أثارت تصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري، السبت 17 فبراير/شباط 2024، بشأن حركة المقاومة الإسلامية حماس الكثير من الجدل، وذلك حين وصفها بأنها “خارج الإجماع الفلسطيني، ويجب محاسبة من عمل على تعزيز حضورها وتمويلها”، على حد قوله.
التصريحات جاءت ردًا على تعليق من وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، بشأن استحالة السلام في ظل وجود حماس، وذلك على هامش جلسة حوارية ضمن فعاليات مؤتمر ميونخ للأمن، بحضور وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان.
وأضاف شكري خلال الجلسة التي عقدت تحت عنوان “نحو الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط: تحدي وقف التصعيد”: “يقيناً أن حماس كانت من خارج الأغلبية المقبولة للشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية والاعتراف بإسرائيل والتوصل إلى تسوية ورفضهم التنازل عن دعم العنف، ولكن يجب أن تكون هناك محاسبة: لماذا تم تعزيز قوة حماس في غزة، ويتم تمويلها في القطاع من أجل إدامة الانقسام بين حماس وبقية الكيانات الرئيسية الميالة لصنع السلام الموجودة، سواء السلطة أو فتح أو الرأي العام؟ أعتقد أن هذه القضية تم إهمالها، ويجب معالجتها أيضاً”.
تغطية صحفية: وزير الخارجية المصري، سامح شكري: "حـــماس خارج الإجماع الفلسطيني". pic.twitter.com/8RoWovStG5
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) February 18, 2024
ربما لم تكن التصريحات مفاجئة لكثير من المتابعين، في ظل العداء الواضح بين النظام المصري الحالي وحركات المقاومة الفلسطينية من جانب، والتماهي المعروف مع السردية الإسرائيلية منذ بداية الحرب على غزة في 8 أكتوبر/تشرين الماضي، من جانب أخر في ضوء العلاقات الحميمية بين البلدين خلال السنوات الأخيرة.
غير أن التصريح علانية بتلك الخصومة والكشف عن الموقف المناوئ للمقاومة في هذا التوقيت الحرج والحساس حيث حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال ضد أكثر من مليوني مواطن في غزة، تطور يُلقي بكافة أوراق الضغط التي يفترض أنها بحوزة مصر على الأرض، وينسف مقاربات القاهرة إزاء هذا الملف برمته، ويمنح الاحتلال ضوءً أخضر لممارسة كافة ما يريد، في كافة مناطق القطاع، بما فيها رفح الحدودية مع مصر، دون أي حسابات أو اعتبارات للقاهرة.. فهل أسقط شكري ورقة التوت عن نظام السيسي إزاء القضية الفلسطينية التي طالما تشدق بالدفاع عنها ودعم حقوق الفلسطينيين؟
أوراق الضغط المصرية
تقول علوم السياسة والاستخبارات العسكرية أن كل دولة خلال أوقات الأزمات تحاول قدر الإمكان أن تمتلك أكبر قدر ممكن من أوراق الضغط ضد كافة الخصوم، بل في بعض الأحيان ضد الحلفاء لاسيما وإن كانوا من خارج السياق التاريخي والعقدي والفكري لتلك الدولة، وتتنوع تلك الأوراق ما بين أوراق حقيقية فعلية وأخرى مفتعلة.
وفي المشهد الفلسطيني وأمام الانتهاكات التي تمارسها قوات الاحتلال وتهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر ومن النقطة صفر، تمتلك القاهرة حزمة من أوراق الضغط التي ربما تحتاج إليها للدفاع عن أمنها الحدودي المنتهك أكثر من مرة بأيدي حليفها الإسرائيلي، ناهيك عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
وتتصدر أوراق الضغط تلك معاهدة السلام المبرمة مع الاحتلال عام 1979 كونها الأرضية التي هيأت الأجواء لقبول الكيان المحتل عربيًا، كذلك موقع القضية الفلسطينية من قائمة أولويات الأجندة المصرية كونها القضية العروبية الأهم، وعليه يفترض أن تكون القاهرة هي الظهير السياسي والعسكري الأكثر دعما للفلسطينيين في مواجهتهم مع الاحتلال، حتى وإن لم يتم الإعلان عن ذلك بشكل رسمي.
ومنذ الحرب، وخلال الأيام الأخيرة تحديدًا، تناقلت بعض وسائل الإعلام الغربية أخبار تفيد باضطرار مصر اللجوء إلى أوراق الضغط تلك لإثناء الاحتلال عن اجتياح رفح بريًا بجانب الدفع نحو تهدئة دائمة ووقف إطلاق النار في القطاع، وهي التقارير التي أحدثت حالة من الجدل لدى الشارع العربي والإسرائيلي على حد سواء.
هددت #مصر مرارا بتعليقها حال أجبرت إسرائيل الفلسطينيين في #غزة على التهجير إلى #سيناء.. تعرف على بنود اتفاقية السلام الموقعة عام 1979#الحدث pic.twitter.com/AUpgqr4XRu
— ا لـحـدث (@AlHadath) February 12, 2024
في العاشر من فبراير/شباط الجاري نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عما قالت إنهم مسؤولون مصريون قولهم إن القاهرة حذرت دولة الاحتلال بتعليق اتفاقية السلام المبرمة معها في حال شنت عملية برية في رفح، وهي الورقة الأربح بأيدي مصر في هذا الملف بحسب البعض والتي طالب بها الكثيرون على رأسهم نقابة الصحفيين المصريين.
وفي الثاني عشر من الشهر ذاته نقلت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية تصريحات لوزير المالية الإسرائيلي المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، اتهم فيها مصر بدعم حماس بالأسلحة والذخيرة عبر الحدود، لافتا أنها “تتحمل مسؤولية كبيرة عما حدث في 7 أكتوبر”.
ومنذ بداية الحرب وتؤكد مصر، قيادة وحكومة وإعلام وأحزاب وأفراد، على رفضها فكرة التهجير لسيناء، كونها الخطوة الأولى نحو إنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها بشكل رسمي، مشددة على أن مقترح التهجير مرفوضا بكل المقاييس وبكافة الأشكال مهما كانت الضغوط.
شكري يطيح بها
بصرف النظر عن دقة ما تردد في وسائل الإعلام أو على ألسنة وزراء الحكومة الإسرائيلية بشأن استخدام القاهرة لأوراق الضغط التي بحوزتها لإجبار دولة الاحتلال على التراجع عن مخططاتها التدميرية بحق ما تبقى من القطاع وإعادة النظر في القيام بعملية برية موسعة في رفح، إلا أن وزير الخارجية المصري سامح شكري، أطاح بكل تلك الأوراق، الحقيقية منها والمفتعلة، على الأرض.
فيما يتعلق بدعم مصر للمقاومة وتزويدها بالسلاح، حتى وإن كان تصريح مفتعل بهدف الضغط على القاهرة لممارسة ضغط مماثل على حماس لتقديم تنازلات على طاولة المفاوضات، إلا أن تلك الورقة التي كان يمكن للجانب المصري اللعب بها بالصمت والمواقف السياسية، أطاح بها شكري بتصريحه الأخير الذي طالب فيه بمحاسبة كل من عمل على تعزيز حماس وتمويلها، وهو التصريح الذي يطمئن إلى حد ما صناع القرار في الداخل الإسرائيلي بشأن الفجوة بين نظام السيسي والمقاومة الفلسطينية.
أما عن ورقة التلويح باتفاقية السلام، فبعد يومين فقط مما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، خرج وزير الخارجية المصرية في 12 من الشهر الجاري ليؤكد التزام بلاده بمعاهدة السلام مع إسرائيل والاستمرار بها وأنها بعيدة عن خارطة المساومات والضغوط، كما جاء على لسانه خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزيرة خارجية سلوفينيا في العاصمة السلوفينية ليوبليانا.
وبشأن مسألة رفض التهجير من قطاع غزة لسيناء مهما كانت الضغوط، وهي المسألة التي أكد عليها شكري أكثر مرة، لكنه في مؤتمر ميونيخ ألمح بشكل غير مباشر لاحتمالية التعاطي مع هذه القضية حين علق على ما أثير بشأن بناء مراكز إيواء في الأراضي المصرية على الحدود الفلسطينية، حيث جدد رفض فكرة التهجير لكنه في الوقت ذاته قال “”أذا فرض علينا الأمر الواقع سنتعامل مع الوضع ونقدم الدعم الإنساني” وهو التصريح الذي فتح الباب على مصراعيه أمام ما سماه البعض “صفقة القرن” في إشارة إلى ضغوط تتعرض لها مصر بشأن قبول أعداد من الفلسطينيين في سيناء نظير حصولها على مبلغ مالي كبير يصل إلى 250 مليار دولار كما جاء على لسان الإعلامي والبرلماني المقرب من السلطة مصطفى بكري.
وكانت مؤسسة سيناء الحقوقية الخاصة قد كشفت بناء على صور خاصة بها عن شروع النظام المصري ببناء، منطقة أمنية عازلة محاطة بأسوار لاستقبال لاجئي غزة، ناقلة عن اثنين من المقاولين المصريين العاملين في تلك المنطقة “إن أعمال البناء التي حصلت عليها شركات محلية من الباطن بتكليف من شركة “أبناء سيناء” للتشييد والبناء المملوكة لرجل الأعمال المقرب من السلطة إبراهيم العرجاني، تهدف لإنشاء منطقة محاطة بأسوار بارتفاع 7 أمتار، بعد إزالة أنقاض منازل السكان الأصليين التي دمرت خلال الحرب على “الإرهاب”، وتمهيد التربة وتسويتها، على أن تنتهي هذه الأعمال في أقصر وقت ممكن لا يتجاوز العشرة أيام”، وهي المعلومات التي نفاها الجانب المصري وتأرجحت التفسيرات بشأنها.
مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان تقول إن السلطات المصرية تعمل على إنشاء منطقة أمنية معزولة محاطة بأسوار يبلغ ارتفاعها 7 أمتار شرق سيناء، بهدف استقبال لاجئين من غزة في حال حدوث عملية نزوح جماعي من سكان القطاع pic.twitter.com/nhtWwWNF4h
— شبكة رصد (@RassdNewsN) February 14, 2024
نسف مقاربات مصر إزاء الحرب
ليس كل معلوم يُقال، وليس كل أيديولوجي يمكن أن يكون سياسي، وليس ما يقال وقت السلم يمكن الإفصاح عنه أوقات الحروب والأزمات.. هكذا تقول نظريات السياسة التي تضع لكل مرحلة أبجدياتها ومنطلقاتها ومقارباتها، التي قد تتعارض أو تتفق مع الأيديولوجيات العقدية والسياسة والأمنية.
لا يخفى على أحد خصومة نظام السيسي لحماس والجهاد وكل الفصائل القادمة من رحم الإسلام السياسي، وهو الموقف ذاته لبعض الأنظمة الخليجية كالسعودية والإمارات والبحرين تحديدًا، لكن تلك الخصومة المعروفة للجميع بما فيهم الإسرائيليين، كان يجب أن توضع في ثلاجة التجميد المؤقت منذ بداية الحرب على غزة، حيث ضرورة التكاتف على موقف واحد لدعم المقاومة في حربها المقدسة ضد الاحتلال الذي لا يراعي أي اعتبارات لحلفاءه العرب.
وبدلا من إظهار اللحمة العربية ووحدة الموقف إزاء المقاومة من أجل ممارسة الضغط على الاحتلال، إذ بعقد الحكومات العربية ينفرط واحدة تلو الأخرى نهشًا في جسد حماس وأشقائها، غير أن هذا النهش كان حكرًا على منصات التواصل الاجتماعي واللجان التي تتحرك بالأمر المباشر من صناع القرار في الدوائر السلطوية لتلك الأنظمة.
اللافت هنا أن القاهرة ولأول مرة منذ الحرب تفصح علانية – على لسان وزير خارجيتها- عن موقفها المناوئ لحماس، بل والمطالبة بمحاسبة من مولها وساعدها على تعزيز نفوذها، وهي التصريحات التي لا يمكن أن تكون اعتباطية دون التنسيق مع رأس هرم السلطة في قصر الاتحادية.
مثل تلك التصريحات تنسف بشكل كامل مقاربات مصر إزاء الوضع في غزة منذ الحرب، وتزيد من شكوك التآمر والتواطؤ التي تتعرض لها بشأن تورطها في حصار القطاع وتعميق معاناة الفلسطينيين من خلال غلق معبر رفح، وهي الاتهامات التي كشف عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن وممثل لجنة الدفاع الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية قبل ذلك، حين أكدوا أن مصر هي المسئولة عن معبر رفح وتقديم المساعدات لقطاع غزة وأن السيسي نفسه رفض فتح المعبر لولا إقناع بايدن.
وإن كانت تلك الاتهامات محض شكوك لدى الشارع المصري والعربي، كونها أحاديث مرسلة غير موثقة، في ظل النفي المصري لها، فإن تصريحات وزير الخارجية المصري الأخيرة، تزحزح بشكل كبير تلك الشكوك إلى مناطق التثبت والتيقن، وهو ما يضع النظام المصري في مأزق أخلاقي وسياسي غير معهود، ويحوله إلى شريك مباشر في جرائم الإبادة التي يتعرض لها سكان القطاع.
وتعليقًا على تلك التصريحات يتساءل السفير المصري محمد مرسي “عما إذا كان من المناسب في خضم هذه المواجهة مع الاحتلال إعلان أو إعادة إعلان موقفنا من حماس ودورها”، مطالبُا بضرورة رسم خطوط فاصلة تحدد بشكل واضح علاقة مصر بحماس وحدودها وضوابطها “وما يتماسَّ معها كذلك وبالضرورة من تعريفات خاصة بمعاني المقاومة وتعريفات الإرهاب وحرب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ومن هو العدو ”
ويرى الدبلوماسي المصري أن هذا الوضع لا يليق بمصر ودورها في دعم قضية العرب المركزية، لاسيما وأن حماس في مواجهة تاريخية اليوم مع المحتل، محذرًا من أن الانتهاكات الإسرائيلية بدأت تلامس حدود مصر الشمالية الشرقية وبدأت بالفعل في اختراقها.
وفي الأخير فإن تلك التصريحات في هذا التوقيت، ربما تكون ضوءَ أخضر للاحتلال بشن عملية عسكرية في رفح، مطمئنا لعدم اتخاذ أي رد فعل من القاهرة التي لن يكن لديها مانع في تدشين تفاهمات أمنية تسمح لجيش الاحتلال بالسيطرة على محور فيلادلفيا الحدودي كما أشارت وسائل إعلام عبرية، الأمر الذي يورط القاهرة ويضعها في مأزق حقيقي.. ، فهل هي بداية تواطؤ حقيقي في ملف رفح والتهجير كما تخوف المحلل الفلسطيني ياسر الزعاترة؟