التمييز العنصري أو التنمر على النساء البدينات في العالم، بل تنتهي بمزيد من الأرباح والمكاسب في جيب الشركة القائمة بالعرض أو الحملة.
خرجت منذ بضعة أيام حملة من إحدى الشركات المُختصة بالملابس المنزلية للنساء في إحدى شوارع مدينة لندن الأكثر ازدحامًا، بعرض مجموعة من الفتيات يسيرون مرتديات ملابس داخلية أنيقة وتبدو غالية الثمن، حاملين شعارًا لأن جسد المرأة جميل مهما كان شكله، إلا أن في الواقع لم تكن تلك إلا دعاية أو بروباجندا من الشركة العارضة مستغلة فيها تلك الفتيات لعرض منتجاتها بشكل مباشر في الشارع للمستهلكين بدلًا من عرضها على شاشات التلفزيون، والأكثر سخرية في الأمر أنه لم تكن هناك أي فتاة من بين العارضات بدينة الجسد، فقد اختارت الشركة فتيات لهن أجساد عارضات الأزياء لعرض منتجاتها.
البحث المستمر عن السعادة
على الرغم من اختلاف مفهوم السعادة من شخص لآخر، واختلاف طرق البحث عن السعادة بين البشر، إلا أن “بيرنيز” استطاع توصيف المنتجات المادية كجزء مهم من تلك السعادة، ووسيلة رئيسية في طريقة البحث إليها، ليستطيع في النهاية أن يقنع الجماهير بأساليبه المتلاعبة بعقولهم اللاوعية أن الحصول على تلك المنتجات بعينها يعني تحقيقهم لبعض من أحلامهم، وكأنهم يقومون بالتسوق لشراء الأحلام بالمال، ومع ارتباط بعض المنتجات بالمكانة الاجتماعية في المجتمع، ورفع بعض المنتجات أصحابها من مكانة أقل إلى مكانة مرموقة أكثر لتصبح الثقافة الاستهلاكية، التي كانت مبادئ بيرنيز الخاصة بالبروباجندا أو الدعاية هي الوقود الأساسي لها، هي السبيل الوحيد لتحقيق السعادة والرضا عن النفس.
لقد باعت أفكار بيرنيز أكثر بكثير من التبغ أو السيارات أو ملابس النساء المنزلية، حيث باعت أفكار خاصة بتشكيل الرأي العام تجاه أي فكرة سواء كانت مفيدة للجنس البشري أم لا
هناك منتجات بعينها تزيد من مكانة صاحبها الاجتماعية، كمن يمتلك أحدث هواتف آبل الذكية مقابل من يمتلك هواتف سامسونج المُنتجة قبل بضعة سنوات من الآن، أو من يمتلك حذاء ماركة “نايك” (Nike) مقارنة بحذاء رياضة عادي بدون علامة تجارية، أو من يجعل من ستاربكس المكان الوحيد الذي يشرب فيه قهوته الصباحية بدلًا من زيارة أماكن القهوة المحلية، ذلك وأكثر من ضمن الثقافة المادية أو الاستهلاكية التي أقنع بيرنيز الجماهير بأنها السبيل للرضا والسعادة.
لقد باعت أفكار بيرنيز أكثر بكثير من التبغ أو السيارات أو ملابس النساء المنزلية، حيث باعت أفكار خاصة بتشكيل الرأي العام تجاه أي فكرة سواء كانت مفيدة للجنس البشري أم لا، حيث ساعد بيرنيز من خلال دعايته السياسية في سقوط بعد الأنظمة السياسية، و بزوغ بعضها للنور، فكان دونالد ترامب الرجل الوحيد الذي استفاد من ريادة الأعمال والتجارة العالمية ومبادئ الرأسمالية والبروباجندا الخاصة بتشكيل الرأي العام في مساره السياسي الذي آل به إلى الرئاسة الأمريكية.
اليوم قد يُسمى بيرنيز رائدًا من رواد العلامات التجارية والعلاقات العامة، ولكن في الجوهر، لم يكن بيرنيز إلا رائد لبعض التقنيات القادرة على السيطرة على الجماهير، والتلاعب في قدراتهم على اختيار قرار ما، لتسيّيرهم في مسار اُختير لهم في الأصل، وجعلهم فقط أدوات لتحقيق رغبات لا علاقة لها برغباتهم الأصلية.