في الأول من أبريل/ نيسان 2008، وفجأة ودون سابق إنذار، أوقفت السلطات المصرية بث قناة الحوار على قمر نايلسات، كنت يومها عائدا من القاهرة بعد أن أنهيت في اليوم السابق، أي في الحادي والثلاثين من مارس / أذار تسجيل سلسلة من برنامج مراجعات مع الأستاذ محمد مهدي عاكف، المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، رحمه الله وكتبه في الصالحين. أدركت حال وصولي لندن ومعرفتي بخبر توقيف القناة عن البث على القمر المذكور أن تسجيل المراجعات مع الأستاذ عاكف ربما كان أحد الأسباب التي دفعت السلطات إلى اتخاذ ذلك الإجراء.
كانت مصر في ذلك الوقت تغلي على نار هادئة، وكان الإخوان جزءاً من حراك سياسي واجتماعي نشطه استلام محمد مهدي عاكف لقيادة الحركة بعد وفاة المرشد السادس للجماعة مأمون الهضيبي رحمه الله في مطلع عام 2004، وذلك لما كان يتميز به عاكف من روح شبابية ظلت ملازمة له رغم أنه من مواليد عام 1928، نفس السنة التي انطلقت فيها حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا رحمه الله.
كنت أعرف الأستاذ عاكف من زيارات كان يقوم بها إلى بريطانيا قبل أن يبايع مرشداً، وكانت لقاءاتنا عابرة قصيرة. وذات مرة في عهد المرشد الهضيبي علم بوجودي في القاهرة فجاء يزورني في الفندق الذي كنت أقيم فيه، وكانت فرصة للحديث مع عملاق من عمالقة الإخوان غير مسبوقة، وخاصة بشأن قضية كانت تشغل بالي كان هو ذاته طرفاً فيها حسبما علمت من صديقه الحميم في ذلك الوقت كمال الهلباوي، ألا وهي قضية شباب حزب الوسط. ثم شاء الله أن أسجل معه ست ساعات لبرنامج مراجعات فتحت معه فيها هذا الملف وملفات أخرى كثيرة، بدأت معه كالعادة مما يذكره من أيام طفولته.
في الحلقة الثانية يتحدث محمد مهدي عاكف عن حملة الاعتقالات الجماعية التي شنتتها السلطات في العهد الملكي على الإخوان وما تبعها من اغتيال حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان
في الحلقة الأولى من مراجعات، التي تعيد قناة الحوار بثها يومياً هذا الأسبوع، يتحدث محمد مهدي عاكف عن نشأته وعن أسرته، وبشكل خاص عن جده ووالده، والظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت القطر المصري في ذلك الوقت. ثم يتحدث عن انضمامه للإخوان المسلمين في سن مبكرة، وعن تعرفه على حسن البنا، وتسلمه لمسؤوليات تنظيمية تخص قسم الطلاب، ثم عن تجنيده في النظام الخاص، ذلك التنظيم السري الذي أنشأه حسن البنا، مؤسس الجماعة، للقيام بما وصفه بالمهمات الخاصة وإعداد نخبة من الإخوان إعداداً عسكرياً يتناسب وهذه المهمات. وتنتهي الحلقة بالحديث عن حرب فلسطين عام 1948 ومشاركة الإخوان في الجهد الحربي لمنع اغتصاب فلسطين بتوجيه مباشر من حسن البنا نفسه.
في الحلقة الثانية يتحدث محمد مهدي عاكف عن حملة الاعتقالات الجماعية التي شنتتها السلطات في العهد الملكي على الإخوان وما تبعها من اغتيال حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، ثم عن الخلاف حول من يخلف البنا وحسمه لصالح حسن الهضيبي الذي بدأ بإعادة تشكيل النظام الخاص، ثم ما لبث أن حله وأنهى وجوده. ويتحدث عن ثورة يوليو باعتبارها مبادرة الشارع المصري للتغيير، تصدرها ضباط من الجيش ما لبث الخلاف أن نشب بينهم وقيادة الإخوان، وكان من تداعيات ذلك فصل مجموعة من رموز الإخوان في ذلك الوقت، ثم حل الجماعة، واعتقال قادتها. ثم يتحدث محمد مهدي عاكف عن تسليم نفسه للسلطات نزولاً عند رغبة الجماعة بعد أن تمكن من الاختباء لحين، وما تبع ذلك من انفراج بين الجماعة ورجال الثورة، ثم عودة التوتر في العلاقة بين الطرفين إثر رفض الإخوان لبنود معاهدة الجلاء مع بريطانيا، وتداعيات ذلك التي كان أهمها إعدام ستة من أبرز الشخصيات الإخوانية، كان من المفروض أن يكون محمد مهدي عاكف سابعهم ضمن قائمة طويلة ممن صدرت بحقهم أحكام بالإعدام لولا نجاح التدخلات العربية والإسلامية لإقناع نظام عبد الناصر بوقف الإعدامات، وبذلك خفف حكم الإعدام بحق عاكف إلى حكم بالسجن عشرين عاماً، وكان حينها في السادسة والعشرين من عمره.
في الحلقة الثالثة يعود المرشد السابق رحمه الله إلى الوراء قليلاً ليتحدث عما كان يقوم به الإخوان من إعداد للجهاد ومن تنفيذ لأعمال مقاومة ضد الإنجليز في السويس قبيل ثورة يوليو 1952، ولما كان يقوم به هو شخصياً من مهام. ويتحدث في النصف الثاني من الحلقة عن سنواته العشرين التي قضاها في المعتقل ما بين 1954 و 1974، سارداً مشاهد مما لاقاه وإخوانه في السجن الحربي من تنكيل واضطهاد، ويتحدث عن الأيام التي قضاها في سجن الواحات ثم في سجن المحاريق ثم في سجن قنا.
كان محمد مهدي عاكف رحمه الله، فيما أعلم، الوحيد الذي حمل في حياته لقب “المرشد السابق”، حيث فضل أن يترجل ويسلم القيادة لغيره
تبدأ الحلقة الرابعة بالعودة بالمشاهد إلى عام 1949 حيث يتحدث محمد مهدي عاكف عن الأحوال في سجن الطور الذي اعتقل فيه الإخوان في العهد الملكي. وهو المعتقل الذي جمع فيه العائدون من الجهاد في فلسطين مع الذين طاردتهم أجهزة الأمن ثم اعتقلتهم داخل القطر المصري، وكان عاكف واحداً منهم. وفي هذه الحلقة يسرد محمد مهدي عاكف قصة المرشد السري كاشفاً هويته وشارحاً كيف اختلف الإخوان بشأنه ولماذا رفض هو شخصياً مبايعته. ثم ينتقل للحديث عن سفره للعمل في المملكة العربية السعودية في الندوة العالمية للشباب إلى أن أنهيت مهمته بحجة برنامج السعودة بعد أن أشرف على تنظيم عدد من المخيمات الشبابية العالمية بين عامي 1977 و 1983. وفي هذا الحلقة يتحدث مرشد الإخوان عن التنظيم الدولي، عن مبررات وجوده وصلاحياته، وعن علاقته هو شخصياً به، وعن الصعوبات التي باتت تواجه التنظيم منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وعن نجاحاته وإخفاقاته في إقناع تنظيمات الإخوان حول العالم بتبني موقف واحد تجاه كل قضية من القضايا السياسية الكبيرة.
تبدأ الحلقة الخامسة بحديث حول مشاركة الإخوان في مصر في العملية السياسية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ويخص محمد مهدي عاكف تجربته النيابية من 1987 إلى 1989 بشرح مفصل. ترشح تارة أخرى ضمن من ترشحوا عام 1995 ولكن لم ينجح منهم أحد بعد أن عمل النظام كل ما في وسعه ليضمن سقوط جميع مرشحي المعارضة بما فيهم الإخوان. إثر ذلك ألقت السلطات القبض على أعضاء مجلس شورى الإخوان، ثم اعتقل محمد مهدي عاكف وحكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام. يتحدث عاكف في هذه الحلقة عن آلية اختيار المرشد العام للجماعة، وعن كيفية انتخابه هو، ويميط اللثام عما اكتنف اختيار بعض المرشدين من لبس وغموض وما صحبه من جدل داخل صفوف الجماعة ومن تساؤلات خارجها. وتنتهي الحلقة بحديث عن البرنامج السياسي للإخوان، وعما أثير من لغط بشأنه، وخاصة فيما يتعلق بقضايا الأقباط والمرأة.
أما الحلقة السادسة فيتحدث فيها الأستاذ عاكف رحمه الله عن موقف الجماعة من القضايا الكبرى في عهده، وعلى رأس هذه القضايا الاحتلال الأجنبي لعدة مناطق من العالم الإسلامي. يقدم محمد مهدي عاكف رؤيته لما جرى لأفغانستان ثم العراق، وعن تمخض الغزو الأمريكي لهذه البلدين عن تفجر الطائفية وانتشار الفوضى. وبعد أن يحدد موقف جماعته من الحوار مع الأمريكان، يتطرق بشيء من التفصيل لتطورات القضية الفلسطينية بما في ذلك الأزمة بين حركتي فتح وحماس. وتختتم هذه السلسلة من مراجعات بحديث عن الوضع الذي كان سائداً في مصر وعن تصور جماعة الإخوان للمخرج من الأزمة التي تمر بها البلاد.
لماذا زج نظام السيسي بهذا الشيخ المسن في السجن بعد الانقلاب رغم أنه لم يكن على رأس الجماعة ولا حتى مديراً لأي من أقسامها أو دوائرها.
كان محمد مهدي عاكف رحمه الله، فيما أعلم، الوحيد الذي حمل في حياته لقب “المرشد السابق”، حيث فضل أن يترجل ويسلم القيادة لغيره. كان أقرب إلى جيل الشباب من جيل أقرانه، وكان يرى ضرورة الإصلاح والتغيير والتطوير دون المساس بوحدة الجماعة. فرغم أنه كان من المتعاطفين مع شباب الإخوان الذين كلفوا بتشكيل حزب في منتصف تسعينيات القرن الماضي ثم قيل لهم اقعدوا، فغضبوا وانفصلوا وشكلوا حزب الوسط، إلا أنه لم يؤيدهم في حركتهم الانفصالية، ولم يفقد الأمل يوماً في الإصلاح من الداخل، وكان يتمنى عليهم أن يصبروا ويصمدوا ويثبتوا، وظل رغم خروجهم على علاقة طيبة وودية معهم.
حكى لي أثناء المراجعات حكاية لا أنساها. قال إنه عندما زج به في المعتقل في عام 1954 مع شيوخ الإخوان، وكان من جيل الشباب فيهم، شكا للشيخ عمر التلمساني أنه سجن ولما يتزوج بعد. فقال له التلمساني مازحاً إن التي ستتزوجها لم تولد بعد. وفعلاً، عندما خرج من المعتقل بعد عشرين عاماً، وقد بلغ من العمر ستة وأربعين سنة، كان نصيبه أن يتزوج بفتاة ولدت عندما كان داخل المعتقل.
أتساءل، وربما يتساءل آخرون، لماذا زج نظام السيسي بهذا الشيخ المسن في السجن بعد الانقلاب رغم أنه لم يكن على رأس الجماعة ولا حتى مديراً لأي من أقسامها أو دوائرها. أغلب الظن أن النظام كان يعلم علم اليقين أن محمد مهدي عاكف لو ظل خارج السجن لتمكن بحكمته من الحيلولة دون أن ينشب خلاف أو شقاق داخل الجماعة، ولساهم بفعالية في الحد من حالة الإحباط واليأس التي أصابت العديد من أبناء الجماعة، وخاصة جيل الشباب فيها.
رحم الله محمد مهدي عاكف، وكتبه في الصالحين، وأسكنه في عليين.
المصدر: عربي21