ترجمة وتحرير: نون بوست
في إحدى الليالي شديدة البرودة في دبلن الشهر الماضي، كنت متوجهًا إلى حدث ثقافي لمشاهدة فيلم عن فلسطين، يعرض معاناتنا تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ويجب أن أعترف بأنني كنت مترددًا في الحضور. كوني من غزة، شعرت أنني عشت بالفعل هذه القصة – حروب لا نهاية لها، ناجٍ من ذوي الخبرة مع ندوب لا تلين. ومع ذلك، هناك شيء ما جذبني إلى هناك.
في أيلول/ سبتمبر الماضي، غادرت غزة ـ أكبر سجن مفتوح في العالم ـ متوجهًا إلى دبلن لمتابعة دراستي. وعلى الرغم من حريتي الجسدية، إلا أن القيود النفسية ظلت قائمة.
قبل أيام فقط، أسفرت غارة إسرائيلية عن مقتل عمي عماد جودة، موظف الأمم المتحدة، بينما كان نائمًا في منزله الجديد. وكانت ابنة أخي يافا البالغة من العمر سنتين تبكي من الخوف والجوع، ولا يجد والدها الحليب أو الطعام اللازم. وأصبح منزلنا، الذي استثمرت فيه والدتي كل مدخراتها، غير صالح للسكن بسبب الغارات الإسرائيلية.
وقبل دقائق من عرض الفيلم، أرسل لي أخي الأصغر مؤمن رسالة يقول فيها إنهم نجوا من مجزرة بمعجزة ويطلب مني التزام الهدوء إذا قرأت الأخبار. حينها سألت صديقي الأيرلندي الذي كان يطمئنني: “هل هناك جحيم أعظم من هذا؟”.
بناء ملاذنا
توفي والدي رمزي بالسرطان سنة 1999، تاركًا والدتي سمية لتربية أربعة أطفال بمفردها. كانت سمسم (وهو الاسم الذي نطلقه على والدتنا) تبلغ من العمر 33 سنة فقط عندما توفي والدي وانتقل إلى مأواه الأخير. لقد شاركته بهدوء، وبهمس صادق، التزامها بالبقاء غير متزوجة وكرست حياتها له فقط.
وبعد فترة وجيزة، حصلت على وظيفة بدوام كامل كمعلمة للغة العربية لدعمنا. وفي سنة 2005، عندما انسحبت القوات الإسرائيلية من غزة، بدأت سمسم في بناء منزل حجرة حجرة. وسرعان ما تعرقل هذا الحلم بسبب الحصار الإسرائيلي الخانق على غزة سنة 2006، مما أدى إلى تضخم تكلفة مواد البناء.
وبما أن سمسم كانت المعيل الوحيد لأسرتها، فقد اضطرت إلى الاقتراض وغرقت في الكثير من الديون.
وأخيرا، في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2008، انتقلنا إلى ملاذنا، حيث أصبح لكل واحد منا غرفة وطابق أرضي للتجمعات وحفلات الشواء التي لا نهاية لها.
وبعد مرور شهرين فقط، كنت أتقدم لامتحان الرياضيات في مدرستي الإعدادية في مخيم دير البلح، وسط قطاع غزة، عندما هزت التفجيرات المدوية المدرسة. عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذا الصوت المرعب. اعتقدتُ أن يوم القيامة قد بدأ، لكنه كان إعلان الحرب الإسرائيلية الأولى على غزة.
طلب منا المعلمون الإسراع إلى الحافلة. بينما كنت في طريقي إلى المنزل، رأيت مئات القتلى في الشوارع: مشهد صادم وشيء لم أره من قبل. وفي منتصف ليل اليوم التالي، 28 كانون الأول/ ديسمبر، اتصل الجيش الإسرائيلي بجارنا المجاور، وأمره بإخلاء منزله قبل قصفه.
بدأ بالصراخ ودعا جميع الجيران للإخلاء. استيقظنا خائفين ومرتعدين. حملنا ملابس خفيفة وهربنا مع جيراننا وأطفالنا ونسائنا وشيوخنا على حد سواء. وأجبرنا صوت الطائرات الحربية الإسرائيلية على الاستلقاء تحت الجدار. وبعد لحظات أطلقوا صاروخين. كانت الأرض ترتجف، وملأ دخان خانق كثيف الهواء. وكانت السماء تمطر شظايا وحجارة.
وبعد وقت قصير، ركضنا مرة أخرى، تحت أصوات طائرات التجسس الإسرائيلية، حتى وصلنا إلى منزل جدي، على بعد 15 دقيقة سيرًا على الأقدام. وطلب مني جدي علي، الذي طردته مليشيا صهيونية مسلحة قسرًا حافي القدمين سنة 1948، تاركًا وراءه كل ممتلكاته، أن أنام بجانبه.
وقال لي وهو يغطيني ببطانيته: “كنت يتيمًا في عمرك تقريبًا عندما اضطررت إلى مغادرة منزلي ورأيت مئات الأشخاص يقتلون على يد الصهاينة. لا تقلق يا حبيبي، كل شيء سيكون على ما يرام”.
كم هو مثير للسخرية أن أتقاسم نفس المصير مع جدي، وأجد العزاء تحت نفس الغطاء، وأعاني من نفس المحنة رغم فارق التوقيت لأكثر من 60 سنة.
النزوح المرير
في صباح اليوم التالي، عدنا لتفقد منزلنا، لكننا لم نجد سوى الأنقاض. فأغمي على والدتي على الفور. فقام عمي، وهو ممرض، بإعادتها لوعيها وتوجهنا إلى منزله الذي يبعد مسافة 10 دقائق بالسيارة.
كان عمري 13 سنة فقط، عندما سألتُ جدي نفس السؤال الذي يطرحه جميع الأطفال الفلسطينيين اليوم: لماذا بحق الجحيم يجب أن أعاني من كل هذا؟
وقال بنبرة خانقة: “إنه الاحتلال يا حبيبي”، لكنني لم أفهم.
ولكن بعد 15 سنة، وجدت الجواب الذي طال انتظاره: “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد الأطفال والنساء الفلسطينيين وقصف المباني المدنية متى أرادت، بغض النظر عن عدد القتلى”.
كلما قرأتُ تصريحات الأمم المتحدة والولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية، كلما كانت الإجابة “مقنعة”.
بعد الحرب، تحملنا سنتين من النزوح المرير. إن التعويضات الحكومية التي تلقيناها كانت أقل بكثير من المبلغ المطلوب لإعادة بناء منزلنا.
ومع المزيد من الديون والقروض، وبعد سنتين مرهقتين، قامت والدتي ببناء ملاذنا مرة أخرى بلا كلل: طابقين مفروشين، ولكل منا غرفته الخاصة. وكان الانتقال إلى منزلنا الجديد بمثابة انتصار حلو ومر، مشوب بذكريات صراعاتنا الماضية.
لكن الفرحة في غزة هشة. عندما شنت “إسرائيل” حربها الثانية على غزة سنة 2012، أخلينا منزلنا لتجنب تكرار مصيرنا السابق. وخلال أيام الحرب الثمانية، كنا خائفين حتى الموت بشأن منزلنا.
لكن في اليوم الأخير، تم الإعلان عن دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ ليلًا. لقد ملأتنا أخبار وقف إطلاق النار بالأمل، لكنه تحطم في الساعة الأخيرة مع تساقط القنابل مرة أخرى وتسوية منزلنا بالأرض قبل ساعات من وقف إطلاق النار.
كان الدمار مطلقًا، والحسرة محفورة في نفوسنا. وجاءت اللحظة الأكثر إيلامًا عندما عاد الجميع إلى ديارهم، ولكن أولئك الذين فقدوا أحباءهم ومنازلهم ظلوا مشردين.
ذكريات عزيزة
أتذكر والدتي، المنهكة، بالكاد تتحدث أو تأكل لعدة أيام. وكان عزاءها الوحيد، ومرساتها، هو الإيمان بالله. “الحمد لله، سمح الله لهم بما فعلوا بنا!” كانت تقول مرارًا وتكرارًا.
مرة أخرى، استغرق الأمر منا سنتين لإعادة بناء المنزل، مع المزيد من القروض والديون. وكانت والدتي لا تزال المعيل الوحيد لنا، وبالتالي تحملت ثقل القروض والديون الإضافية المتراكمة من المنزل الأول.
وبعد سنوات قليلة تخرجنا من الجامعات وبدأنا العمل. ومثل الغالبية العظمى من سكان غزة، كنا نتقاضى أجورًا منخفضة ولكننا كنا محظوظين أيضًا بالعثور على وظائف لأن معدل البطالة كان أكثر من 50 بالمائة.
ولحسن الحظ، تمكنّا من سداد ديوننا تدريجيًا وتزيين منزلنا. وأصبحت الحديقة الصغيرة ملاذي، مكانًا للاسترخاء والعمل. كانت والدتي تحب قضاء الوقت هناك، وتستمتع بالبرتقال وقهوتها التركية.
كلما كانت منزعجة، كنت أعرف التركيبة السحرية: فنجان قهوة لذيذ ومقعد في الحديقة بجانب نباتات النعناع العطرة. لقد كان مفتاحي لتهدئتها وإصلاح أي خلاف.
وفي سنة 2022، حل الفرح بولادة يافا، ابنة أخي، التي سُميت على اسم مدينة يافا الحبيبة لجدي، والتي طُرد منها قسرًا سنة 1948 مع 750 ألف فلسطيني على يد الصهاينة المسلحين.
وللأسف، توفي سنة 2010، في الذكرى الثانية والستين للنكبة. وتمنيت أن يرى ولاءنا الثابت ليافا، تمامًا كما أظهرته أمي لأبي.
ثابتون على قضيتنا
عندما اندلعت حرب الإبادة الجماعية المستمرة على غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، قامت عائلتي بإخلاء منزلنا على الفور. وبعد أن نزحت عائلتي عدة مرات من مكان إلى آخر، وجدت عائلتي أخيرًا مأوى في خيمة في رفح، بعد أن نجت من ثلاث مذابح.
ومرة أخرى، للمرة الثالثة، قصف الجيش الإسرائيلي منزل جيراننا قبل شهرين، مما أسفر عن مقتل 10 منهم وجعل منزلنا غير صالح للسكن مرة أخرى، وجاء ذلك بعد أن فقد شقيقاي وظيفتيهما.
انهارت سمسم لكنها تشبثت بعزاء بقائنا، بغض النظر عن الظروف اللاإنسانية التي تضطر عائلتي للعيش فيها.
ومثل العديد من الفلسطينيين، لجأت إلى إطلاق حملة تمويل جماعي على موقع “جو فوند مي” لإعادة بناء منزلنا مرة أخرى بمجرد انتهاء الحرب.
وعندما ظننا أن الأسوأ قد مر، قام الجيش الإسرائيلي المتمركز في حينا باجتياح منزلنا، ودمر شقة سمسم التي كانت قد تضررت بالفعل، وكتب بأحمر الشفاه على المرآة التي بقيت في منزلنا: “شعب إسرائيل على قيد الحياة”.
ومع ذلك، كما علمتنا سمسم، ليس لدينا سوى خيار واحد: أن نبقى مخلصين وثابتين لقضيتنا، كما ظلت مكرسة نفسها ومخلصة لوالدي، وأن نعيد بناء منزلنا مرة أخرى.
رغم أن الفيلم كان مثيرًا للاهتمام بالنسبة للأجانب، إلا أنني كنت على حق: فهو لم يقدم لي أي شيء جديد. ولن يكون الأمر كذلك بالنسبة لمعظم الفلسطينيين، الناجين من ذوي الخبرة الذين عانوا من الاحتلال الأطول والأكثر وحشية في التاريخ الحديث
المصدر: ميدل إيست آي