يبدو أن الصراع في مدينة الزور وريفها يتخذ منحى آخر ربما يزيد الوضع تأزمًا وتعقيدًا، وذلك بعد عبور قوات النظام السوري اليومين الماضيين نهر الفرات في سابقة أثارت الكثير من التساؤلات، لا سيما أنها تعتبر تجاوزًا واضحًا للخطوط الحمراء الأمريكية في هذه المدينة، فضلًا عن كونها تحديًا جديدًا للتحالف الدولي.
عبور قوات النظام السوري المدعومة روسيا وإيرانيًا نهر الفرات في الوقت الذي تتقدم فيها “قوات سوريا الديمقراطية”، ذات الأغلبية الكردية والمدعومة أمريكيًا، ربما يخلط الأوراق داخل الصراع في دير الزور، ويكشف وبصورة جلية هشاشة ما يتردد بشأن التفاهمات الروسية الأمريكية وعدم جديتها حيال المعركة في هذه المنطقة، خاصة بعد تحذيرات موسكو لواشنطن بأي مساس بقوات النظام الموجودة هناك.
خارطة الصراع في تلك المنطقة الشمالية ربما يُعاد تشكيلها مرة أخرى في ظل تصاعد الحديث مجددًا عن تفاهمات روسية تركية إيرانية من جانب، في مواجهة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر، فهل تشهد دير الزور حربًا بالوكالة تغير ملامح المشهد السوري على أرض المعركة؟
هشاشة التفاهمات الروسية الأمريكية
في تطور جديد تشهده المعركة في دير الزور، أكدت قوات النظام السوري توسيع سيطرتها على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وذلك في أعقاب شنها سلسلة من المواجهات المسلحة مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي يتخذ من بعض القرى الموجودة بمحيط المدينة نقاط تمركز رئيسية له.
مصدر عسكري تابع للنظام السوري لـ”سبوتنيك” قال إن القوات البرية مدعومة بغطاء جوي وناري تقدمت في الضفة الغربية لنهر الفرات وخاضت اشتباكات عنيفة مع مسلحي “داعش” الذين اعتمدوا على تفخيخ المنازل والطرق لإعاقة التقدم الذي أتى بالسيطرة على بلدات “المسراب” و”عتابة” و”الطريف” و”البويطية” وجبلي “الطريف” و”السليم” وجميعها تقع في الناحية الغربية من نهر الفرات، كما أحكم سيطرته في وقت سابق على قريتي “المراط” و”المظلوم”.
ومن قلب الميدان، أكد “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن عناصر “داعش” نفذت عملية انتحارية استهدف خلالها المجموعة المتقدمة من قوات النظام، والتي عبرت نهر الفرات إلى الضفاف الشرقية للمدينة، مشيرًا إلى أن الانتحاري استهدف القوات المتقدمة في محور “مراط”، الأمر الذي أسفر عن قتلى وجرحى في صفوف قوات النظام.
وفي المقابل، حققت “قوات سوريا الديمقراطية” تقدمًا ملحوظًا شمالي مدينة دير الزور، وذلك حسبما أشار المرصد الذي كشف عن سيطرتها على كامل المدينة الصناعية ومناطق أخرى، وصولًا لمسافة نحو 14 كيلومترًا من بلدة صور القريبة من الحدود الإدارية لريف دير الزور الشمالي مع ريف الحسكة الجنوبي.
هذا بخلاف ما أنجزته قبيل انتهاء الأسبوع الماضي من نجاحات على أرض المعركة في الرقة، حيث شنّت حملة مباغتة استهدفت تحصينات تنظيم “داعش” في الجبهة الشمالية للمدينة، أدت إلى استعادة السيطرة على مقرات الفرقة 17 العسكرية، التي كانت تابعة لقوات النظام قبل عام 2014.
هذه التطورات ربما تشير إلى احتمالية حدوث بعض التغيرات على أرض الميدان، لا سيما فيما يتعلق بخارطة التحالفات، وهنا بدأ الحديث عن تحالف تركي إيراني يتصاعد بصورة غير مسبوقة
وفي بيان لها أفادت قوات سوريا الديمقراطية “هذه الجبهة كانت هادئة وحصينة، نظرًا لاتساع مساحتها، وتنوع تفاصيلها ما بين أحياء سكنية ومباني مؤسسات عامة كالصوامع والمطحنة، وخلف ذلك موقع الفرقة 17 التي تعتبر بحد ذاتها موقعًا عسكريًا استراتيجيًا تم تأمينه، واستكمال تحرير محيطه”.
وفي ظل هذا التداخل تعرضت مواقع من الجيش النظامي السوري قرب نهر الفرات لقصف جوي بالصواريخ وقذائف الهاون من مناطق تسيطر عليها القوات الأمريكية الخاصة وقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما أثار حفيظة موسكو بشكل كبير.
وعلى الفور وجهت وزارة الدفاع الروسية تحذيرًا حازمًا وشديد اللهجة للقوات الأمريكية، طالبتها فيه بوقف عمليات قصف مواقع الجيش السوري في محيط نهر الفرات، مؤكدة “تم إبلاغ ممثل قيادة القوات الأمريكية في قطر، بلهجة حازمة وحاسمة، بوجوب وقف جميع محاولات قصف مواقع الجيش السوري من المناطق التي توجد فيها القوات الأمريكية الخاصة إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية شرق نهر الفرات”.
موسكو أعادت التأكيد عن طريق وزارة دفاعها على أن قوات العمليات الخاصة الروسية تقوم بمهام قتالية إلى جانب الجيش السوري في هذه المناطق المستهدفة، بهدف القضاء على مسلحي تنظيم الدولة “داعش” هناك، مما يعني أنها لا تستهدف القوات المدعومة أمريكيًا في المنطقة حسبما لوحت بعض المصادر.
ومن ثم فهناك على أرض الميدان في دير الزور معركتان منفصلتان ضد تنظيم “داعش” إحداهما مع قوات النظام المدعومة روسيًا، والأخرى مع “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكيًا، وهو ما كشف هشاشة التفاهمات بين موسكو وواشنطن والتي كانت تتحدث عن تحديد نقاط السيطرة والنفوذ في المحافظة، بحيث يتم إطلاق يد النظام وحلفائه في جنوب غرب النهر، وهي المنطقة التي يطلق عليها السكان المحليون تسمية “الشامية”، فيما تسيطر “سوريا الديمقراطية” على منطقة “الجزيرة” شمال شرق نهر الفرات.
تعزيزات تركية على الحدود السورية تعكس القلق التركي من التحركات الأمريكية
موسكو ورد الفعل
القرار المفاجئ والتصعيدي لقوات النظام المدعومة روسيًا لعبور نهر الفرات، في إطار سياسة التوسع في الشمال الشرقي السوري والتي تعد خرقًا واضحًا لخارطة النفوذ التي رسمتها واشنطن بجعل النهر خطًا فاصلًا بين مناطق سيطرة القوات الأمريكية وحلفائها من الأكراد شرق النهر، ومناطق نفوذ روسيا والقوات النظامية غربًا، جاء بعد ما كشفته وكالة “الأناضول” التركية بشأن القواعد الأمريكية السرية الـ10 في المناطق الخاضعة لتحالف “قوات سوريا الديمقراطية”، هذا بخلاف 200 جندي أمريكي و75 جنديًا فرنسيًا من القوات الخاصة منتشرين في موقع متقدم يقع شمال الرقة، مما أثار قلق كل من موسكو وأنقرة على حد سواء، ودفع الأولى إلى التحرك الاستباقي لإجهاض المخططات الأمريكية في بسط كامل نفوذها على المنطقة.
الوكالة، في تقرير خاص أعدته بهذا الصدد، كشفت أن القوات الأمريكية تستمر، منذ العام 2015، بتوسيع وجودها العسكري في المناطق الواقعة تحت سيطرة الفصيل الذي تتضمن “وحدات حماية الشعب” الكردية دعامته الرئيسية، في الشمال السوري.
التقرير أشار إلى أن واشنطن أقامت قاعدتين جويتين، إحداهما في منطقة رميلان بمحافظة الحسكة شمال شرق البلاد في أكتوبر 2015، والثانية في بلدة خراب عشق جنوب غربي مدينة كوباني (عين العرب) في محافظة حلب شمال البلاد.
الانتقاد التركي العلني لكل من إدارة ترامب، ومن قبلها إدارة أوباما، جاء نتيجة اعتمادها في المعركة ضد تنظيم الدولة على مليشيات يقودها أكراد تابعون لحزب العمال الكردستاني
هذا بالإضافة إلى 8 مواقع عسكرية أخرى، تحتضن بداخلها مجموعات من العسكريين الأمريكيين المتخصصين في عمليات القصف الجوي والمدفعي، علاوة على فريق خاص من الضباط المسؤولين عن تدريب الكوادر العسكرية الكردية، وضباط مختصين في تخطيط العمليات، وكذلك وحدات عسكرية للمشاركة في أعمال قتالية مكثفة.
الوكالة كشفت عن 3 مواقع عسكرية أمريكية في محافظة الحسكة، ومركزين لقيادة العمليات في مدينة منبج، إضافة إلى موقعين عسكريين في أراضي محافظة الرقة الشمالية، وموقع عسكري كبير في مدينة صرين شمال غربي مدينة عين العرب في محافظة حلب وتستخدم لاستقبال طائرات الشحن العسكرية.
المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” أدريان رانكين، أعرب عن استنكاره للمعلومات التي أوردها هذا التقرير الذي قال إنه يعرض قوات التحالف ضد تنظيم “داعش” لمخاطر لا لزوم لها، مضيفًا “سنشعر بقلق شديد إذا أقدم مسؤولون في بلد حليف عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي على وضع جنودنا في خطر بشكل متعمد من خلال نشر معلومات سرية”.
الغضب التركي
الكشف التركي عن المواقع السرية للقواعد العسكرية الأمريكية في سوريا جاء احتجاجًا على ما تبديه أنقرة مرارًا وتكرارًا بشأن القلق حيال دعم واشنطن المتواصل لعناصر حماية الشعب الكردية التي تمثل العصب الرئيسي لقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما خلص إليه الكاتب والمحلل روي غوتمان في تقرير له بصحيفة “ديلي بيست” الأمريكية، فضلًا عما يمثله من خرق واضح لمعاهدة حلف شمال الأطلسي من قبل أمريكا التي تدعم أحد الفصائل المعادية لإحدى الدول الأعضاء في هذا التحالف.
غوتمان كشف أن الانتقاد التركي العلني لكل من إدارة ترامب، ومن قبلها إدارة أوباما، جاء نتيجة اعتمادها في المعركة ضد تنظيم الدولة على مليشيات يقودها أكراد تابعون لحزب العمال الكردستاني، علمًا بأن كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا قد أدرجت هذا الحزب ضمن قائمة المنظمات الإرهابية.
وفي محاولة أمريكية لتجنب الصدام مع أنقرة حال تحالفها مع هذه العناصر بصورة علنية وواضحة، لجأت إلى إنشاء “القوات الديمقراطية السورية” التي تضم عنصرًا كبيرًا من المجندين العرب، لكن يقودهم ضباط من وحدات حماية الشعب، الفصيل السوري التابع لحزب العمال الكردستاني، وهو ما يجعل كلا الفصيلين كيان واحد، حسبما أشار التقرير.
المحلل الأمريكي استعرض أيضًا بعض مقتطفات البيان الختامي لاجتماع مجلس الأمن القومي التركي الذي عقد في 18 من يوليو الماضي والذي كشف أن الأسلحة التي قدمت إلى مليشيا وحدات حماية الشعب الكردية السورية، أصبحت في حوزة حزب العمال الكردستاني، مضيفًا “هذا يدل على أن كليهما نفس المنظمة”، كما أفاد أن دولًا أخرى تستخدم معيارًا مزدوجًا مع الجماعات الإرهابية، وهو إشارة واضحة إلى التحالف الأمريكي مع مليشيات وحدات حماية الشعب.
بعد عبور قوات النظام لنهر الفرات اختلطت أوراق “اللعبة” بصورة كبيرة، في مؤشر على أن صراع النفوذ في دير الزور يتصاعد، مما قد يؤدي إلى صدام بين “قوات النظام” و”سوريا الديمقراطية”
يأتي هذا في الوقت الذي تستمر تركيا في إرسال تعزيزات عسكرية لها على الحدود السورية، في أعقاب تصريحات رئاسية وحكومية بشأن احتمالية التدخل في إدلب في إطار تنسيق روسي إيراني في مواجهة “هيئة تحرير الشام” من جانب، و”قوات سوريا الديمقراطية” من جانب آخر.
“نون بوست” في تقرير له كشف أن ما يثار بشأن تدخل عسكري تركي في إدلب لا يتجاوز مرحلة التكهنات والتخمينات في ضوء المستجدات الأخيرة، إلا أنه في الوقت ذاته أماط اللثام عن تفاهمات تركية روسية في هذا الشأن، إذ لا يمكن لتركيا التحرك في سوريا إلا من خلال دعم دولي روسي أو أمريكي، وبما أن أنقرة على خلاف مع واشنطن بسبب تسليح أمريكا للأكراد في سوريا وعدم أخذ مخاوف تركيا في هذا السياق في الاعتبار، فقد وجدت في روسيا حليفًا قويًا بسبب امتلاكها ناصية القرار العسكري وقدرتها على ضبط الإيقاع والقوى التابعة لها، كما سمح لها التحالف مع موسكو بالحصول على حصة جغرافية مهمة في الشمال السوري، ومكنها ذلك أن تكون أحد الأطراف الفاعلة في الملف السوري إلى جانب إيران في محادثات أستانة السورية.
التقرير خلص إلى احتمالية تفعيل خطوات تقارب قوية بين أنقرة من جانب وطهران وموسكو من جانب آخر، من أجل الحيلولة دون زيادة نفوذ الأكراد في المنطقة الشمالية حتى ولو كان ذلك من خلال تسليم إدلب إلى النظام السوري نفسه، وهو ما قد يمثل عقبة أمام واشنطن، إذ إنها في هذه الحالة ستصبح مضطرة للتعاطي مع قوات تابعة للنظام الإيراني، كل هذا يشير إلى أن ما يحدث على أرض المعركة في الشمال السوري قد يغير ملامح الخارطة برمتها، ولعل دير الزور ستكون النموذج الأوضح لذلك.
تفاهمات تركية روسية إيرانية ربما تعيد رسم خارطة الصراع في دير الزور
تعرضت مواقع من الجيش النظامي السوري قرب نهر الفرات لقصف جوي بالصواريخ وقذائف الهاون من مناطق تسيطر عليها القوات الأمريكية الخاصة وقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما أثار حفيظة موسكو بشكل كبير
دير الزور.. هل تتغير خارطة الصراع؟
حالة من التعقيد والتأزم تشهدها ساحة الصراع في دير الزور هذه الأيام، فهناك فريقان يحاربان (ظاهريًا) ضد فريق آخر، إلا أن الفريقين لديهما أجندات مختلفة تمامًا، ويعكسان حالة من الحرب بالوكالة في المحافظة الشمالية، القوات النظامية الممثلة للفريق الروسي في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية الممثلة للفريق الأمريكي.
وبعد عبور قوات النظام لنهر الفرات اختلطت أوراق “اللعبة” بصورة كبيرة، في مؤشر على أن صراع النفوذ في دير الزور يتصاعد، مما قد يؤدي إلى صدام بين “قوات النظام” و”سوريا الديمقراطية” في حال تقدم الأخيرة أكثر باتجاه الضفة الشمالية من نهر الفرات.
هذه التطورات ربما تشير إلى احتمالية حدوث بعض التغيرات على أرض الميدان لا سيما فيما يتعلق بخارطة التحالفات، وهنا بدأ الحديث عن تحالف تركي إيراني يتصاعد بصورة غير مسبوقة، فأنقرة تهدف إلى كبح جماح العناصر الكردية التي تمثل تهديدًا صريحًا لها وتطويق نفوذها في المنطقة الشمالية، وهو ما تغض واشنطن الطرف عنه تمامًا، في مقابل تفاهمات جديدة باتت تطفو على السطح مع طهران برعاية روسية.
التقارب الروسي الإيراني التركي وما يمكن أن يتمخض عنه من تحالف عسكري على أرض الميدان من جانب، في مواجهة العناصر الكردية المدعومة من الولايات المتحدة فضلًا عن بعض القوات الأمريكية الموجودة هناك من جانب آخر، سيحول الشمال السوري إلى ساحة للحرب بالوكالة، وهو ما قد يعيد ترتيب الأوراق من جديد لا سيما حال دخول “إسرائيل” على خط الصراع ضد طهران، وهو ما قد تظهر ملامحه خلال الأيام القادمة.