انتهت رحلة التهجير القسري بالحاج الفلسطيني محمد رأفت ليستقرَّ في قرية حيفا الكرمل، وهي قرية صغيرة حديثة الإنشاء تقع في منطقة جبل كللي في محافظة إدلب السورية، انتقل إليها مؤخرًا قادمًا من خيمته المتهالكة في أحد مخيمات منطقة جنديرس بمحافظة حلب، بعد أن هجّرته قوات الأسد من مخيم اليرموك في العاصمة السورية دمشق قبل 6 سنوات.
وحيفا الكرمل قرية تأخذ شكل مجمّع سكني طابقي، بُنيت بتبرّعات الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة، وجرى نقل الحاج الستيني وعائلته إليها منذ قرابة سنة من مخيمات منطقة جنديرس مع 300 عائلة فلسطينية، على أمل تحسين واقعهم المعيشي.
يقول العمّ رأفت لـ”نون بوست” إن جميع الذين نُقلوا من مخيمات دير بلوط وجنديرس إلى قرية حيفا الكرمل، كانوا يأملون أن يتحسّن وضعهم المعيشي، لكن الحقيقة جاءت مخيبة للآمال، فالمساعدات الإنسانية كانت غائبة طوال فترة إقامتهم في القرية.
وأضاف رأفت أن المساعدات الإنسانية كانت متوفرة في جنديرس بشكل شهري، كما أن الأبنية في القرية ذات جودة رديئة، وتشعرك بالخوف مع كل هزة ارتدادية على أعقاب زلزال 6 فبراير/ شباط، فكثير من المباني تعاني من الرطوبة نتيجة تشقّقها بفعل الزلازل، وبعضها تتسرّب المياه من السطح إلى داخل الغرف.
الوضع الإنساني
من جهته، يوضح المهندس تيسير السعدي، وهو أحد سكان قرية حيفا الكرمل، أن القرية مؤلفة من 106 أبنية سكنية تضم 614 شقة، ويشغل الفلسطينيون فيها 250 شقة، والبقية من المهجّرين السوريين من مختلف المناطق السورية، مشيرًا إلى أن القرية لا يوجد فيها صرف صحّي ولا مركز طبّي سوى عيادة متنقلة تأتي كل فترة، إضافة إلى غياب المساعدات الإنسانية الغذائية أو التدفئة.
وقال إن القرية تعيش أوضاعًا إنسانية صعبة، نتيجة غياب المساعدات الإنسانية وضعف كبير في تقديم الخدمات، خاصة في التعليم، حيث لا توجد مدرسة، وهذا مؤشر خطير يهدد مستقبل عشرات الأطفال، ويجعلهم عرضة لآفات مجتمعية.
ويعتمد أغلب سكان القرية بحسب السعدي على الحوالات المالية من قبل أقربائهم أو أصدقائهم المغتربين، إلا أنها غير كافية على حدّ قوله، مشيرًا إلى أن أغلب المواد الغذائية “يشترونها بالدين” إلى حين وصول الحوالة، أو على أمل تلقي مساعدات إنسانية.
لا يختلف حال أهالي قرية حيفا الكرمل عن أوضاع السوريين في مختلف المناطق في شمال غربي سوريا، فغياب أو شحّ المساعدات السمة الغالبة، خاصة في المخيمات البالغ عددها نحو 1400 مخيم، إضافة إلى انتشار البطالة والفقر، بالتزامن مع الغلاء الكبير في الأسعار.
المعالم والهوية الفلسطينية
وأنت تتجول في أرجاء قرية حيفا الكرمل، لا تغيب عنك المعالم الفلسطينية، إضافة إلى اسم القرية ترى اللافتات والعبارات على الجدران تمجّد فلسطين والقدس، وتسمع الأغاني الفلكورية الفلسطينية التي يردّدها الأطفال في كل أرجاء القرية، إضافة إلى تسمية الشوارع على أسماء المدن الفلسطينية.
رئيس رابطة المهجرين الفلسطينيين في الشمال السوري، ثائر أبو شرخ، قال في حديثه لـ”نون بوست” إن الفلسطينيين الذين هجّرهم الأسد منذ قرابة 6 سنوات إلى الشمال السوري، هم امتداد للشعب الفلسطيني في المخيمات والوطن المحتل وجزء منه، ويحافظون على هويتهم الفلسطينية من خلال الحضور في الفعاليات المدنية التي تقام في المنطقة، كما أنهم يعتبرون الشعب السوري عمقًا استراتيجيًّا للشعب الفلسطيني.
وأضاف أبو شرخ أن ظروف التهجير القسري وصعوبة المعيشة لم تمنع الفلسطينيين في الشمال من التفاعل مع القضية الفلسطينية، ومع ما يحدث في غزة من إبادة جماعية على يد الكيان الاسرائيلي، مطالبًا بدوره كافة الهيئات الحقوقية الدولية والدول العربية بالضغط على “إسرائيل” لوقف العدوان على غزة وإدخال المساعدات لكافة المنكوبين، ويؤكد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتحرير أرضه من الاحتلال.
وأكّد ذلك أيضًا مدير مكتب العمل الشعبي في هيئة فلسطين العاملة في الشمال السوري، مضيفًا أن القائمين على الهيئات الفلسطينية في الشمال السوري نظّموا فعاليات مدنية تضامنًا مع الأهالي في غزة، من خلال مسيرات الكشافة والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية والندوات في الجامعات، إضافة إلى توجيه رسائل تضامن بمختلف أشكالها، من أجل الحشد والمناصرة لقضية العرب الأولى على حدّ قوله.
وتنشط في شمال غربي سوريا، بحسب ثائر أبو شرخ، عدة روابط وهيئات مدنية فلسطينية تدير شؤون اللاجئين الفلسطينيين، مثل المديرية العامة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، ومركز توثيق اللاجئين الفلسطينيين في الحكومة السورية المؤقتة، ورابطة المهجرين الفلسطينيين في الشمال السوري، وهيئة فلسطين، وكلها تعمل على حفظ حقوق وهوية الفلسطينيين وتلبية احتياجاتهم في المنطقة، من خلال التعاون والتشبيك مع الهيئات الرسمية والمنظمات الإنسانية في المنطقة.
مدير مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين في الحكومة السورية المؤقتة، محمد بدر، قال لـ”نون بوست” إن المديرية معنية بمتابعة شؤون الفلسطينيين في الشمال السوري، من أجل تأمين احتياجاتهم ومتابعة أوضاعهم القانونية، خاصة في أمور الولادات والوفيات والأوراق الثبوتية، حيث يتم معاملتهم كالسوريين في المنطقة.
وأوضح أن الفلسطيني يعتبَر بحكم السوري مع الحفاظ على هويته الوطنية، من خلال منحه بطاقة تعريفية على أنه “فلسطيني”، وبدوره قال ثائر أبو شرخ إن الفلسطينيين في الشمال السوري استطاعوا الحصول على أوراق ثبوتية، تمكّنهم من تملك العقارات والسيارات وتلقي التعليم ودخول المشافي للعلاج.
الأونروا غائبة
رغم محاولات الهيئات الفلسطينية تحسين أوضاع الفلسطينيين في الشمال السوري، إلا أنهم يشتكون من تخلي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” عنهم، فبعد تهجيرهم من مناطق ريف دمشق وحلب، غابت المساعدات الإنسانية عنهم.
المدير التنفيذي لمجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، فايز أبو عيد، قال في حديث لـ”نون بوست” إنه ومنذ بدء وصول العائلات الفلسطينية إلى الشمال السوري، لا تزال الأونروا تحرمهم من خدماتها ومساعداتها الإنسانية الأساسية، بذريعة أنهم يتواجدون في منطقة خارجة عن السيطرة وليس لديها مكاتب عمل هناك.
وأضاف أن الفلسطينيين في الشمال السوري يعانون من ظروف اقتصادية صعبة، نتيجة البطالة وفقدان فرص العمل، وعدم تناسُب حجم المساعدات مع الحاجات المتنامية للاجئين، وتراجع العمل الإغاثي، والارتفاع الشديد بالأسعار، وامتناع المنظمات الدولية كالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن تقديم المساعدات للمهجرين الفلسطينيين، بحجّة ولاية الأونروا الدولية التي يقع على عاتقها تقديم المساعدات للاجئين الفلسطينيين بموجب التفويض الدولي الممنوح لها.
وأكد ذلك ثائر أبو شرخ، وأضاف أن غياب دور الأونروا وكافة المؤسسات الرسمية الفلسطينية عن مساعدة اللاجئين الفلسطينيين في الشمال السوري، اضطر الفلسطينيين لتشكيل هيئات تعمل على إدارة شؤونهم وتلبية احتياجاتهم، وتحاول التمسك بحقوقهم المشروعة، وعدم التنازل عن حق العودة إلى مناطقهم التي هُجّروا منها عام 1948.
وتابع محدثنا أن الأونروا تعتبَر صمّام أمان للفلسطينيين، فهي هيئة أممية تشكّلت من أجلهم، وأي مولود فلسطيني جديد يجب أن يتم توثيق اسمه في سجلّاتها، لكن على مدار 6 سنوات أصبح مستقبل الأجيال المهجّرة إلى الشمال السوري في خطر، بسبب عم توثيق ولاداتهم في سجلّات الأونروا.
ويعيش في شمال غربي سوريا نحو 1800 عائلة فلسطينية، تتوزّع على مناطق أعزاز والباب وعفرين وأطمة وكللي وسرمدا ومدينة إدلب، ومنهم من سكن المنطقة منذ التهجير الأول عام 1948، ومعظمهم هُجّر بفعل قوات النظام والميليشيات الفلسطينية والإيرانية المساندة لها، من مخيم حندارت بحلب، ومخيم اليرموك وخان الشيح في جنوب دمشق.
وأحصت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، بحسب فايز أبو عيد، مقتل 4 آلاف و214 من الفلسطينيين، الذين تمكّنت مجموعة العمل من توثيقهم منذ عام 2011 وحتى نهاية أبريل/ نيسان 2022، وأكثر من 3 آلاف و76 معتقلًا فلسطينيًّا في أفرع الأمن والمخابرات التابعة لقوات النظام، بينهم 117 امرأة.
في حين قضى 643 لاجئًا فلسطينيًّا تحت التعذيب في السجون السورية بينهم 37 امرأة، فيما تم تعرُّف 77 منهم خلال صور قيصر المسرّبة لضحايا التعذيب، و487 ضحية من النساء الفلسطينيات قضين منذ بداية المواجهات في سوريا، بينهن 37 قضين تحت التعذيب في السجون السورية.