يشارك رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في أعمال مؤتمر ميونخ للأمن بنسخته الـ59، ويأتي انعقاد الدورة الحاليّة للمؤتمر في ظل تحديات إقليمية وعالمية يشهدها النظام الدولي بالوقت الحاضر، بدءًا من الحرب في أوكرانيا وانتهاءً بالحرب في غزة، فضلًا عن أوضاع أمنية متوترة في العديد من المناطق، وقضايا أمنية عالمية بدأت تطرح نفسها على أجندة أعمال المؤتمر، أبرزها التغيرات المناخية والأمن السيبراني وحروب الفضاء وسباق التسلح والأمن غير التقليدي.
تأتي مشاركة السوداني بهذا المؤتمر في سياق عمليات الهجوم المتبادل بين الفصائل المسلحة الموالية لإيران والقوات الأمريكية، إلى جانب الجدل الدائر بشأن مستقبل الوجود العسكري الأمريكي، ومسارات العلاقة الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، خصوصًا أن مطالبات إنهاء الوجود الأمريكي تأتي بالتوافق مع استمرار انعقاد جلسات اللجنة العسكرية العليا بين البلدين، ففي الوقت الذي تطمح فيه الفصائل المسلحة والأطراف السياسية القريبة من إيران إلى إنهاء هذا الوجود، تظهر الإدارة الأمريكية إصرارًا واضحًا على البقاء في العراق.
لقاءات مهمة
في أثناء مشاركته بمؤتمر ميونخ للأمن، أجرى السوداني العديد من اللقاءات المهمة مع وفود رسمية لدول تعمل ضمن مظلة التحالف الدولي في العراق، تجاوز عددها 22 لقاءً، إلا أن الحدث الأبرز تمثل بلقاء جمع السوداني بنائب الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس، إذ أظهرت هاريس رغبة الولايات المتحدة البقاء في العراق، مع ضرورة الانتقال بالعلاقة من حالة محكومة بموجب اتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة بين البلدين في ديسمبر/كانون الأول 2008، إلى حالة محكومة بشراكة أمنية ثنائية دائمة، واعتبرت أن مثل هذه الخطوة قد تلعب دورًا في ترسيخ العلاقات بين البلدين على الصعد كافة، وليس الأمنية فقط.
مقابل ذلك، أكد السوداني أهمية الوصول لنهايات واضحة في العلاقة مع الولايات المتحدة، ويبدو أنه يواجه تحديات كبيرة في عدم التأكيد بصورة واضحة على مسألة إبقاء القوات الأمريكية في البلاد، وهي تحديات لا تعكسها فقط مواقف حلفاء إيران في العراق، وإنما زيارات الوفود الرسمية الإيرانية أيضًا، ففي الوقت الذي يشارك فيه السوداني بمؤتمر ميونخ للأمن، زار رئيس السلطة القضائية الإيرانية غلام حسين محسني بغداد، وأكد دعمه لموقف قوى الإطار التنسيقي الداعية لإنهاء الوجود الأمريكي في العراق.
استحقاقات متبادلة
تُدرك الولايات المتحدة أن الحصول على التزامات مهمة وواسعة من حكومة السوداني، قد يشكل مدخلًا لدور أمريكي أكثر فاعلية في الساحة العراقية، خصوصًا الالتزامات المتعلقة بسلامة قواتها العسكرية الموجودة في العراق، وتأمين المصالح الأمريكية من أي تهديدات مستقبلية قد تصدر عن إيران وحلفائها في العراق.
الأكثر من ذلك، تُدرك الولايات المتحدة أهمية الضغط على حكومة السوداني في إيجاد نهج إستراتيجي تتمكن من خلاله من ضبط سلوك الفصائل المسلحة من الحرب الدائرة في غزة، وتحديدًا عبر التصعيد المستمر بالساحة السورية.
والواقع أن العراق هو الآخر يتطلع إلى تحقيق العديد من الحاجات والمصالح الإستراتيجية في الفترة المقبلة؛ فحكومة السوداني بحاجة إلى الحصول على التزامات إستراتيجية من الولايات المتحدة لمواجهة تحديات حقيقية في المرحلة المقبلة، أبرزها معالجة التحديات الاقتصادية، وتحييد العراق عن آثار الصراع الأمريكي الإيراني، فضلًا عن تمكين العراق سياسيًا وعسكريًا، لتحقيق المزيد من السيادة في ظل استمرار الهجمات الإيرانية والتركية في الداخل العراقي.
ماذا تريد إدارة بايدن؟
إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تطمح للمضي قدمًا للحصول على العديد من الالتزامات الإستراتيجية من حكومة السوداني قبل الحديث عن موضوع سحب القوات الأمريكية من العراق، لأنها تدرك تمامًا أن إيران وحلفاءها سيملأون الفراغ الأمريكي، وهو ما قد ينعكس سلبًا ليس على المصالح الأمريكية في العراق فحسب، وإنما مصالح حلفائها في الشرق الأوسط، إذ تطمح إدارة بايدن إلى أن تكون هناك رؤية وطنية عراقية واضحة في تحديد الأهداف الأساسية المبتغاة من إنهاء الوجود الأمريكي في العراق.
كما تريد إدارة بايدن التوصل إلى رؤية مشتركة لطبيعة التعاطي مع الحالة الإيرانية في العراق، وترغب في أن يبذل العراق مزيدًا من الجهود في إطار ضبط حركة الفصائل الموالية لإيران، وبالشكل الذي يُعيد للعراق صورة الدولة القادرة على فرض سلطانها القانوني على جميع التراب الوطني، وذلك عبر العديد من الإجراءات التي ينبغي أن تقْدم عليها الحكومة العراقية، وبالشكل الذي يقلل من المخاوف الأمريكية في هذا الإطار.
كما تتمثل المخاوف الأمريكية في عدم وجود رؤية عراقية لسبل التعاون العسكري مع الولايات المتحدة لتطوير قدرات الجيش العراقي، وليس قدرات قوات العمليات الخاصة فقط، من خلال برنامجَين للأمد الطويل للتدريب وتحسين الفاعلية القتالية والتسليح، إذ تشكل المحادثات الجارية في ميونخ تحديًا لكلا البلدين، في اتجاه رسم معالم علاقة إستراتيجية مستدامة، تخدم أهدافهما ومصالحهما، وتساعد في إحلال السلام والاستقرار بالمنطقة.
متغير إيراني
تسعى إيران لاستثمار الحالة الفصائلية القريبة منها في العراق، والمطالبة بضرورة إسراع حكومة السوداني بإنهاء وجود القوات الأمريكية من العراق، بل إن هذا المطلب شكل أحد أبرز شروط دعم هذه الفصائل لعملية تمرير حكومة السوداني، وهو ما أعلنه العديد من قادة الفصائل المسلحة، وأبرزهم زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، إلا أن المشكلة الكبرى التي تواجهها إيران، هي الرغبة الأمريكية بإعادة إصلاح قطاع الأمن في العراق، وهو ما ترفضه إيران، التي ترى في ذلك إبعادًا لتأثيرها وسطوتها على الفصائل المسلحة القريبة منها، والمنضوية ضمن هيكلية الحشد الشعبي.
تخشى إيران من أن تنعكس مخرجات اللجنة العسكرية العليا بين العراق والولايات المتحدة سلبًا على وجودها ونفوذها في العراق، لذلك قد تنظر إلى المقترحات الأمريكية التي قدمتها هاريس للسوداني في مؤتمر ميونخ للأمن، على أنها قد تمثل إستراتيجية أمريكية طويلة الأمد لاحتواء الدور الإيراني في العراق، وبالتالي خروج العراق من حسابات الإستراتيجية العسكرية الإيرانية مستقبلًا.
شكّلت الزيارة التي قام بها رئيس السلطة القضائية الإيرانية غلام حسين محسني للعراق في 14 فبراير/شباط الحاليّ حالة معقدة، ورغم تبلور هذه الزيارة في إطار قانوني، فإن الهدف الرئيس لها كان إطلاع الفصائل المسلحة القريبة من إيران على الإستراتيجية الجديدة التي ينبغي تبنيها لإخراج القوات الأمريكية من العراق، عبر استمرار الضغط على حكومة السوداني لعدم تقديم أي تنازلات للجانب الأمريكي، إذ تنظر إيران للهجمات التي تقوم بها الولايات المتحدة في الداخل العراقي، واستهداف العديد من قيادات الحشد الشعبي، على أنها فرصة للحديث مرة أخرى عن الوجود الأمريكي، وفرصة لإنهائه في العراق، من أجل تسهيل تحركاتها في العراق وسوريا ومن ثم لبنان.
بناءً على هذه المعطيات، ترى وجهة النظر الإيرانية أن الضرورة الإستراتيجية تقتضي اليوم الحفاظ على هذه المصالح والأهداف، بغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف المحادثات الإستراتيجية الجارية بين العراق والولايات المتحدة، على اعتبار أن وجودها في العراق، ليس الغاية الأساسية منه السيطرة على العراق فحسب، وإنما الانطلاق نحو كل دول الإقليم، فتسعى الولايات المتحدة وعبر الحوار مع العراق، إلى أن تعطي الملف الإيراني هامشًا كبيرًا من المناقشة، نظرًا لطبيعة التأثيرات الإستراتيجية التي أنتجها الدور الإيراني على السياسات والمصالح الأمريكية في العراق والشرق الأوسط في الآونة الأخيرة.