ترجمة وتحرير نون بوست
يعكف علماء النفس على دراسة ظاهرة ترسخ المعلومات الكاذبة والملفقة في عقل الإنسان، إلا أن إجاباتهم في هذا الصدد كانت مُحبطة. وعلى الرغم من أن المسألة تعتبر معقدة إلى حد ما، إلا أن العلماء تمكنوا، في نهاية المطاف، من تفسير سبب تجذر المعطيات الخاطئة في ذهن الإنسان وعدم قدرته على التخلص منها. بئسا لهؤلاء الأموات الذين يرفضون البقاء في قبورهم، حيث يصرون في كل مرة على العودة إلى السطح، في حين يجوبون العالم ويسكنون عقولنا بغية خلق الخوف والقلق في ذواتنا. ولكن ما هي هذه الأرواح التي تشبه الزومبي؟
في الواقع، تمثل هذه الأرواح، ببساطة، المعلومات الخاطئة، والتصريحات التي يقع اختلاقها، والخرافات، والأكاذيب، فضلا عن الشائعات والأخبار المزيفة، التي يتم ترديدها باستمرار على الرغم من ثبوت عدم مصداقيتها. وفي هذا الصدد، أوضحت البحوث والدراسات التي أجريت حول هذه الظاهرة أن الشائعات لا يمكن التخلص منها نهائيا في هذا العالم.
في هذا السياق، قام ثلة من الباحثين في مركز دراسات علم النفس في جامعة بنسلفانيا، بتقديم تحليل جديد وشامل لهذه الظاهرة، وذلك انطلاقا من وجهة نظر علم النفس. وقد تناول الباحثون بالدراسة كيفية التخلص من الشائعات والمعلومات المغلوطة التي تسكن أذهاننا. وقد كانت الإجابة محبطة للغاية، حيث تعد “هذه المهمة شبه مستحيلة، في حين أن كل النصائح أو الأفكار التي قد يقدمها علماء النفس، لن تجدي نفعا”. على الرغم من هذه النظرة السوداوية، يشمل التحليل، الذي أورده الباحثون، معلومات قيمة تتعلق خاصة بالآلية التي ينتهجها عقل الإنسان لتحليل وتذكر مختلف المعلومات التي يتلقاها.
المعلومات التي يتجاهلها الإنسان ويحاول التخلص منها، تظل راسخة في عقله في حين تعمد إلى التأثير على تفكيره
وفقا لهؤلاء الباحثين، تعتبر ذاكرة الإنسان أكثر من مجرد جهاز بسيط للتخزين، الذي توجد فيه محتويات قديمة، في حين يقع محو كل المعلومات التي يتم تجاوزها أو التي تفقد أهميتها آليا ولا يبقى لها أي أثر. بل على العكس تماما، تبقى مختلف المعلومات عالقة في ذاكرة الإنسان. وفي كل مرة ينساق فيها الفرد وراء عملية التذكر، تحدث سلسلة من التفاعلات الداخلية في العقل. وفي إطار هذه العمليات الذهنية المعقدة، تبرز إحدى التحليلات المنطقية لآلية عمل الذاكرة، مما يسمح بتفسير مواقف الإنسان وطريقة تفكيره.
غالبا ما يتم تفنيد الشائعات التي تجوب الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، في حين يقع إثبات خلوها من الصحة بشكل قطعي بالنسبة للرأي العام. ولكن ذلك لا يمثل إلا خطوة محدودة وغير ناجعة لدحض تلك الشائعات والقضاء عليها نهائيا، وذلك وفقا لما أثبته علم النفس. وفي هذا الإطار، أورد فريق الباحثين، الذي يعمل تحت إشراف الدكتور ستيفان ليفاندوفسكي، في مجلة الذاكرة والعقل أن “الأخبار والمعلومات الكاذبة تحدث تأثيرا دائما على الذاكرة فضلا عن طريقة تفكير الإنسان، حتى لو تم لاحقا دحضها وإثبات خطأها بشكل لا لبس فيه”.
من هذا المنطلق، كشفت العديد من التجارب، التي أجريت في هذا الإطار، أن المعلومات التي يتجاهلها الإنسان ويحاول التخلص منها، تظل راسخة في عقله في حين تعمد إلى التأثير على تفكيره، بغض النظر عن حقيقة اقتناعه التام بخطئها. وفي خضم هذه التجارب، قام العلماء بعرض شهادات حول تجارب قاسية أو جرائم على مجموعة من الأشخاص، ومن ثم أفصحوا عن هوية الشخص المتسبب في ذلك. وفي مرحلة موالية، عمد العلماء إلى الكشف عن زيف هذه القصة، وتبيان براءة الشخص المتهم. في الأثناء، لاحظ الباحثون أن الرواية الأولى بقيت عالقة في أذهان الأشخاص الذين خضعوا للتجربة، على الرغم من أن جميعهم يعرفون أن تلك الرواية خالية من الصحة. ففي الحقيقة، يعجز العقل في الغالب عن التحرر من الأخبار والمعلومات الخاطئة التي تتجذر داخله.
تصحيح الشائعات يعد مهمة معقدة. ففي الغالب، لا نستطيع التحكم فيما يدور داخل العقل وترويضه حسب رغباتنا
على العموم، لا يمكن محو معلومة من الذاكرة بمجرد التأكد من عدم صحتها. ويرتبط ذلك، عادة، بظاهرة عدم قدرة الإنسان على السيطرة، بشكل كلي، على عقله والتفكير في شيء معين انطلاقا من رغبته المستقلة. وعلى ضوء هذه النتائج، خلص علماء النفس إلى أن أفضل نصيحة يمكن تقديمها، في هذا الصدد، تتمثل في ضرورة تغيير المعلومة الخاطئة عن طريق تبني الفهم الصحيح للمسألة، وليس فقط السعي للتخلص منها.
بالتالي، وبدلا من إثبات أن خبرا ما هو مجرد كذبة أو إشاعة، يجب الاطلاع على المعلومة الصائبة، وإثبات مدى صحتها من خلال اللجوء إلى الشرح والبراهين. ونتيجة لذلك، ستترسخ المعلومة الصحيحة داخل العقل، بدلا عن الشائعة. للوهلة الأولى، قد يبدو هذا الأمر سهلا، إلا أن تطبيقه معقد قليلا، وفقا لما أكده الباحثون القائمون على هذه الدراسة.
والجدير بالذكر أن علماء آخرين قد تبنوا المنحى ذاته فيما يتعلق بهذه المسألة، حيث شددوا على أنه ولمحو الشائعات من ذهن الإنسان، لا بد من تعويضها بالحقائق العلمية المثبتة. في المقابل، يبقى هذا الأمر صعبا جدا من الناحية العملية، نظرا لأن تصحيح الشائعات يعد مهمة معقدة. ففي الغالب، لا نستطيع التحكم فيما يدور داخل العقل وترويضه حسب رغباتنا. فعلى سبيل المثال، في حال اطلع الشخص على شائعة تحيل إلى أخطار ومضار تلقيح الأطفال، ومن ثم وقع دحض هذه الشائعات من قبل الأطباء وإثبات زيفها، سيعمل الأشخاص الذين يعارضون هذا الإجراء الطبي على اختلاق ذرائع جديدة لإثبات رأيهم. ونتيجة لذاك، سيظل الشخص المتلقي للشائعة يدور في حلقة مفرغة.
يتمثل الحل الوحيد حتى تسود الحقيقة وتحل محل الأكاذيب في أن تكون هذه المعلومات والأخبار والحقائق المثبتة ذات بعد عاطفي
في واقع الأمر، يكمن المشكل بالأساس في أن طريقة استيعاب الحقائق تختلف من عقل إلى آخر. وفي هذا الصدد، تمكن عالم النفس أنثوني واشبرن، من إثبات هذا العامل من خلال دراسة، صدرت مؤخرا في مجلة علم النفس والشخصية. وقد ورد في هذه الدراسة أنه “في الغالب يقع نبذ الحقائق العلمية الصحيحة من طرفين على خلاف بشأن مسألة ما، خاصة إذا كان الخلاف سياسيا. ففي هذا الإطار، يتلقى الإنسان معارضة شرسة فيما يتعلق بآرائه الأيديولوجية التي لطالما دافع عنها”.
فعلى سبيل المثال، وفي خضم الحياة السياسية الأمريكية، يتمسك أنصار كل حزب سياسي بآرائهم حتى لو تم لاحقا إثبات عدم صحتها. ففي معسكر اليمين، يأبى الأفراد أن يتقبلوا أي معلومة تساند فكرة وجود ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ. أما في معسكر اليسار، يعتمد الأشخاص مختلف الحيل والحجج، حتى يتهربوا من حقيقة أنه، ووفقا لرأي علمي مثبت، يعد تناول الأغذية المعدلة جينيا أمرا آمنا. ومن هذا المنطلق، وعندما لا تخدم المعلومات رأيا معينا، يعمد أصحاب هذا الرأي إلى التمسك بعدم مصداقيتها، مهما كانت انتماءاتهم سواء من اليمين أو اليسار.
في الأثناء، تنطبق الآليات والتفاعلات ذاتها فيما يتعلق بتصحيح الشائعات والأخبار الكاذبة. ونتيجة لذلك، يصعب تغيير نظرة الأشخاص لهذا العالم وما يشوبها من أخطاء، في ظل انتشار هذه الشائعات، وبسبب طبيعة العقل البشري في حد ذاته. على العموم، يتمثل الحل الوحيد حتى تسود الحقيقة وتحل محل الأكاذيب في أن تكون هذه المعلومات والأخبار والحقائق المثبتة ذات بعد عاطفي، حتى تصبح أكثر جاذبية وجمالية. وبالتالي، يمكن في النهاية أن تعود الأكاذيب إلى قبورها وتختفي للأبد.
المصدر: زود دويتشه تسايتونغ