نحو الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، تتجه الأنظار، وبالأخص العراقية والتركية والإيرانية، مؤكدة معظمها على عدم شرعية الاستفتاء، وعدم مواتيته للظروف المحيطة، أما عراب الاستفتاء، رئيس الإقليم مسعود بارزاني، فيتمسك بالقرار، مؤكدًا حق شعبه في تقرير مصيره.
سياسيًا من الصعب على الحكومة العراقية الاتحادية القبول بسياسة الإقليم المسمية “سياسة الأمر الواقع”، مخافة تشجيع الأقاليم الأخرى كالبصرة ونينوى وغيرهما، على المطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي في أسوأ الحالات، بالإضافة إلى تخوفها من الفوضى العارمة التي قد تصيب البلاد، من خلال تحرك المليشيات الشيعية ضد الإقليم، بذريعة الدفاع عن أرض الوطن والحفاظ على وحدته، إلى جانب قلقه من احتمال تحرك الدول الإقليمية ضد الإقليم، بشكل مباشر أو عبر الوكالة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقويض السلم المجتمعي والأمن الاقتصادي، وانتهاك السيادة.
وكذلك فالأمر مرفوض بالنسبة لتركيا وإيران، لجهة خطره الجسيم على أمنهما المجتمعي المرتكز على تنوع قومي فسيفسائي يشكل الأكراد نسبة كبيرة فيه، وهذا ما قد يحفز الحركات الكردية المتمردة برفع مستوى عملياتها، ويدفع بالمزيد من المواطنين الأكراد للانضمام إليها، فضلًا عن دفع حزب الاتحاد الديمقراطي “الكردي السوري” بالمُضي قدمًا نحو تحقيق استقلاله في سوريا، ناهيك عن تخوف البلدين من تحول الإقليم إلى مرتع للقواعد الإسرائيلية التي تقض مضاجع أمنهما على صعيد استراتيجي. أما الفواعل الدولية، فتضع جميع ما ذكر أعلاه نصب أعينها، وتخشى من النتائج السلبية لهذه الخطوة، وفي طور الموقف السياسي لكل طرف ذي علاقة، ما الذرائع القانونية التي قد تُساق من الأطراف الرافضة أو المؤيدة للاستفتاء؟
لا يستطيع إنتاج “القانون الناعم” إلا ذوي الأهلية القانونية الذين يطلق عليهم “الشخصيات القانونية” في الساحة الدولية كالدول وحكوماتها والمنظمات الدولية
البداية من الدستور المؤسس للعراق الحديث، قبل خوض الدستور في أي تفاصيل عن شكل وهيكلية ونظام الحكم في العراق، يشدد في المادة الأولى على أن الدستور الذي تم بتوافق بين جميع الأطراف، يعتبر “العراق دولة اتحادية وأن الدستور ضامن لوحدته”، وتنص المادة الثالثة عشر على أن “الدستور هو القانون الأعلى للبلاد، ولا يجوز سن أي قانون، بمعنى اتخاذ أي قرار أيضًا، يتعارض معه”. وإن كان قسم كبير من مواد الدستور حبرًا على ورق، إلا أن بغداد يمكن لها من خلال سوق هذه المواد، تحريك العمل بالمادة 109 من الدستور أيضًا، والتي تنص على أن “السلطات الاتحادية تحافظ على وحدة العراق ونظامه الاتحادي”، وفي سياق قاعدة “القياس” القانونية؛ يتضح أن المادة تؤكد على حق السلطات في كبح جماح أي انفصال إقليمي. ويُفهم من مصطلح “السلطات الاتحادية” قوات الأمن الاتحادي، والمؤسسات العُليا كالوزارات التي يمكن أن تقطع ميزانية الإقليم الساعي للانفصال ومجلس النواب من خلال حظر حضور النواب الأكراد الممثلين عن الإقليم لجلساته، والمحكمة الاتحادية العليا.
وفي ضوء ذلك، لا يمكن إغفال المادة 140 من الدستور العراقي، والتي تنص على أن كركوك منطقة متنازع عليها، وسيُنظر في مصيرها عبر إجراء استفتاء عام 2007، وكون الاستفتاء غير مُنجز حتى الآن، تبقى كركوك منطقة متنازع عليها، ولا يصلح لطرف ما أن يُجري عليها إجراء قانوني دون توافق اتحادي.
وفيما صوت برلمان العراق ضد الاستفتاء، وبالتالي يكون قد خول حكومة العبادي بشن حرب أو اتخاذ أي إجراء آخر لصد الانفصال، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارًا “دستوريًا” بإيقاف الاستفتاء، مما جعل الكرة القانونية في ملعب الحكومة الاتحادية في اتخاذ أي قرار ضد الإقليم.
من ناحية القانون الدولي، يُطلق على قرار الاستفتاء “قرار من طرف واحد” الذي ينتج عنه “قانون ناعم”
إن “القانون الناعم” في قاموس القانون الدولي هو ذلك القانون الذي يحوي قواعد أو إجراءات لم يتم تقنينها في اتفاقيات، ولم تصادق عليها الدول، وإنما ظهرت للسطح من خلال تحرك دولة أو دولتين أو أكثر، أو من خلال اقتراحها من قبل منظمة دولية كوثيقة، وبالتالي لم تدخل حيز النفاذ القانوني، غير أنها في ذات الوقت يمكن أن تصبح، حسب الرغبة السياسية لعدد من الدول، مرجعًا ملموسًا يمكن تقنينه بغطاء دولي تقبله الدول.
في الحقيقة، لا يستطيع إنتاج “القانون الناعم” إلا ذوي الأهلية القانونية الذين يطلق عليهم “الشخصيات القانونية” في الساحة الدولية كالدول وحكوماتها والمنظمات الدولية، وفي الحالة العراقية، دستوريًا نرى أن البارزاني لا يحظى باعتبار دولي قانوني على الساحة الدولية، بمعنى لا يحق له تمثيل الإقليم في الساحة الدولية سواء سياسيًا أو اقتصاديًا، دون التوافق مع الحكومة الاتحادية. لكن تجاوزًا، وبتقدير حصوله على “أهلية تنفيذية فعلية” لعقد اتفاقيات مع الدول المجاورة، تركيا وإيران وغيرهما، وفقًا لقبوله من قبلهم كممثل شرعي للإقليم في الساحة الدولية، يصبح لدينا أهلية نسبية لتصور الاستفتاء على أنه يأتي في إطار قرارات “القانون الناعم” الذي قد يؤدي إلى نتيجة “تنفيذية فعلية” تخص الداخل العراقي والساحة الدولية، وتخضع هذه النتيجة إلى تقييم الدول التي قد يقبل بعضها ويرفض بعضها، ويبدو من متابعة التصريحات الأخيرة، أن الرافضين أكثر من الدول الموافقة.
وحتى يتحول قرار “الطرف الواحد” إلى إحدى قواعد “القانون الناعم” التي يتم تقييمها بجدية من قبل الدول، يحتاج إلى ثلاثة شروط أساسية:
1ـ صادر عن دولة أو منظمة دولية، ومثلما يُمثل الدولة رئيسها أو رئيس وزرائها أو زير خارجيتها أو شخص مفوض رسميًا بتمثيل الدولة، أو إحدى مؤسساتها، يُمثل المنظمات الدولية الهيئات العليا المنظمة لعملها.
2ـ قائم على أساس إصدار نتائج قانونية.
3ـ ملائم لقواعد القانون الدولي.
جرت العادة أن تتم إجراءات الاستفتاء بحق “تقرير المصير” وفقًا لتوافق الدول ذات العلاقة تحت سقف الأمم المتحدة، كما تم في استفتاء “تيمور الشرقية” عام 1999.
في حال تجاوزنا الشرط الأول، كونه مشروحًا أعلاه، نستطيع القول إن الشرط الثاني يتناغم مع إجراء الاستفتاء، كون الاستفتاء يُرجى منه نتائج قانونية على المدى البعيد، إلا أن الشرط الثالث يبيّن، وفقًا لقاعدتي “احترام السيادة الوطنية” و”العهد والوفاء”، أن الاستفتاء غير شرعي. لكن، ذلك لا ينفي أنه قد ينتج عنه، في حال تم، نتائج تنفيذية فعلية “دي فاكتو” تؤدي إلى فتح الطريق أم ضرورة البت في نظام حكم جديد داخل العراق، وتحول الأمر بمثابة “حكم العرف والعادة” بالنسبة للأقاليم الراغبة في الانفصال حول العالم، وهنا يكمن الخطر الكبير بالنسبة للدول الإقليمية والدول المحتضنة للأقليات، إذ إنها لا يمكن أن تسمح لمثل هذا الأمر، وترى أنه لا بد اعتراضه حتى لا يتحول الأمر إلى قاعدة “عرف وعادة” مُعممة حول العالم.
وربما يدعي بعض المتابعين حق أهالي الإقليم في تقرير مصيرهم بحرية، هذا صحيح، ولكن جرت العادة أن تتم إجراءات الاستفتاء بحق “تقرير المصير” وفقًا لتوافق الدول ذات العلاقة تحت سقف الأمم المتحدة، كما تم في استفتاء “تيمور الشرقية” عام 1999، وتعتبر منطقة “الصحراء الغربية” خير مثال على عدم إمكانية إجراء الاستفتاء، نظرًا لانعدام قبول المغرب “الدولة ذات العلاقة”، وفي ذات السياق، ترى الأمم المتحدة في ميثاق حقوق الأقليات، المادة 8 البند 4، أنه “لا يمكن القبول بأي إجراء يمكن أن تقوم به الأقلية، ضد سيادة ووحدة واستقلال الدولة”.
وفيما يتعلق بالخلل القانوني في إجراء استفتاء في بعض مناطق مدينتي كركوك والموصل، يُلاحظ أن مبدأ “ستيمسون” الذي أكده “ميثاق بوغوتا” 1948، وإعلان “الأمم المتحدة لمبادئ التعاون والعلاقات الودية”، يتمحور حول ضرورة عدم الاعتراف بالسيطرة الفعلية للدول والكيانات على مناطق أخرى بقوة السلاح أو في أثناء وجود حالة عدم استقرار.
ستيمسون هو سكرتير وزارة الخارجية الأمريكية، حيث دعا عام 1932، إلى عدم الاعتراف بدولة “مانشوكو” التي أنشأتها اليابان على الأراضي الصينية، ورغم اعتراف بعض الدول بهذه الدولة، إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية أّخذ بمبدأ “ستيمسون”، وتم سحب الاعتراف بها.
وفي السياق ذاته، يُؤخذ بعين الاعتبار مبدأ طوبار أو “معيار شرعية الحكومات” الذي ظهر للسطح في آذار/مارس 1907، ويشدد على ضرورة عدم الاعتراف بحكومات تنشأ بالقوة أو بفعل الاضطرابات، طوبار هو أحد وزراء خارجية الإكوادور.
وفي هذا الصدد، قد تتمسك تركيا باتفاقية أنقرة المُبرمة بينها وبريطانيا والعراق عام 1926، والتي تنص في المادة الأولى على أن “العراق له صاحب السيادة على الموصل، وتشترط في المادة الخامسة على أن “الحدود بين العراق وتركيا لن تتغير”، وهذا ما يمنح تركيا حق التدخل العسكري أو أي إجراء آخر، وهذا ما استند إليه قرار “مجلس الأمن القومي” الذي أكد على حقه في اتخاذ أي إجراء لكبح تنفيذ الاستفتاء وفقًا للاتفاقيات الدولية.
يعتبر الكثير من المختصين في القانون الدولي أن قواعد القانون الدولي لا يمكن اعتبارها “قانون” أصلًا، كونها نتجت عن توافق سياسي وليس شرائع قانونية، مما يجعلها قواعد مرّنة يمكن لكل طرف سياسي بلورتها وفقًا لمآربه
بعيدًا عن الجزم، يتصور العقل أن النخبة التنظيمية المقربة من بارزاني تفقه جيدًا المعادلات المحلية الإقليمية الدولية السياسية والقانونية التي تحول دون تحقيق الإقليم لما ينشده، وإن كان بارزاني يركن إلى سيناريو تحويل ورقة الاستفتاء عبر إحدى الدول، غالبًا “إسرائيل” وبعض الدول العربية، إلى المحافل الدولية كالجمعية العامة أو مجلس الأمن الذي يقبل وفقًا للمادة 37 من ميثاق الأمم المتحدة “عرض أسس النزاع عليه من قبل الدول الأعضاء، وعلى أساسه يوصي بما يراه مناسبًا”، لكن يبدو هذا الخيار مغلقًا قبل الخوض فيه، فقد رفض مجلس الأمن، في 22 من سبتمبر/أيلول، الاستفتاء.
وفي سياق انتزاع الاستقلال، ربما يرمي بارزاني إلى إظهار إصراره على إجراء الاستفتاء داخل حدود الإقليم والمناطق المتنازع عليها، حتى يتعرض لهجوم إقليمي، تركي إيراني، يدفع “إسرائيل” للضغط على الولايات المتحدة وفقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على حق الدول الاتحاد في إطار تحالف دولي عسكري لحفظ السلام، أو عبر مبدأ “التدخل الإنساني” الذي وإن لم يستند إلى قرار مجلس الأمن، يمكن أن يستند إلى مبدأ “مسؤولية الحماية” والقرار “أيه 377” المعروف باسم “الاتحاد من أجل السلام”، أو “خطة آتشيسون” التي أقرت عام 1950، والتي تعني أن تقر الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماع طارئ توصيات تراها ضرورية لصد أي عدوان، واستعادة الأمن والسلم الدوليين، وذلك لتجاوز عائق إجماع أعضاء مجلس الأمن الخمس على قرار التدخل. وإن تحقق هذا السيناريو، فيتم تفعيل مبدأ “هايز” الذي يقضي بالاعتراف بالحكومات أو السلطات الجديدة لإقليم ما، في حال تعهدت برعاية المسؤوليات الدولية الملقاة على عاتقها.
لكن، على صعيد آخر، يكاد بارزاني يظهر وكأنه يسعى إلى إجراء الاستفتاء داخل الخط الأزرق لحدود الإقليم، أربيل السليمانية داهوك، بما يكفل له ورقة انتخابية قوية خلال الانتخابات الكردية المقررة في تشرين الأول/أكتوبر، ويضمن له حيازة قبول من الولايات المتحدة ودول الجوار لبدء الحوار مع بغداد انطلاقًا من ركيزة قوية تعود عليه بفرصة تحويل العراق إلى “دومينيون” “ولايات متحدة”، تتمع كل ولاية بصلاحيات داخلية وخارجية موسعة ومتساوية، بحيث لا يحظى إقليم بسلطة أعلى على الآخر، أو ما هو أقرب إلى هذا النظام.
في المحصلة، يعتبر الكثير من المختصين في القانون الدولي أن قواعد القانون الدولي لا يمكن اعتبارها “قانون” أصلًا، كونها نتجت عن توافق سياسي وليس شرائع قانونية، مما يجعلها قواعد مرّنة يمكن لكل طرف سياسي بلورتها وفقًا لمآربه، وإن كان فعلًا يريد بارزاني الانفصال عن العراق، فإن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة قد توفر له تحالف دولي مساند، لا سيما أن “إسرائيل” موافقة على ذلك، لكن بوضع المعادلات السياسية والقانونية والاقتصادية المحيطة بالإقليم، نرى أن سيناريو رغبة بارزاني في توسيع الصلاحيات والحقوق هو السيناريو الأكثر رجحانًا.