لهذه البلاد المتاخِمة لكبريات الإمبراطوريات الشرقية منذ زمن، والمحاطَة غربا وشمالا وجنوبا بأعتى الأمم منافَسَةً لأمريكا وحِلْفها في السياق الراهن؛ جذور تاريخية عريقة، وتقلُّبات بين الماضي والحاضر وَسَمَتها بخصوصيات نادرة. ونظرا لتعدُّدِ مُكوِّناتها الإثنية ونسيجها الاجتماعي المتنوِّع؛ فقد كان الإسلام الطَّارِقَ الأوَّلَ لباب “بورما” منذ أزيد من 14 قرنا، حيث بادرت ثلة مِن الصحابة الكرام بقيادة (سعد بن أبي الوقاص) على اقتحام تخوم الشرق الأسيوي وصولًا إلى خليج البنغال؛ حيث استقرَّ بهم المقام زمنا بهذه الديار خلال القرن الأوَّل الهجري، فانتشر الإسلام بين الأهالي، وارتَضت الأكثرية الدِّين الجديد، وباشَرت نَشره والدعوة إليه، وصار منذ ذلكم الحين يُشكّل أبرز الروافد بالبلاد، وساهم في تأسيس أوَّل دولة إسلامية هناك ابتداءً من سنة 1430م.
توالت الحِقب وتتالت معها الأسَر الحاكمة؛ وفي كلّ الأزمنة كان مسلمو الروهينجا الثَّابت الأبرز في مسار التاريخي البورمي العام، إلى أنْ اجتاحَت قبائل التّبت البوذية ذات الأصل الصيني الشّرس أرضَ بورما أواخر القرن 16م، فاسْتَوْطَنَتْ معظم التراب، وصار نفوذها يتعاظم مع الزمن، إلى أنْ شَكّلتْ أكثريةً سكانية ودينيةً، وقوة سياسية كذلك. لكن مع مطلع العام 1824؛ ستقع البلاد بمن فيها فريسة للاحتلال البريطاني، الأمر الذي جَعَل التَّشكيلات الاجتماعية على اختلافها تتوحَّد لمواجهة الاستعمار، وأبْلى المسلمون (الأقلية الـمُضطَهدة اليوم للأسف) بلاء عظيما وكافحوا في سبيل تحرير الوطن، كل الوَطن، مِن سنة 1860 (كقوة منظَّمة ومُسلَّحة) إلى غاية 1947م.
نالت بورما الحكم الذاتي ابتداء مِن 1938، إلا أنَّ الاحتلال كعادته في مختلِف البقاع التي احتلَّها، ظَلَّ يُناور ويماطِل دون إعطاء البورميين استقلالهم، وعمِل على تأليب الطوائف ضد بعضها، وتَقْوِيةِ شوكة البوذيين إذ كانوا في رأيه الطائفة الأكثر عددا والأوفر حظا لخلافتهم في قيادة البلاد، ثمَّ صادر الاستعمار أملاك المسلمين وطردهم مِن وظائفهم ووزعَّها على البوذيين، وحرّضَ قبائل (الماغ) الراديكالية ضد مسلمي (أركان) ففتكوا بما يزيد عن 100.000 مواطن روهنجي سنة 1942م..
العقلية العَسْكَرْتَارِيَة رَفَضَت مُخْرَجَات صناديق الاقتراع، ونَاوَرَت الشَّعْب لتأجيل الانتقال الدِّيمقراطي إلى حين إعداد الدُّستور.
ولم يغادر البريطانيون سنة 1948 حتى كانت الشَّحناء والخطط البتراء ضد مُسلمي الروهينجا وصلت أوجها!
سَيَفْتَحُ عهْد الاستقلال البلاد على أفق احترابيٍّ استبدايٍّ مُظلِمٍ، إذ سُرعان ما ستقوم الحكومة الشيوعية بتنفيذ مخطط (بَرمَنَة جميع الشعوب والأقليات في ميانمار)، باسِطَةً هيمنتها على أكبر إقليم في البلاد تقطنه الروهينجا منذ عصور، حتى صار المسلمون هناك يُنْسَبُونَ للإقليم؛ فيقال: “مسلمو أَرَكان”، الأمر الذي أثار مخاوف جَمَّة لدى أقلية مسلِمة ضعيفة الإمكانات والموارد والقدرات.
وما هي إلا سنوات قلائلُ على الاستقلال؛ حتى استولى الجيش على الحكم بانقلاب عسكري غاشم سنة 1962، فعطّل الحياة السياسية، وأعطب الأحزاب، وفرض حالة الطوارئ والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ودخَلَتْ مع عصر العسكر أقليةُ الروهينغا “زمن الجَمر والرصاص”، بحيث كانت عقيدة العسكر مَيَّالَةً إلى المكوِّنات الأخرى (البوذيين، المسيحيين، الهندوس، الكاتشين، الگارين،..)، ومناصِرَةً للقومية الأساس في بورما: البامار. كل هذه الذئاب مُجتمعة، وبتغطية من الجيش الحاكم؛ شُنَّت حملات التطهير والظلم في حق الشعب الروهنجي المسلم، ونُفّذت آلاف حالات التهجير والقتل والإنفاء في حقهم، الأمر الذي أزَّم العلاقة مع بلدان الجوار، وجَعل الأقلية الروهنجية كالمُعَلَّقة، لا هي مُطلّقة من أرضها الأصل التي توارثَتْها مُنذُ قرون، ولا مَصونةٌ حقوقها فوق تراب بنغلاديش، أو على حدودها على الأقل!
في ظِلِّ حُكْم العسكر دائما؛ ستظهر بوادر انفراج سياسي أواخر 1990، استِجابة لضغوط أحزاب الداخل، وتجاوبا پراغماتيا مع متغيِّرات الحالة الدولية.. فَتَمَّ تنظيم الانتخابات، وفازت المعارَضة ممثَّلَةً في حزب “الرابطة الوطنية للديمقراطية” بأغلبية المقاعد، إلا أنَّ العقلية العَسْكَرْتَارِيَة رَفَضَت مُخْرَجَات صناديق الاقتراع، ونَاوَرَت الشَّعْب لتأجيل الانتقال الدِّيمقراطي إلى حين إعداد الدُّستور.
وفِعْلًا؛ تم إعداد الدستور – الذي أخذ حيزا زمنيا امتد مِن 1993 حتى 2008 !! -، وأُجْريَ استفتاء شعبي يوم 10 ماي 2008، تَلاهُ تنظيمُ انتخابات تشريعية سنة 2010، فاز بها الحزب المدعوم مِن جبهة العسكر ومرتزقة الطائفة البوذية.. واستمر القتل وهدْر الكرامة واغتصاب حقوق الإنسان، وتواصَل مسلسل الاضطهاد في حق الروهينغا، وتأجيل التنمية والارتقاء بموارد البلاد المتنوعة وتحبيط أحلام امة تناهز 56 مليون نسمة!
الآن؛ بعد هذا الموجَز التاريخي — الراهني حول بورما وموقِع مأساة مسلمي الروهينجا؛ ما لُبُّ الإشكال في هذا الملف العويص؟ لماذا وصل الأمر إلى هذه المستويات القياسية في العنف والظلم والتهجير؟ لمَ هذا الضُّلوع الرهيب للحكومة البورمية وقوى الأمن والجيش والميليشيات البوذية، بشكل رسمي وعلني في أسوء كارثة إنسانية تحلُّ بأقلية مسلمة في القرن 21م؟
هل أضحت تمثل (ميانمار) بؤرة صراع النفوذ والمصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا من جهة؛ والصين من جهة أخرى؟
هل تُـنذِر المجازر العِرقية بشبح حرب أهلية مدمّرة، تُستَدْرَج فيها داعش لتشكيل (الجهاد البورمي) ضد البوذيين، وبالتالي دخول الصين على خط الدفاع عن بورما، وإشغالها بحرب استنزاف داخلية تَصرفها عن المنافسة الدولية على سيادة العالم، وتُدخلها في تجربة قاسية على غرار ما حدث للاتحاد السوڤييتي في خطيئة (أفغانستان) ؟
تستأنف قوى الأمن والجيش البورمي مسنوديَن بموافقة الحكومة الظالمة، وبتواطؤ مكشوف مع جماعات التِّبت البوذية الحقودة التنكيل بالروهينغا
أمْ لا يُعقَل أنْ تسعى أمريكا لتدمير دولة حليفة لها؟
أم تُرى هذه مجرَّد أسئلة شاردة!؟
المعلوم في نازلة الأقلية الروهينغية الأكثر اضطهادا في العالم باعتراف هيئة الأمم المتحدة؛ أنَّها أضحت اليوم – إلى جانب الحُجَج التي تَحشُدها حكومة بورما لتبرير مجازرها وحلولها التطهيرية في حق مسلمي أركان وراخين -؛ وجود نزاع سياسي بين حكومة ميانمار وحكومة بنغلاديش حولها، بحيث تُصرُّ ميانمار على فرضية شاذَّة مفادها أنَّ “أقلية الروهينغا” وافدةٌ بنغلاديشيةٌ على الأراضي البورمية منذ عصور، وبالتالي حان الوقت لتجد بنغلاديش حَلاًّ لهذه المشكلة الفائضة، وذلك بإدخال 10 مليون نسمة روهينغية إلى التراب البنغلاديشي، أو بناء منطقة عازلة لإيوائهم أو أيّ “مَخرج” آخر.
في حين تَنفي حكومة بنغلاديش هذه الفرضية، وتترافع ضد حلول ميانمار، مُؤكِّدَةً على أنَّ مسلمي الروهينغا أصلٌ ثابت في أرض بورما، ومكوّن إثني قديم – جديد.. نعم؛ ثَـمَّةَ عناصر بنغلاديشية الأصل ضمن الأقلية الروهينغية، كما هو الحال مع باقي الدول الأخرى التي تحتضن أراضيها أقليات من مناطق متعدِّدة، تماما كما أنَّ مسلمي الروهينغا خليط مِن أصول بورمية وعربية – حجازية وهندية وصينية وبنغلاديشية؛ مما يصير معه التجاوب مع المقترحات الراديكالية للحكومة البورمية أمرا غير مُستساغ؛ وحالة شاذة على المستوى الدولي.
مِن ناحية أخرى؛ وإغراقا في التصلّب والتعصّب، وإمعانا في إحراج المنتظَم الدولي (المنافق أصلا)؛ تستأنف قوى الأمن والجيش البورمي مسنوديَن بموافقة الحكومة الظالمة، وبتواطؤ مكشوف مع جماعات التِّبت البوذية الحقودة التنكيل بالروهينغا، بشكل أكثر فظاعة مما فعلته عامَيْ 2012 و 2015، ومحوّلة الوضع إلى مأساة إنسانية يندى لها جبين الأحياء.. والمجتمعات العربية والغربية بين مُصدِّق ومُكذِّب لما يَرى ويَسمع ويَصله من فُتات اللقطات التوثيقية والتغطيات الإعلامية للمذابح البورمية في حق الأقلية الروهنغية، حتى ليكاد هؤلاء البؤساء المعذّبين في الأرض يصيروا – أو هم كذلك فعلا – خارج قارة التضامن الإنساني..! والأمم المتَّحِدة عجوز شائخة، فاقدة للسمع والبصر، وأمينها العام يواصل سَن سياسة “إبداء القلق” على نهج سلفه، رغم كون (غوتيرييس) تولى منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ما بين 2005 و 2015م، وفي فترة ولايته شهدت الحدود البنغلاديشية – البورمية التدفق الهائل للمُهَجَّرين الروهينغا، وتشهد اليوم نزوح آلاف السكان دونما تَوَفُّر مقومات اللجوء أو خطة أممية للاجئين.
توقيف الاتفاقيات المبرَمة على المستوى العسكري واقتناء السلاح ( مع العِلم إسرائيل ممول رئيسي لبورما في مجال الأسلحة !
فما الحل الأنجع لردع جمهورية اتحاد ميانمار، وتقليص حجم الخسائر في حق قومٍ {ما نَقموا منهم إلا أن يُؤمنوا بالله العزيز الحميد}؟!
ما الحل..!
سحب جائزة نوبل للسلام من المجرمة الدموية “أونغ سان سو تشي”، ومحاكمتها والطغمة العسكرية الغاشمة!
تجميد العلاقات الدبلوماسية مع بورما مِن قِبل مختلف الدول التي تعتمد سفارات بينها وبين الحكومة البورمية!
تعطيل عضوية ميانمار في هيئة الأمم المتحدة!
طَردُها من عضوية اتحاد آسيان!
تجريدها من عضوية “البنك الدولي للإنشاء والتعمير” و”بنك التنمية الأسيوي” و”مؤسسة التنمية الدولية” و”وكالة ضمان الاستثمار متعدّد الأطراف” وغيرها من الهيئات..!
توقيف الاتفاقيات المبرَمة على المستوى العسكري واقتناء السلاح ( مع العِلم إسرائيل ممول رئيسي لبورما في مجال الأسلحة !
تشكيل حِلف سياسي إغاثي تكون أطرافه الأساسية: ماليزيا، إندونيسيا، تركيا؟!
أم لا ندري أشَـرٌّ أُريدَ بِمَن في الأرضِ أمْ أرادَ بِـهِم ربُّهم رَشـَدًا؟ !
لنتابِع مُجريات الأحداث، ومواقِف البعض، علَّ انفراجاً يظهر في الأفُق، أو مزيداً من الضَّيق يُحيطُ بالأقلية الأكثر اضطهادا في العالم