نحن قلقون! لا مجال لأن ننكر ذلك أو نتخلص منه، فلا يمرّ يوم إلا ويرافقه ذلك الشعور، بمختلف الدرجات والأنواع، سواء لفترة قصيرة فيكون شعورًا عابرًا مرتبطًا بوقتٍ معيّن، أو على مدى طويل فيصبح رفيقًا لكَ في حياتك العامة لا يفراقك.
نحن ببساطة قلقون، وهذا جزء من جوهرنا وتركيبنا الأساسيّ كبشر، لذلك لسنا ضده جملةً وتفصيلًا، إنما ما نحن ضده هو جعله سمة دائمة من سمات الحياة، وتحويله لشعورٍ وجوديّ لا رجعة فيه، يخرّب وقتنا القصير على هذه الأرض، ويوقعنا فرائس لأوهام قوية من السلبية والخوف لا تمتّ للواقع بصلة.
يعرّف القلق في علم النفس بأنه حالة نفسية وفسيولوجية تتكون من عناصر إدراكية وجسدية وسلوكية لخلق شعور غير سار يرتبط عادة بعدم الارتياح والخوف أو التردد وغالبًا ما يكون مصحوبًا بسلوكيات تعكس حالة من التوتر الجسديّ والعضويّ.
تتنوع الأسباب التي تسبب القلق وتتعدد، لعلّ أهمها هو عدم امتلاك الإنسان للمعلومات الكافية وافتقاده للصور الكاملة التي تساعده في اتخاذ قراراته والتحكم في حياته، إضافةً على قدرته على تخيّل أكثر مما يمتلك وما يوجد بين يديه في اللحظة الراهنة فيفكّر دومًا بالمزيد أو الجديد، الأمر الذي يخلق أفرادًا قلقين مُحبَطين خاصة في ظلّ المجتمعات التي يحكمها الإعلام والتسويق ووسائل التواصل الاجتماعي حيث النظر للآخرين ومقارنة النفس بهم والحسد والتقليد باتت تُعدّ ركائز أساسيّة لا تخلو حياة الأفراد منها. عدا عن نشوء قيم التنافسية الرأسمالية المدمّرة في العمل والمكانة الاجتماعية التي تلعب في تفكير الأفراد وتتحكم في نظرتهم لأمور الحياة المختلفة وطريقة تعاملهم معها.
أما علم النفس التطوّري فيرى أنّ القلق والتوتر كانا لازمين وضرورين لأنهما ساعدا أسلافنا في اتخاذ الإجراءات الفورية لحل المشاكل التي واجهتهم في الحياة التي كانت تطغى عليها الصراعات من أجل البقاء والتكاثر، وبالتالي حمايته وحماية نسله. فقدوم عاصفة مفاجئة يُدخل البشريّ في حالةٍ من القلق والتوتر والضغط النفسيّ ما يجعله يبحث عن حلول بديلة كإيجاد ملجأ جديد مثلًا وبالتالي زيادة فرصة بقائه وسلامته.
وبناءً عليه، فواحد من مصادر القلق عند الإنسان هو غياب اليقين الثابت؛ فليس هناك ما هو مضمون البتة، تمامًا كما كانت حياة الإنسان الأول، منعدمة اليقين تجاه أيّ شيء من أعداء أو كوارث طبيعية أو توفّر للغذاء أو الأمراض وغيرها الكثير.
قد ينشأ القلق لدى الفرد نتيجة تجارب الحياة المبكّرة والتي بدورها تكون سببًا واضحًا وجليًّا في انعدام قدرته على التعامل مع ضغوطات الحياة والسيطرة عليها. لكن دعونا نتفق أولًا أنّ ضغوطات الحياة الصعبة والكثيرة لا تخلق القلق وحدها، وإنما نقص قدرة الشخص على السيطرة على الأحداث التي قد تكون مُجهدة أو مُقلقة هو الذي يزيد من احتمالية نشوء القلق. ومن المهم أن ندركَ أيضًا أنّ نقص القدرة هذا أو انعدامها قد لا يكون دقيقًا، وإنما هو تصوّر الشخص الخاص حول الأحداث.
تجارب الطفولة المبكّرة تلعب دورًا كبيرًا في الطريقة التي يتعامل بها الفرد مع أحداث حياته، فحينما يتعرّض الطفل مرارًا وتكرارًا لأحداث ومواقف لا يمكنه السيطرة عليها، أو يعتاد اللجوء لأبويْه أو من هم أكبر سنًّا لحلّ مشاكله والتخلص من المواقف المقلقة، سواء برغبته أو نتيجة التربية الخاطئة التي يقوم بها الوالديْن والتي ترتكز على أسلوب الحماية المفرِط والخوف المقلِق غير المبرّر على الأبناء وبالتالي عدم السماح لهم بمواجهة الكثير أو تجربة الجديد، فهذا قد يؤدي لاحقًا لشعور الشخص بالعجز تجاه مواقف الحياة، جزئيًا أو كليًّا، ما يعزّز من نظرته السلبية وقلقه المبالغ فيه تجاهها. وعلى الجهة المقابلة، فتلعب الأسرة المفككة التي لا يحصل فيها الطفل على الرعاية الكافية أو التواصل اللازم، دورًا كبيرًا في خلق شخصية فوضوية قلقة تعاني الإجهاد وعدم الاستقرار والخوف من الحاضر أو ما هو قادم.
التقييم المعرفيّ أو الإدراكيّ
يستخدم هذا المصطلح على الطريقة التي يقوم بها الفرد بتقييم الأحداث والمواقف المحيطة به، ويُعدّ مفهومًا أساسيًا في فهم قابلية الفرد للقلق والإجهاد والتوتر. ووفقًا لعالمي النفس لازاروس وفولكمان، يتكون التقييم المعرفي من نوعين منفصلين من المعتقدات؛ أولية تُشير للتقييم والإدراك الشخصيّ الذي يقوم به الفرد للموقف وثانوية تُشير إلى تقييم الفرد لقدرته على مواجهة هذا الوضع أو الحدث.
يمكن تصنيف التقييم الأوليّ إلى ثلاث فئات مختلفة؛ “غير ذي صلة” حين لا يؤثر إدراكك للموقف على مصلحتك أو سعادتك، و”إيجابية حميدة” حين يتم النظر للمواقف والأحداث من منظورٍ إيجابيّ ومُريح، و”مقلقة” حين يكون الضرر والتوتر أو الخوف والإجهاد نواتج المواقف التي نمرّ بها.
وبما أنّ التقييم المعرفي الثانويّ هو قدرة الفرد على التعامل مع تلك المواقف والأحداث، فيتم تحديده جزئيًا من خلال مدى سيطرته على الوضع أو التأثير عليه وتغييره، وبالتالي فإنّ مجرد تصوّر السيطرة على الموقف والتحكم به حتى وإن كان وهميًا قد يكون طريقة جيّدة للهروب من القلق أو التخفيف من حدته. وبالتالي تشمل التقييمات الثانوية تقييم الأفراد لمهاراتهم وقدرتهم على التكيّف، وبمعنى آخر: هل لديهم القدرة على النجاح بالتحدي أو المشكلة، أو على التغلب على القلق والتوتر؟ لذلك فإن أحد الأسباب الرئيسية للفروقات الفردية في ردود الأفعال تجاه الضغوطات هي الطرق المختلفة التي يقيّم ويدرك بها الأفراد أحداث حياتهم اليومية.