ترجمة وتحرير: نون بوست
قناة بن غوريون
في السنوات العديدة الماضية، انتعش الاهتمام بقناة بن غوريون، وهي بديل مقترح لقناة السويس، وتحمل اسم الأب المؤسس لـ”إسرائيل” وتمر عبر “إسرائيل” بالقرب من غزة، مما أدى إلى خلق حافز لإخراج الفلسطينيين من غزة، وخاصة الطرف الشمالي، إلى إثارة الشكوك في أن “إسرائيل” كانت على علم مسبق بهجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر وسمحت بحدوثها.
لقد تم الآن توثيق أن “إسرائيل” تلقت تحذيرات متعددة بأن شيئًا ما على وشك الحدوث، وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن المسؤولين الإسرائيليين حصلوا على معلومات مفصلة عن خطط الهجوم قبل عام، ووجهت المخابرات المصرية تحذيرات متكررة مع اقتراب يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر من أن حدثًا كبيرًا على وشك الحدوث.
وسواء كانت هذه الحقائق تقدم دليلًا قاطعًا على أن بعض عناصر الحكومة الإسرائيلية كانوا يعرفون أن شيئاً ما كان على الطريق أم لا، فإن الاهتمام الجديد بإنشاء بديل لواحدة من أهم نقاط العبور بين الشرق والغرب في العالم يثير التساؤلات، وكما تظهر الخريطة المصاحبة، فإن نهاية القناة على البحر الأبيض المتوسط ستمتد بالقرب من الحدود الشمالية لغزة، ومن الواضح أن الوضع الذي تتعرض فيه سفن الشحن لهجمات صاروخية من شأنه أن يجعل ذلك غير مقبول، كما أثبتت هجمات الحوثيين على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
وللحصول على رأس المال الاستثماري اللازم لبناء القناة، لا بد من إنشاء وضع آمن، والخيارات الوحيدة لتحقيق ذلك هي التوصل إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين، أو إزاحتهم، وأي حكومة إسرائيلية معارضة للخيار الأول سيكون عليها أن تمارس الخيار الثاني.
يعود مفهوم بناء قناة عبر “إسرائيل” إلى سنة 1963، عندما طور مختبر لورانس ليفرمور الأمريكي سيناريو تُستخدم فيه التفجيرات النووية لحفر القناة، ولم يتم نشر الوثيقة السرية حتى سنة 1993، وكان هذا جزءً من الجنون الخاص بالوقت الذي فكرت فيه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في استخدام الأسلحة النووية في مشاريع التنقيب الضخمة، وكانت النسخة الأمريكية هي عملية “بلوشير”.
جاءت فكرة القناة الجديدة بعد تأميم الرئيس المصري جمال عبد الناصر لقناة السويس في سنة 1956، وانتزاعها من المصالح البريطانية والفرنسية، وأدى ذلك إلى حرب شاركت فيها تلك الدول مع “إسرائيل” ضد مصر، وأجبرهم تدخل الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور على التنازل، لكن القناة ظلت مغلقة أمام حركة المرور الإسرائيلية لمدة سنة.
لقد توقف مشروع قناة بن غوريون لعقود من الزمن بسبب القلق بشأن الإطلاقات الإشعاعية والمعارضة العربية، لكن آفاقًا جديدة للتعاون بين الدول العربية و”إسرائيل” ظهرت مع اتفاقيات إبراهيم في عهد إدارة ترامب، والتي شهدت تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والدول العربية بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، ومباشرة بعد التطبيع في سنة 2020، تم إبرام صفقة لشحن النفط الإماراتي عبر خط أنابيب من إيلات على ذراع البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط، لكن تم حظره لاحقًا من قبل السلطات البيئية الإسرائيلية بناءً على مخاوف بشأن تسرب النفط.
وفي اجتماع مجموعة العشرين في أيلول/سبتمبر 2023 قبل وقت قصير من هجوم حماس، تم الإعلان عن ممر الهند-الشرق الأوسط، والذي سينشئ خط مواصلات من الهند إلى أوروبا عبر شبه الجزيرة العربية من خلال دبي في الإمارات إلى ميناء حيفا، وفي كانون الأول/ديسمبر 2023، وحتى بعد أن شنت “إسرائيل” غزوها لغزة، عقدت المصالح الإماراتية والإسرائيلية اتفاقًا لإنشاء جسر بري بين دبي وحيفا.
انسداد قناة السويس يؤدي إلى الإعلان
مع وجود اتفاقيات إبراهيم في الخلفية، لفت حدث في سنة 2021 انتباهًا جديدًا إلى قناة بن غوريون، والتي سيتم حفرها هذه المرة بوسائل أكثر تقليدية، وفي أذار/مارس من ذلك العام، تعرضت سفينة حاويات ضخمة لعطل في التوجيه وجنحت في قناة السويس، مما أدى إلى توقف حركة المرور، أثار انسداد “إيفرجيفن” مخاوف بشأن كيف يمكن أن يصبح هذا الشريان الحيوي للشحن العالمي نقطة اختناق. (أنظر: أزمة السويس تسلط الضوء على هشاشة العولمة).
وفي نيسان/أبريل، أعلنت “إسرائيل” أنها ستبدأ في بناء قناة مزدوجة يمكنها التعامل مع حركة المرور في الاتجاهين في حزيران/يونيو، وبعمق 50 مترًا، أي أكثر بـ 10 أمتار من قناة السويس، وعرض 200 متر، ستكون قادرة على استيعاب أكبر السفن في العالم، وهي ميزة على قناة السويس الأكثر محدودية، وعلى عكس قناة السويس بشواطئها الرملية، فإن الجدران الصخرية من شأنها أن تقلل من متطلبات الصيانة إلى الحد الأدنى، وسيتجاوز طولها البالغ 181 ميلاً قناة السويس بحوالي الثلث. وستكون هناك حاجة لحوالي 300 ألف عامل لإكمال المشروع، مع نطاق واسع من التكاليف التي تتراوح من 16 مليار دولار إلى 55 مليار دولار، وتتوقع “إسرائيل” أن تجني حوالي 6 مليارات دولار سنويًا من رسوم العبور، مما سيؤدي إلى انخفاض كبير في إيرادات مصر، التي وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 9.4 مليارات دولار في السنة المالية 2022-2023.
وعلى الرغم من هذا الإعلان، لم يبدأ البناء، وحسبما ذكرت مجلة أوراسيا ريفيو فإن “العديد من المحللين يفسرون إعادة الاحتلال الإسرائيلي الحالي لقطاع غزة على أنه شيء كان ينتظره العديد من السياسيين الإسرائيليين من أجل إحياء مشروع قديم، وعلى الرغم من أنها لم تكن الفكرة الأصلية، إلا أنه وفقًا لرغبة بعض السياسيين الإسرائيليين، فإن آخر ميناء للقناة يمكن أن يكون في غزة، وإذا تم تدمير غزة وتسويتها بالأرض وتهجير الفلسطينيين، وهو السيناريو الذي يحدث هذا الخريف، فإن ذلك سيساعد المخططين على خفض التكاليف وتقصير مسار القناة عن طريق تحويلها إلى قطاع غزة”.
ويتزامن التركيز الجديد على قناة بن غوريون مع تجدد الاهتمام بمشروع آخر متعلق بغزة، وهو استغلال احتياطيات الغاز قبالة ساحل غزة، وقد تم تفصيل ذلك في منشور حديث؛ حيث تم اكتشاف حقل غزة البحري لأول مرة في سنة 1999، لكن مقترحات استغلاله تم حظرها لسنوات عديدة من قبل “إسرائيل”، ثم في أذار/مارس 2021، وقع صندوق الاستثمار الفلسطيني التابع للسلطة الفلسطينية، والحكومة المصرية، مذكرة تفاهم تهدف إلى تطوير الحقل، لكن ممثلي حماس أثاروا اعتراضات بشأنها.
وفي 18 حزيران/يونيو 2023، أي قبل أقل من 4 أشهر بقليل من الهجوم، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن خطط للمضي قدمًا في التنمية بالتعاون مع السلطة الفلسطينية ومصر، وأفادت أنباء عن إجراء محادثات سرية بشأن التطوير بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية في الشهر الماضي.
ويُنظر إلى السلطة الفلسطينية على نطاق واسع على أنها متواطئة في الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وهي منافس سياسي لحماس، إن التوصل إلى صفقة لاستغلال حقل غزة من شأنه أن يزيد من شعبية السلطة الفلسطينية ويقويها في مواجهة حماس، وكما هو الحال مع إحياء اقتراح القناة، فقد أثار هذا أيضًا الشكوك في أن السلطات الإسرائيلية تجاهلت عمدًا التحذيرات بشأن هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، فالتنمية تتطلب إبعاد حماس عن الطريق في غزة، ولن توافق حماس على الحفر.
تزويد “إسرائيل” بنفوذ على الشحن العالمي
ومن شأن قناة بن غوريون أن تزود “إسرائيل” بالنفوذ على واحدة من أهم نقاط الشحن في العالم؛ حيث عبرت حوالي 22 ألف سفينة قناة السويس سنة 2022، وهو ما يمثل 12 بالمائة من التجارة العالمية، وهي شريان حيوي لشحنات السلع المصنعة والحبوب والوقود الأحفوري، وتشير تقارير وكالة الطاقة الدولية إلى أن “حوالي 5 بالمائة من النفط الخام في العالم، و10 بالمائة من المنتجات النفطية، و8 بالمائة من تدفقات الغاز الطبيعي المسال المنقولة بحراً تمر عبر القناة”، وعلى الرغم من أن التدفق من الشرق إلى الغرب لا يزال مهمًا، إلا أن المنتجات الأحفورية تنتقل بشكل متزايد من حوض المحيط الأطلسي لتغذية الاقتصادات المتنامية في آسيا.
تم إغلاق قناة السويس أمام “إسرائيل” في الفترة من 1948 إلى 1950 أثناء الحرب العربية الإسرائيلية الأولى وبعدها مباشرة، ثم مرة أخرى في الفترة من 1956 إلى 1957 نتيجة للصراع الثاني. وتم إغلاقها أمام حركة المرور بالكامل بعد حرب سنة 1967 حتى تسوية سنة 1975، عندما احتلت “إسرائيل” شبه جزيرة سيناء حتى القناة، ومنذ معاهدة السلام بين “إسرائيل” ومصر سنة 1979، ظلت حركة المرور دون قيود.
لكن إغلاق سنة 2021 أثار مخاوف الجيش الأمريكي؛ حيث تظل قناة السويس نقطة عبور حيوية بالنسبة له، كما أن التحالف المتزايد بين مصر وروسيا والصين من خلال عضويتها الجديدة في مجموعة البريكس والمشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، يعطي وقفة لمؤسسة الأمن القومي الأمريكية، وكل هذا من شأنه أن يوفر الدافع لأقرب حليف لـ”إسرائيل” لرؤية إنشاء ممر مائي بديل.
فهل أدى الاهتمام المتجدد بقناة بن غوريون إلى دفع السلطات الإسرائيلية إلى غض الطرف عندما تلقت تحذيرات واضحة بشأن هجوم حماس؟ عند تحليل الطب الشرعي لقضية ما، ينظر المرء إلى الوسائل والدافع والفرصة، بين التركيز الجديد على القناة بالإضافة إلى احتياطيات الغاز البحرية التي يعود تاريخها إلى حوالي سنة 2021، من الواضح أن لدى “إسرائيل” دوافع لتطهير غزة، أو جزء كبير منها، من سكانها الفلسطينيين، حتى بما يتجاوز العناصر اليمينية التي تسعى إلى إنشاء دولة يهودية حصرية في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، وبقوتها العسكرية، كانت لديها الوسائل، وهجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر أعطتها الفرصة.
الإجراءات منذ ذلك الحين تقوي القضية، فمع الدمار الواسع النطاق الذي لحق بغزة والذي يتجاوز أي ضرورة عقلانية لمحاربة حماس، مما يجعل القطاع غير صالح للسكن فعليا، يصعب القول أن الهدف ليس طرد السكان، وفي سياق أمر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بخطة “لتقليل” عدد سكان غزة إلى “الحد الأدنى”، كما ورد في وسائل الإعلام الإسرائيلية، ودعوات وزير المالية بتسلئيل سموتريش لإخلاء غزة من السكان، تبدو النية واضحة، ومما يسلط الضوء على هذه النقطة هو عرض نتنياهو لخريطة “الشرق الأوسط الجديد” التي محت فلسطين وأظهرت “إسرائيل من النهر إلى البحر” عندما ألقى كلمة أمام الأمم المتحدة قبل أسبوعين من 7 تشرين الأول/أكتوبر.
ومن غير المرجح أن نعرف على وجه اليقين، لكن احتمال احتلال نقطة رئيسية في الشحن العالمي، مع كل النفوذ والأموال التي تأتي مع ذلك، يوفر على الأقل سبباً معقولاً للشك في أن المسؤولين الإسرائيليين كان لديهم بالفعل علم مسبق بأحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر وسمحوا بحدوث الهجمات، ولن يكون هذا سوى عامل واحد يلعب دورًا في الرغبة العامة في منطقة مطهرة عرقيًا “من النهر إلى البحر”، ولكنه عامل قوي رغم ذلك.
المصدر: كاونتر بانش