“أبي في ذمة الله، إنا لله وإنا إليه راجعون”
بهذه الكلمات نعت علياء محمد مهدي عاكف والدها المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر الذي توفي عن عمر يناهز 89 عامًا، وهو قيد الحبس بعد نقله من السجن إلى مستشفى قصر العيني الحكومي للعلاج.
وذلك بعدما أعلنت وزارة الداخلية المصرية في شهر يوليو الماضي نقل المرشد العام السابق لجماعة الإخوان عاكف إلى إحدى المستشفيات الخاصة بناء على طلب أسرته بعد التدهور الشديد الذي أصاب صحته.
وأكدت أسرة عاكف حينها إن “صحته متدهورة ومعتقل دون أن يكون متورط في أية جريمة، ولكن فقط كجزء من التنكيل والانتقام“، وأضافت الأسرة أن “الرسائل الأخيرة من داخل السجن تُنبئ عن تدهور صحته بشكل ملحوظة بشكل أصبح يهدد حياته“.
وكان أطباء قصر العيني قد أكدوا حينها أن عاكف يعاني من مشكلات مرضية متعلقة بتقدم السن من الشيخوخة وغيرها من الأمراض، وأوضح تقرير صادر عن المستشفى حينها أن دخول عاكف في 19 يناير 2017، شخص حالته بإصابته بسرطان في القنوات المرارية، وتضخم في البروستاتا وكسر في المفصل الأيسر، وضعف في عضلة القلب.
تعنت حتى الموت
طالب دفاع عاكف السلطات المصرية بالإفراج عنه مرارًا طوال السنوات الثلاث الماضية بسبب سنه وتدهور صحته، إلا أن الرفض كان الجواب المستمر، فيما دأبت أسرته على تقديم التماسات إلى الحكومة المصرية والمجلس القومي لحقوق الإنسان للإفراج الصحي عنه، وقادت حملات تدوينية بالاشتراك مع منظمات حقوقية لغرض الإفراج عنه، إلا أن النظام المصري ظل متعنتًا من الشيخ الكبير حتى وافته المنية، وهو قيد الحبس.
يُذكر أن مهدي عاكف اعتقل بعد انقلاب الثالث من يوليو على يد قوات الأمن المصري بعد الإطاحة بالرئيس المعزول من قبل الجيش محمد مرسي، وأودع الرجل في السجن بعد اتهامه بالتحريض على العنف وإثارة الفوضى والشغب، لكن سرعان ما بدأ التنقل بين المشفى والسجن لعدم تحمل صحته ظروف الاعتقال، ولإصرار النظام على عدم الإفراج المشروط عنه مع استمرار القضية المعروفة إعلاميًا باسم “أحداث مكتب الإرشاد” عام 2013، تلك التي وقعت فيها اشتباكات بين أنصار جماعة الإخوان المسلمين ومعارضين، قبل أشهر من مظاهرات حاشدة ضد الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، في الـ 30 من يونيو من نفس العام.
وقد قضت محكمة مصرية بسجن عاكف 25 عامًا، لكن محكمة النقض ألغت الحكم في يناير 2016، وأعيدت محاكمته من جديد.
عاكف في سطور
ولد محمد مهدي عاكف المرشد السابع لجماعة الإخوان في إحدى قرى محافظة الدقهلية عام 1928 وتخرج بالمعهد العالي للتربية الرياضية عام 1950 ليعمل بعد التخرج مدرسا للرياضة البدنية، بعدما ترك أحد كليات القمة بتوجيه من جماعة الإخوان آنذاك.
التحق بجماعة الإخوان المسلمين في العام 1940 وساهم في أنشطتها الطلابية والرياضية، إذ شارك في إعداد معسكرات الحرب التطوعية ضد الانجليز في جامعة عين شمس، وساهم بنفسه متطوعًا مع الفدائيين في العمليات داخل منطقة القناة عبر النظام الخاص للجماعة.
تدرج عاكف في المناصب داخل جماعة الإخوان المسلمين حتى وصل إلى رئاسة قسم الطلاب تحت إشراف حسن البنا المرشد الأول للجماعة ومؤسسها، وظل في موقعة حتى صدرت أوامر بحل الجماعة بعد صدامها مع مجلس قيادة الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، وهو ما أدى إلى إلقاء القبض حينها على آلاف الإخوان وإيداعهم المعتقلات، وكان من بينهم محمد مهدي عاكف مسؤول قسم الطلاب في الجماعة وأحد أعضاء نظامها الخاص، والمتهم بتهريب الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار المنتمي إلى الإخوان المسلمين.
سجين كل العصور
حكم نظام عبد الناصر على عاكف بالإعدام شنقًا إلا إن الحكم خفف بعد ذلك إلى المؤبد، ليخرج بعد عشرين سنة قضاها داخل السجون المصرية في العام 1974 إبان عهد السادات المنفتح على الإخوان المسلمين.
لكنه خرج ليستأنف نشاطه الطلابي والشبابي داخل جماعة الإخوان المسلمين، بعدما عوضته الدولة بتعيينه مديرًا عامًا للشباب بوازة التربية والتعليم، لكنه سرعان ما انخرط في الأنشطة التنظيمية لجماعة الإخوان بالخارج في السعودية وفي ألمانيا بعد تأسيس المركز الإسلامي في ميونخ، ليعود إلى مصر عام 1986 حيث تولى قسم الطلاب من جديد بجماعة الإخوان، وعضوًا بمكتب إرشاد الجماعة.
دخل عاكف البرلمان عن كتلة تمثل الإخوان المسلمين في نفس العام كنائب عن شرق القاهرة، وظل ممارسًا للعمل العام حينها في إطار الجماعة، ليعتقل في عهد نظام مبارك عام 1996 ويتهم بالإشراف على ما يُعرف بالتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، ويقدم إلى محاكمة عسكرية تقضي عليه بالسجن 3 سنوات، قضاها بالكامل وخرج في العام 1999.
ظل عاكف عضوًا في مكتب إرشاد الجماعة وأحد أبرز قيادييها التاريخيين ممن يُعرفوا باسم “الرعيل الأول” الذي عاصر تأسيس الجماعة وشبابها مع الشيخ حسن البنا، حتى اختير مرشدًا عامًا للجماعة في عام 2004 خلفًا للمستشار محمد مأمون الهضيبي.
شهدت فترة تولي عاكف لرئاسة مكتب إرشاد الجماعة انفتاحًا غير مسبوق على كافة الأصعدة، إذ تمكنت الجماعة حينها من حصد 88 مقعدًا من مقاعد مجلس الشعب، وزادت في أنشطتها الطلابية داخل الجامعات، وانفتحت في حراكها السياسي مع تيارات وأطياف سياسية أخرى.
لكن هذه الفترة أيضًا شهدت صدامات كبرى مع النظام والإعلام، وخاصة وأن شخصية عاكف معروفة في الأوساط الإخوانية بالصرامة والحدة، وهو ما جعله يصطدم مع وسائل الإعلام في أكثر من مرة، كما مرة الأنشطة الطلابية في عهده بمحنة كبيرة، وهي المحنة المعروفة إعلاميًا آنذاك باسم “العرض العسكري لطلاب الأزهر” والذي تسبب في حملة أمنية شرسة على قيادات الجماعة وطلابها بعد عرض رياضي أداه مجموعة من طلاب الجماعة في ساحة جامعة الأزهر.
عاكف يميز نفسه داخل تاريخ الإخوان
ميز محمد مهدي عاكف نفسه داخل الجماعة وتاريخها بعدما أقبل على خطوة غير مسبوقة في تاريخ الجماعة بتقديمه استقالته في العام 2010 ورفضه الترشح لفترة جديدة لرئاسة مكتب الإرشاد، وهو ما أحدث بلبلة داخل صفوف الإخوان، وأدى إلى انشقاق البعض فيما بعد، وعلى رأسهم نائب المرشد العام حينها محمد حبيب.
ضغطت تيارات مختلفة داخل الجماعة حينها على عاكف للاستمرار في منصبه إلا إنه أبى ذلك، وأصر على سن سنة جديدة في صفوف الجماعة التي لم تغير مرشدها في السابق إلا بالوفاة، وبالفعل تنحى الرجل، وأجريت انتخابات صعد خلالها محمد بديع كمرشدًا ثامنًا للجماعة، إلا أن عاكف احتفظ لنفسه بالثقة والمكانة بين جموع القيادات، وإن اختلف مع مسالك كثيرة للجماعة بعد ذلك.
وفي الرابع من يوليو عام 2013 وعقب إلقاء بيان الانقلاب العسكري من قبل وزير الدفاع آنذاك ورئيس الجمهورية الحالي عبد الفتاح السيسي، قامت قوات العمليات الخاصة بوزارة الداخلية بالتنسيق مع الشرطة العسكرية بشن حملات للقبض على بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين بتهم قتل المتظاهرين وإهانة القضاء، وكان في مقدمتهم عاكف.
وقد ألقت القوات القبض على محمد مهدي عاكف و4 من حراسه بمنزله بالقاهرة الجديدة؛ واتهموه بحيازة سلاحًا ناريًا، كما تهم بإهانة القضاء.
وقد فسر البعض آنذاك تعجيل قوات الأمن المصري بالقبض على الرجل المسن المريض لمعرفتهم بخطورته التنظيمية داخل الجماعة رغم أنه تقاعد ظاهريًا، ولكن كانت الخشية من عودته إلى مشهد القيادة مجددًا ليقود مربع المعارضين لعزل الرئيس محمد مرسي الرافضين لانقلاب الجيش.
ومنذ ذلك الحين مكث عاكف في السجن شاكيًا من سوء المعاملة والتنكيل، وذلك على لسان أسرته وهيئة دفاعه والتي أكدت تدهور حالته الصحية بسبب الإهمال الطبي المتعمد معه من قبل مصلحة السجون، كما أنهم أثبتوا تمكن السرطان من جسده، إلا أن استجابة السلطات لمطالبهم كانت بطيئة وغير مجدية.
حتى أن عاكف طلب من أسرته وهيئة الدفاع العودة إلى السجن مرة أخرى في الفترة الأخيرة بسبب تردي أماكن الاحتجاز فيما يُعرف بعنبر المسجونين في المستشفى المحتجز به لتلقي العلاج، وظلت شائعات وفاته تطارده كلما تردت صحته أكثر، إلى أن وافته المنية، والسلطات المصرية على موقفها من سجين كل العصور.