كان للزوبعة التي أثارها البارزاني بإصراره على الاستفتاء، تأثير كبير على تحضيرات السياسيين العراقيين للانتخابات القادمة، فالجميع في حالة ترقب لما ستؤول إليه المغامرة الكردية من تغير في الأوضاع، سواء تم الاستفتاء أو لم يتم. ورغم أن جميع السياسيين العراقيين، على اختلاف كتلهم، قد أدلوا بدلوهم في موضوع الاستفتاء الكردي وأعلنوا مواقفهم سواء كانت قبولًا أم رفضًا له، ما عدا السياسيين العرب السنة، لم يتضح موقفهم حتى الآن، لا بالمعارضة ولا بالتأييد، مع استثناء صغير للموقف الذي خرج به النجيفي معترضًا على تنظيم الاستفتاء في كركوك وبعض المناطق المتنازع عليها مع إقراره واحترامه لحق الكرد بالانفصال، ورد ذلك في بيان حزبه الجديد (للعراق متحدون).
وما يثير استغرابنا من ضبابية الموقف العربي السني أنهم المكون الأكثر تضررًا من الاستفتاء والاستقلال الكردي إذا ما تم، حيث إن الدولة الكردية الوليدة ستقتطع المناطق التي تُعرف بالمناطق المتنازع عليها، والتي في غالبيتها العظمى أراض تابعة للمكون العربي السني، إلا أننا لم نلاحظ أي مواقف رافضة وبصوت عالٍ على استفتاء الكرد للانفصال، مما حدا بالنائبة البرلمانية عن المكون التركماني “نهلة الهبابي” انتقاد غياب الموقف السني الصريح من إجراء استفتاء استقلال كردستان.
السياسيون العرب السنة ينتظرون اقتناص الفرص
بلغت السذاجة السياسية بالسياسيين السنة مداها، وهم يحاولون المماطلة لأطول فترة ممكنة دون أن يكون لهم موقف واضح من هذه القضية، انتظارًا منهم لحلول موعد الاستفتاء، كالذي يحاول إمساك العصا من الوسط، فإذا أصر الاكراد على إقراره وتمريره، ونجحوا بعد ذلك في تشكيل دولتهم المعترف بها من قبل العالم، فإنهم سيظهرون أمام الأكراد ودولتهم الجديدة من الذين لم يعارضوا استقلالهم، وسيسارعون بعد ذلك لمباركة الكرد بدولتهم الجديدة، عسى أن يجود عليهم البارزاني بشيء من الفتات يسدون به رمقهم، وعسى أن يُرحب بهم في كردستان، حين تدور عليهم الدوائر من قبل الباغي الطائفي في بغداد.
الشرائح الأخرى من السنة، من شيوخ عشائر وقادة صحوات أو حشد شعبي سني أو مشايخ دين، منقسمون بين هذا وذاك وكل يغني على ليلاه
أما إذا لم يتم الاستفتاء وأُجبر البارزاني على إلغائه، وخرجت حكومة بغداد منتصرة في هذه المجادلة، فإن هؤلاء السياسيين سيقولون إننا لم نساند الاستفتاء ولم يكن لنا موقف مؤيد للاستقلال الكردي ونحن مع الوحدة للعراق وعدم تفتيته، يرجون من خلال ذلك الحفاظ على حظوتهم عند المنتصرين في بغداد وطهران.
وهناك نوع ثاني من السياسيين الذين بلغ بهم الإحباط من العملية السياسية مبلغه، حتى بدا يناجي حضه العاثر بلغة الشاعر لا بلغة السياسي، مع كل ما تحمل كلماته التي أدلى بها من ألم ووجع، فهذا أثيل النجيفي محافظ نينوى السابق يقول عند سؤاله عن موقفه من الاستفتاء الكردي: “أقول للذين يطالبوننا بالمواقف في هذه الأزمة، لم يعد لمن أضعفوا بعدما خُذلوا موقف ترتجونه، وأقصى ما لدينا كلمة النصح والدعوة للحوار والتفاهم”. وأضاف النجيفي مخاطبًا السياسيين الشيعة: “لقد أضعفتم حلفاءكم بوشاية الواشين وضيعتم أنفسكم بسوء ظنكم وتصرفكم”، ثم يختم كلامه بلسان الذي أعلن الهزيمة أمام الملأ ليقول: “ستشغلنا لملمة جراحنا عن جعجعة سلاحكم”، لكنه بنفس الوقت يحذر الساسة الشيعة قائلًا لهم: “سلامكم في ديارنا، فابقوا على ما تبقى من مدننا لتضمنوا أمان مستقبلكم”، وهي صورة واقعية قلما تجرأ على وصفها سياسي من قبله، يصف فيها الخذلان الذي يشعر به السياسيون السنة بعد أن أصبحوا لا حول لهم ولا قوة.
بينما نجد أن السياسيين الشيعة رغم خلافاتهم الكبيرة متحدون برفضهم للاستفتاء الكردي واستقلال كردستان، ونجد بالوقت نفسه أن السياسيين الأكراد رغم خلافاتهم المستحكمة، فإنهم متحدون في غالبيتهم بالمضي في طريق الاستقلال للوصول إلى نهايته، لكن العرب السنة منقسمون على أنفسهم، ليس في قضية الاستفتاء الكردي فحسب، إنما في جميع القضايا التي تخص مصير مكونهم.
مواقف بعض العرب السنة تتذبذب بين مؤيد ومعارض
أما الشرائح الأخرى من السنة، من شيوخ عشائر وقادة صحوات أو حشد شعبي سني أو مشايخ دين، فهم منقسمون بين هذا وذاك وكل يغني على ليلاه، وحسب ما تمليه عليهم مصالحهم الضيقة، ولا مكان لوحدة الرأي بينهم، فقد أبدت بعض العشائر السنيّة والتي تطلق على نفسها “عشائر نينوى” رغبتها بضم بعض المناطق السنية إلى إقليم كردستان، وأعلنت تأييدها لإجراء استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان، وتدّعي أنها جمعت 250 ألف توقيع من أهالي المناطق المحاذية للإقليم في نينوى من أجل الانضمام للإقليم. في الوقت نفسه، عدَّ رئيس ما يسمى بـ”العشائر المنتفضة ضد داعش” من يساعد على اقتطاع أي أرض من العراق لصالح الكرد بـ”العميل”، وأن الخيار المسلح هو أحد خياراتنا، بينما أعلن إمام وخطيب جامع الدولة الكبير في الرمادي أن السنة اليوم في موقف الضعف السياسي المتهافت، ناصحًا سياسي السنّة أن يرموا النزاعات الشخصية تحت أقدامهم، ويصحوا من غفلة الفساد المالي الذي هم فيه. وعلى ما يبدو هناك فجوة كبيرة بين رأي السياسيين السنّة والرأي العام الشعبي، ومن المرجح أن يزداد حجمها يومًا بعد يوم، إلى أن يصل المكون العربي السني لمرحلة لا يجدون فيها من يمثلهم سياسيًا أو يدافع عن حقوقهم، فهم في واد وسياسيّيهم في وادٍ آخر.
من الممكن مناقشة إنشاء إقليم سني مشابه للإقليم الكردي وبكل امتيازاته لكي يضمن السنة من خلال هذا الحل أن يكونوا آمنين في أراضيهم
ما الموقف الذي يُفترض أن يتخذه العرب السنة؟
وفي الوقت الذي يفصلنا عن موعد الاستفتاء الكردي أيامًا محدودة فإن أي موقف للسياسيين العرب السنة لن يكون له أهمية أو قيمة سياسية، ولكن نناقش موضوع في حال تم الاستفتاء كما يصر عليه البارزاني أو تراجع عنه في اللحظة الأخيرة، ما المفروض أن يكون عليه موقف العرب السنة في كلتا الحالتين؟
في حالة إجراء الاستفتاء
أن يقوم بقايا السياسيين العرب السنة الذين ما زالت في أجنداتهم بعض الوفاء لأهلهم، ويريدون أن يناضلوا في سبيل تحصيل حقوقهم والدفاع عن مستقبلهم، فالمفروض أن يرفضوا الاستفتاء على انفصال الأكراد من العراق ورفض مخرجاته، وأن يربطوا بين مطالبات الأكراد التي جعلتهم يختارون الانفصال عن العراق والتي لا تختلف كثيرًا عن المشاكل التي يعاني منها العرب السنة، بل العرب السنة واجهوا ما هو أصعب من الحكومة الطائفية في بغداد. وبالتالي فإن الحل يجب أن يكون حلًا جمعيًا لكل المكونات، ونحن نعلم أن الأكراد وتحت الضغط الحالي الذي يلقونه من المجتمع الدولي، سوف يقبلون بالحلول المطروحة نظير تخليهم عن موضوع الاستفتاء، وبالتالي فإن على السياسيين السنة مطالبة الحكومة العراقية والمجتمع الدولي بوضع حلول نهائية لصالح مكونهم العربي السني أيضًا وبنفس الطريقة التي يطالب بها الأكراد، وأن ينالوا نفس ما ينال الأكراد من حقوق وامتيازات، وعلى رأسها حق تشكيل إقليم خاص بهم ويمتلك من الصلاحيات التي يمتلكها الأكراد في إقليمهم، وعلى الأكراد دعم تلك المطالب السنية نظير تلقي الدعم من قبل السياسيين السنة.
وبالتأكيد إن مثل هذه اللعبة السياسية الكبيرة تحتاج سياسيين كبار، والذي نفتقره مع الأسف الآن، وبالتالي فإن الخيار الثاني هو أن يقوم بهذا الدور السياسيون الذين في الخارج من الذين تم إقصاؤهم من العملية السياسية، أو من غير المشتركين في العملية السياسية، والذين عقدوا أكثر من اجتماع لتوحيد صفوفهم والتحرك بكل جدية على العواصم التي لها تأثير بالساحة العراقية، من قبيل الولايات المتحدة الأمريكية والجارة تركيا والسعودية وحتى إيران، والعمل على إقناعهم بأن المشكلة الكردية مشكلة واحدة من المشاكل التي يعاني منها العراق، والاضطهاد الذي يعاني منه المكون العربي السني من أكبر تلك المشاكل، وهي السبب في إنتاج مشكلة جديدة في العراق والمنطقة، وهذا يعني أن لا حل لمشكلة الأكراد دون حل جذري لمشكلة العرب السنة في العراق بطريقة متزامنة ومتكافئة.
المسؤولية تنتقل إلى عامة أهلنا العرب السنة لكي يدافعوا عن حقوقهم، وذلك من خلال الفعاليات الشعبية التي ترفع صوتهم ليُسمع من قبل الرأي العام العالمي
أما عن تفاصيل الحل، فهذا متروك لأولئك السياسيين، ولكن على سبيل التنويه، فإن من الممكن مناقشة إنشاء إقليم سني مشابه للإقليم الكردي وبكل امتيازاته لكي يضمن السنّة من خلال هذا الحل أن يكونوا آمنين في أراضيهم، وإذا أصر الأكراد على الانفصال وأصرت الحكومة على عدم تلبية مطالب الأكراد وتم الانفصال، فإن العرب السنة لا يمكنهم البقاء إلى الأبد تحت رحمة الحكومة الطائفية في بغداد، ويجب على المجتمع الدولي مساعدة العرب السنة على الانفصال من هذه الحكومة الحالية التي يهيمن عليها الشيعة الموالون لإيران، بما يعني بالمختصر، يجب على العرب السنة أن لا يوافقوا على أي صيغة للحل تخص الموضوع الكردي، دون أن يشملهم ذلك الحل وبالطريقة التي ترضيهم، وإلا فلا يجب أن تكون هناك موافقة سنية على أي حل مطروح يخص الأكراد أو الشيعة.
في حالة تراجع البارزاني عن الاستفتاء
أما إذا تراجع البارزاني عن الاستفتاء مقابل بدائل مجزية، والقيام بمباحثات جديدة مع حكومة بغداد لحل المشاكل العالقة بينهما، فالمفروض على العرب السنة ومن خلال سياسيوهم، المطالبة بفتح مباحثات مماثلة مع المكون السني لوضع الحلول النهائية التي تكفل حصولهم على حقوقهم وتعويضهم عن الخسائر التي ألمت بهم جراء السياسة الرعناء للحكومة في بغداد، وإلا فيجب عليهم القيام بكل الفعاليات التي تضغط على الرأي العام الدولي لكي يتم مناقشة موضوع العرب السنة في العراق.
المسار الثاني
أما المسار الثاني الذي يجب على العرب السنة اللجوء إليه، وهو في حالة بقاء السياسيين السنة الحاليين على سلبيتهم الحالية، وعدم قبولهم تأدية دورهم المناط بهم في حماية مكونهم والدفاع عن حقوقه، فإن المسؤولية تنتقل إلى عامة أهلنا العرب السنة لكي يدافعوا عن حقوقهم، وذلك من خلال الفعاليات الشعبية التي ترفع صوتهم ليُسمع من قبل الرأي العام العالمي ولفت نظره لما يحدث لهم، والنزول إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم وضرورة وضع الحلول النهائية لمعاناتهم، ويجب عدم الكف عن مطالبهم تلك إلى أن يضمنوا الحصول عليها، ويجب أن تنبثق منهم المنظمات والحركات الشعبية السلمية التي تمثل الرأي العام السني، سواء كانت في الدخل أو في الخارج لكي توصل مطالبهم تلك إلى الدول الفاعلة وذات التأثير في مجريات الساحة العراقية. وكما كانوا يخططون لمرحلة ما بعد القضاء على داعش، أن يتم فيها القيام الإصلاحات الضرورية، فيجب أن يفهموا أن على رأس تلك الإصلاحات، الإصلاحات التي تمس حقوق أهل السنّة المسلوبة من قبل شريكي الحكم الشيعة والاكراد، طيلة الـ14 سنة الماضية، وتحميلهم مسؤولية الوضع الذي وصل إليه البلد، وذلك لأنهم وباعترافهم، أقروا أن من وضع هذا الدستور المعوج الذي نظم الحياة السياسية طيلة تلك الفترة هم الأكراد والشيعة، بينما السنة كانوا مقاطعين لتلك العملية السياسية، ولم تكن لهم يد في وضع هذا الدستور الذي يحكم البلد حاليًا.