تتصاعد حدة الخلافات داخل المجلس الحكومي الإسرائيلي المصغر المشكل لإدارة الحرب على غزة، وباتت تمثل تهديدًا كبيرًا لاستمرار هذا المجلس وسط مخاوف من انهياره قبيل انتهاء المعركة، بما يؤثر بطبيعة الحال على إدارة الاحتلال لتلك الحرب المستمرة منذ الـ8 من أكتوبر/تشرين الأول 2023 في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” التي زلزلت أركان دولة الاحتلال، قيادة وجيشًا ومستوطنين.
ومنذ الأيام الأولى للحرب خرجت تلك الخلافات بين أعضاء المجلس المصغر الذي يضم كلًا من رئيس الوزراء، بنيامين نتانياهو، وبيني غانتس عن تحالف الوحدة الوطنية المعارض، ووزير الدفاع الحاليّ، يوآف غالانت، وكلًا من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق من حزب غانتس، غادي آيزنكوت، ووزير الشؤون الإستراتيجية، رون ديرمر، كمراقبين.
إعلام عبري يكشف عن ارتفاع حدة الخلاف بين نتنياهو وغالانت#عاجل https://t.co/QBVAHSWwob pic.twitter.com/5xn76hEx3U
— Roya News (@RoyaNews) January 4, 2024
وتتمحور الخلافات بين أعضاء المجموعة حول 3 مسائل رئيسية: التفاوض مع المقاومة بشأن مسألة تحرير المحتجزين وحجم ما يمكن أن تقدمه “إسرائيل” من تنازلات، أهداف الحرب وسلم الأولويات بعد الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة سابقًا (القضاء على حماس – تحرير الرهائن – ضمان ألا تشكل غزة تهديدًا لإسرائيل)، اليوم التالي للحرب ومستقبل القطاع ودور السلطة الفلسطينية وهوية من يحكمه.
بطبيعة الحال فإن هذا الانقسام يرجع في المقام الأول إلى الأداء البطولي للمقاومة وما أحدثته من إرباك لحسابات الكيان المحتل، غير أن تسليط الضوء عليه بتلك الكيفية أمر مثير للاهتمام، لا سيما في ظل ما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات ربما لا تخدم مصالح الاحتلال، وهو ما يدعو للتساؤل بشأن حقيقة هذا التباين الفج في وجهات النظر بين أعضاء الكابينت، ومدى ما إذا كان ذلك يعبر عن انقسام فقط أم تبادل للأدوار لتحقيق أهداف ومآرب أخرى تصب هذه المرة في خدمة الأهداف الإسرائيلية من تلك المعركة.
تصاعد الخلافات
ظهرت الخلافات بين أعضاء المجلس الوزاري المصغر بعد أيام قليلة من بداية الحرب في أكثر من موقف، أبرزها التصريحات الصادرة عن غادي آيزنكوت التي طالب فيها بقية الأعضاء بالتوقف عن الكذب على أنفسهم، وإظهار الشجاعة في التوصل إلى صفقة تعيد المحتجزين بدلًا من الاستمرار في القتال بشكل أعمى، على حد قوله.
وتعزز هذا الخلاف مع مشاركة بيني غانتس في مظاهرة حاشدة بتل أبيب تندد بتعاطي الحكومة مع ملف المحتجزين، كذلك منع نتنياهو وزير دفاعه، غالانت، من حضور بعض جلسات الكابينت، هذا بخلاف تعرض عدد من أعضاء المجلس للتفتيش الذاتي من أفراد الأمن التابعين لمكتب رئيس الحكومة، ما أدى إلى انسحاب بعضهم من الاجتماعات.
هيئة البث الإسرائيلية: غانتس وآيزنكوت يهددان بالاستقالة من كابنيت الحرب pic.twitter.com/YYQW0wgDFJ
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) February 16, 2024
كما شهدت جلسات المجلس عدة مناوشات واشتباكات كلامية بين الأعضاء كالتي وقعت بين غالانت ووزير الأمن القومي بن غفير، وبينه أيضًا وبين نتنياهو، وبين الأخير وغانتس، وهي السجالات التي لم تتوقف منذ بداية الحرب، حملت في بعضها تشكيكًا وإلقاء للتهم والمسؤولية، هذا بخلاف فقدان الثقة داخل المجلس في ظل تسجيل البعض لما يدور في الاجتماعات.
ووصل الخلاف بين أعضاء الكابينت أن كادت الأمور أن تتطور إلى اشتباك بالأيدي، كما حدث حين حاول وزير الدفاع اقتحام مكتب رئيس الوزراء، كما هدد غالانت وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر بإحضار لواء غولاني للسيطرة على الوضع في مجلس الحرب، حسبما نقل موقع “والا” العبري.
ما الأسباب؟
ترجع تلك الخلافات وتباين وجهات النظر بين أعضاء المجلس الوزاري المصغر إلى عدة أسباب:
أولًا: الخلافات الشخصية بين أعضاء المجلس، نتنياهو وغالانت، وهي الخلافات التي تعود إلى ما قبل الحرب، حين حاول رئيس الحكومة تقليص صلاحيات وزير دفاعه ونزع الكثير منها، بخلاف إقالته من منصبه في مارس/آذار الماضي بسبب دعمه للتظاهرات الرافضة للتعديلات القضائية التي أجرتها الحكومة ولاقت اعتراضًا كبيرًا من الشارع الإسرائيلي.
هذا بخلاف التباين الكبير بين نتنياهو وبقية فريق المنظومة الأمنية بسبب تحميله لهم مسؤولية ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومما زاد من حدة تلك الخلافات تشكيل رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي لجنة تحقيق للنظر في سلسلة الإخفاقات العسكرية والاستخبارية عشية السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
الخلافات بين غالانت ونتنياهو تتدهور باتجاه الوصول إلى الشجار بالأيدي.. التفاصيل مع مراسل العربي أحمد دراوشة@AhDarawsha pic.twitter.com/tktm0wo9Tw
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) January 20, 2024
ثانيًا: إدارة الحرب في غزة، حيث يتبنى كل عضو داخل المجلس موقفًا مغايرًا للآخر، الأمر الذي خلق مواقف وتيارات عدة داخل الحكومة المصغرة، ما أثار المخاوف من انعكاس ذلك على أداء الجيش الميداني في ظل ما يتعرض له من خسائر فادحة على أيدي المقاومة.
ثالثًا: الصراع بين اليمين المتطرف وبقية ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي، حيث يميل نتنياهو إلى رؤية بن غفير وسموتيرتش المتطرفة في مواجهة أصوات أخرى تنحاز نسبيًا إلى اليمين المحافظ، إذ تحاول قدر الإمكان تجنب توسعة دائرة الصراع حفاظًا على حياة المحتجزين ولتقليل حجم الخسائر الناجمة عن إطالة أمد الحرب واتساع رقعتها.
بين الانقسام وتبادل الأدوار
تسليط الضوء على حجم تلك الخلافات المتصاعدة داخل مجلس الحرب المصغر مسألة تثير الكثير من التساؤلات بشأن دوافع تقديمها للشارع الإسرائيلي بهذه الكيفية، رغم ما يمكن أن يترتب عليها من تصدير صورة سلبية عن تماسك الحكومة الإسرائيلية وقدرتها على إدارة الحرب بجبهة موحدة.
بداية لا بد من التأكيد على أن إدارة المقاومة للمعركة كان لها نصيب الأسد في تفاقم تلك الخلافات وتعميقها بهذا الشكل غير المعهود، لكن من زاوية أخرى فإن تضخيم هذا التباين الكبير في وجهات النظر بين أعضاء الكابينت بشأن سير الحرب ومستقبلها، يحقق العديد من المصالح الإسرائيلية التي تخدم رؤية المجلس الاستعمارية في المقام الأول لكن بطرق غير مباشرة، من خلال إستراتيجية تبادل الأدوار التي يقوم بها أفراده بشكل دقيق، وتحقق 4 أهداف رئيسة:
أولًا: امتصاص غضب عائلات الأسرى.. وجود فريق داخل المجلس يتبنى وجهة نظر عائلات المحتجزين في ضرورة إبرام صفقة تبادل مع المقاومة، مسألة غاية في الأهمية بالنسبة لحكومة الاحتلال، فهذا التمثيل الذي يقوم به غانتس وأيزنكوت يساهم بشكل كبير في احتواء هذا الغضب ويبقيه في مناطقه الدافئة بعيدًا عن التطرف والتصعيد، بما يقلب الطاولة، وهو الدور الذي يؤديه غانتس تحديدًا على أكمل وجه، وهو الذي شارك قبل ذلك في تظاهرة تندد بإستراتيجية الحكومة – التي هو أحد أفرادها – في إدارة المعركة.
ثانيًا: اللحمة السياسية من باب التباين.. يشير هذا الانقسام بين الأعضاء إلى تنوع المزاج السياسي وشموليته، فمعظم التيارات السياسية في الداخل الإسرائيلي ممثلة في هذا المجلس، اليمين المحافظ واليمين المتطرف واليسار، وهو ما يحافظ على تلك اللحمة حتى إن خرجت أصوات الخلاف للعلن، إذ إن تلك الأصوات هي الأكثر موضوعية للتأكيد على وجود هذا التمثيل بما يضمن تماسك الجبهة الداخلية وعدم انفراط عقدها، مقارنة بما سيكون عليه الوضع إن لم يكن هذا التمثيل موجودًا.
ويحافظ نتنياهو بتماهيه مع أفكار ومواقف بن غفير وسموتيترش على ائتلافه الحكومي الذي يشكل اليمين المتطرف ضلعًا بارزًا فيه، كذلك وجود حزب “المعسكر الوطني” بقيادة غانتس وانضمامه إلى حكومة الطوارئ يزيد من قوة الحكومة ويطيل أمدها قدر الإمكان.
غانتس: إطلاق النار لن يتوقف ولا ليوم واحد والقتال مستمر حتى عودة مختطفينا وتحقيق كل أهدافنا#الجزيرة_مباشر | #رفح_تحت_القصف pic.twitter.com/GCXUXBuC95
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 16, 2024
ثالثًا: تماسك الجبهة الداخلية.. تحاول الحكومة من خلال هذا الانقسام إلى تمثيل كل ألوان الطيف الشعبي لدى الشارع، خشية تجاوز الأوضاع للخطوط الحمراء، فالفريق الداعم للمفاوضات مع المقاومة لتحرير المحتجزين وإنهاء تلك الحرب وما لها من تداعيات ممثل في المجلس بغانتس ونائبه آيزنكوت، والفريق المتطرف الرافض لأي صفقات والمصمم على استمرار الحرب ممثل من خلال نتنياهو وجنرالاته، وبخروج الخلافات بين الفريقين للعلن تحافظ الجبهة الداخلية الإسرائيلية على تماسكها وهو ما يخطط له المحتل.
وحاول نتنياهو منذ اليوم الأول للحرب أن يلملم شعث المجتمع الإسرائيلي الناجم عن طوفان الأقصى، من خلال صرخته التي قال فيها إن “إسرائيل تخوض حربًا وجودية” في إشارة منه إلى ضرورة الوحدة والقفز على الخلافات الداخلية، لكنها المحاولات التي لم تجني ثمارها، في ظل فشله الواضح في إدارة الحرب وعجزه عن تحقيق ما وعد الإسرائيليين به بداية المعركة، ما دفعه للبحث عن أبجديات وإستراتيجيات أخرى يحافظ بها على تلك الوحدة المهلهلة.
رابعًا: تخفيف الضغط الدولي.. وجود فريق داخل الحكومة داعم للتفاوض مع المقاومة وتجنيب توسعة دائرة الصراع ومنفتح على مناقشة اليوم التالي للحرب، لا شك أنه سيخفف من حدة الضغط الدولي على حكومة الاحتلال، كون هذا الفريق هو حلقة الوصل بين تلك الضغوط الخارجية والفريق المتعنت في الكابينت، ومن ثم يُمنح جنرالات الحرب في “إسرائيل” الوقت لتنفيذ خططهم العسكرية على أمل تحقيق انتصار يجبر المقاومة على التنازل لشروطهم، ويقلل من احتمالات تصعيد الخارج لضغوطه باتجاه الكيان المحتل.
اللافت هنا أنه رغم تلك الخلافات العاصفة التي يمكنها أن تطيح بتلك الحكومة كما حدث قبل ذلك في الظروف الطبيعية ولجوء الكيان المحتل إلى إجراء انتخابات أكثر من مرة، فإن شيئًا لم يحدث، إذ لم يُقدم أي من هؤلاء الأعضاء على تقديم استقالته رغم التلويح بها ليلًا ونهارًا، هذا بخلاف تلك الثوابت والمرتكزات التي يتمسك بها الجميع رغم وجهات النظر المتعارضة، وتتعلق بخطورة وجود دولة فلسطينية مستقلة، وضرورة ألا يكون لحماس وجود في مستقبل غزة، كما لا بد أن يكون القطاع تحت أعين ومراقبة الاحتلال تجنبًا لطوفان جديد، ما يشير إلى أن الأمر أكبر وأعمق من مسألة الانقسام كما يروج الإعلام العبري.
في ضوء ما سبق.. يجب النظر لهذا التباين الشديد بين أعضاء الكابينت الإسرائيلي على أنه ليس مجرد انقسام في الرؤى والمواقف فقط، بل كونه يأتي ضمن مخطط أوسع وأعم يتخذ من تبادل الأدوار إستراتيجيته الأبرز لتحقيق حزمة من الأهداف التي تخدم الأجندة الإسرائيلية ومصالحها إزاء تلك الحرب ومستقبل القطاع.